البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

العلمانية: الأساس الأعمق للاستعمار حوار مع الدكتور حميد بارسانيا،‌ أستاذ في الحوزة العلميّة

الباحث :  حاوره السيد محسن الموسوي
اسم المجلة :  الاستعمار
العدد :  3
السنة :  ربيع _ 2025 م
تاريخ إضافة البحث :  April / 13 / 2025
عدد زيارات البحث :  112
تحميل  ( 470.612 KB )
إنّ الاستعمار لا يُعَدّ مجرّد ظاهرةٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ فحسب، بل يمكن عدّهُ أيضًا ظاهرةً ثقافيّة ومعرفيّة لها تأثيراتٌ عميقةٌ في العالم الإسلامي. في هذه المقابلة، نجري حوارًا مع الأستاذ الدكتور حميد پارسانيا، أستاذ الفلسفة وعلم الاجتماع، وأحد أبرز المفكّرين في مجال الدراسات الثقافيّة والحضاريّة، لنستعرض كيفيّة تأثير الاستعمار الغربي في المنظومة المعرفيّة والثقافيّة في العالم الإسلامي. فقد قدّم الدكتور پارسانيا من خلال مؤلّفاته العديدة في الفلسفة الإسلاميّة وعلم اجتماع المعرفة ونقد الحداثة، رؤىً جديدةً في هذا الحقل. ويناقش هذا الحوار الخصائص المميّزة للاستعمار الحديث، والتغيّرات الثقافيّة والمعرفيّة الناجمة عنه، إضافةً إلى سُبُل مواجهة العالم الإسلامي لهذه الظاهرة.
برأيكم، ما أهميّة إعادة قراءة تجربة الاستعمار بالنسبة إلينا في عالم اليوم؟ قد يَخطر في البال ابتداءً أنّ الاستعمار ظاهرةٌ تاريخيّةٌ، وأنّ ما نشهده في أيّامنا الحاضرة هو امتدادٌ لبعض آثاره التاريخية فحسب. ولكن من زاويةٍ أخرى، قد يكون الاستعمار حيًّا بأشكالٍ جديدةٍ في عصرنا الراهن. فما رأيكم في حاجة العالم الإسلامي إلى إعادة قراءة مفهوم الاستعمار، سواء بصورته التاريخية أو بأشكاله المستجدّة؟ هل يعدّ هذا الأمر ضرورةً حيويّةً وأساسيّة، أم يمثّل قضيّةً استراتيجيّةً بالدرجة الأولى؟
سؤال آخر مهم: هل للاستعمار أسسٌ فلسفيّة ومعرفيّة خاصةٌ به؟ بمعنى آخر، هل يمكن أنْ تكون أفكار عصر التنوير والأسس الفلسفيّة للغرب الحديث بمنزلة قاعدةٍ فكريّةٍ للاستعمار؟ أم أنّ الاستعمار مجرّد ظاهرةٍ اقتصاديّةٍ واجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ بحتة؟ وهل يمكن النظر إلى الاستعمار بوصفه امتدادًا لأفكارٍ من قبيل ما طرحه كانط وهيغل وديكارت؟ وأيّ أسسٍ ونظريّاتٍ في الفلسفة السياسيّة تشكّل الخلفيّة الداعمة لهذه الظاهرة؟

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين. الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّدٍ وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين المعصومين.
إنّ قضيّة الاستعمار تعود في الغالب إلى القرن التاسع عشر والعشرين، أي إنّ لها تاريخًا يمتدّ قرابة ثلاثة قرون. وفي البلدان الإسلاميّة، لا نجد تقريبًا بلدًا لم يواجه ظاهرة الاستعمار مواجهةً مباشرة، وغالبًا عسكريّة. ففي شمال أفريقيا مثلًا، كانت مصر من أوائل البلدان التي دخلها نابليون. ثمّ بعد الحربين العالميّتين الأولى والثانية، تفكّكت الدولة العثمانيّة، وشهدت تلك المناطق تقسيمًا جغرافيًّا، فتشكّلت دولٌ عديدة.

وفي العادة، حين تمتلك البلدانُ تاريخًا عريقًا، تكون حدودُها محدّدةً بأسبابٍ طبيعيّة، تارةً قد يكون بحرًا، وتارةً نهرًا أو أيّ حاجزٍ طبيعيّ آخر. غير أنّ الحدود التي تشكّلت في البلدان الإسلاميّة بعد مرحلة الاستعمار، يبدو بعضها خطوطًا مستقيمةً تمامًا، وقد رُسمت على طاولات المفاوضات في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لا سيّما بعد سقوط الدولة العثمانيّة. ما أودّ قوله هو أنّ الكثير من واقع التعدّديّة الحاليّة في الجغرافيا السياسيّة للعالم الإسلامي إنّما هو نتاجٌ مباشرٌ لحضور الاستعمار آنذاك.
ولذا، من حيث المواجهة الاستعماريّة، فإنّ لنا ثلاثة قرونٍ من الصراع السياسيّ والعسكري مع الاستعمار. في البداية، كان البرتغاليّون والهولنديّون وغيرهم من القوى الاستعماريّة أوّل من تواجد في هذه البلدان. ولو ألقينا نظرةً على تاريخ إندونيسيا، لوجدناها من أقدم المناطق التي خضعت للاحتلال. أمّا في إيران، فيرجع الأمر إلى عصر الصفويّة، أي قبل الحقبة القاجاريّة، حيث كان البرتغاليّون يتقدّمون للاستيلاء على بندر عباس. وكانت الحرب مع البرتغاليين من أوائل الحروب الاستعماريّة التي واجهتها إيران.
بيد أنّ ظهور هذه الظاهرة الملموس في بلداننا يعود إلى هذه الحقبة، لكنّ تكوّنها بدأ قبل ذلك بمئتين عام تقريبًا، أي منذ عصر النهضة الأوروبيّة وما بعدها. فمن القرن الخامس عشر والسادس عشر – في تصوّري – بدأت بوادر هذه الظاهرة بالظهور، واستمرّت حتى القرنين السابع عشر والثامن عشر حين استقرّت وخرجت من مواطن نشأتها لتتحوّل إلى استعمارٍ فعليّ بدأ يتباين ويبرز على الصعيد العسكري، ابتداءً من القرن الثامن عشر فصاعدًا.

وإذا نظرنا الآن، لا نجد ظاهرة الاستعمار مقتصرةً على البلدان الإسلاميّة وحدها، ولا على منطقةٍ بعينها؛ بل هي ظاهرةٌ عالمية. فلا يكاد يخلو مكانٌ في العالم، ولا ثقافةٌ أو تاريخٌ، من شكلٍ من أشكال المواجهة مع هذه الظاهرة.
حسنًا، وبصورةٍ أكثر تحديدًا، لدينا تجربة العالم الإسلاميّ. فعندما واجهنا الاستعمار، كان في العالم الإسلاميّ ثلاث قوى رئيسة: الغوركانيون في الهند (وهم امتدادٌ للتيموريين)، وإيران، ثمّ الخلافة العثمانية. وقد كانت بين هذه القوى الثلاث بعض النزاعات داخل نطاق العالم الإسلاميّ نفسه. غير أنّ الاستعمار ظاهرةٌ وافدةٌ من خارج هذا العالم. فلا يمكننا عدّ الحروب السابقة حروبًا استعماريّة، وإنْ كانت الأراضي والمناطق والحدود تتغير وتتبدّل. فهذه الظاهرة السياسيّة والعسكريّة الخارجيّة بالنسبة إلى العالم الإسلاميّ ارتبطت تحديدًا بالعالم الغربيّ.
مع ذلك، سبق أنْ واجهنا العالم الغربيّ قبل العصر الحديث، وذلك إبّان الحروب الصليبيّة التي استمرّت قرنًا أو قرنين. وقد رأى بعض الباحثين أنّ تلك الحروب ذاتها كانت من أسباب النهضة الغربيّة، إذ أحدثت تحوّلًا في الغرب، ثم عاد الغرب بعد عصر النهضة ليهاجم ويخوض حروبًا جديدةً بشكلٍ استعماريّ.
إضافةً إلى ذلك، شهد العالم الإسلاميّ عبر تاريخه مواجهاتٍ عسكريّةً مع مناطق أخرى وغير المسلمين أيضًا. ولكن تختلف تلك المواجهات عمّا نسمّيه اليوم بالاستعمار. فهجوم المغول يعدّ أبرز مثالٍ على ذلك؛ إذ لم يكونوا مسلمين (كانوا شَمَنِيين)، وجاؤوا حتى سيطروا على بغداد. وكانت قوتهم العسكرية فائقة، ما يجعلها من حيث القوة أقرب إلى المقارنة بالاستعمار العسكري. ولكن ما نطلق عليه اليوم اسم (الاستعمار) يختلف عن تلك المواجهات السابقة. قد توجد أوجه تشابه من حيث الأبعاد السياسيّة والعسكريّة، غير أنّ ثمّة فروقًا كبيرةً، وهنالك مستوياتٌ لم تكن موجودةً في المواجهات السابقة.
ربما كانت أهمّ مواجهة هي تلك التي خاضها المغول بعدما احتلّوا شرق العالم الإسلاميّ، ثمّ وصلوا إلى قلبه، أي بغداد، حيث مركز الخلافة. وبعدهم جاء تيمور (تيمورلنك)، فتقدّم إلى مصر أيضًا. وتُذكر رواية لقاء ابن خلدون بتيمور في بعض المصادر التاريخيّة، وربما كان ابن خلدون يمثّل جهةً فاطميّةً، وقد دار بينهم حوارٌ ما.

أمّا الاختلاف المهمّ فيتمثّل في أنّ هذه الهجمات، بالرغم من انتصاراتها، كانت سياسيّةً وعسكريّةً في المقام الأول، ولم تتوغّل في عمقٍ آخر؛ إذ سرعان ما كانت قوّة العالم الإسلاميّ الثقافيّة تتغلّب عليهم وتدمجهم في داخلها. وهذا ما حصل مع المغول؛ فقد كانوا شَمَنِيين، ثمّ أسلموا بعد مجيئهم إلى هذه الديار. فأولجايتو مثلًا هو ابن هلاكو الذي استولى على بغداد في أوج سلطانه، وكان أبوه غير مسلمٍ وأمّه مسيحيّة. ولكنّه صار يُدعى سلطان محمّد خدابنده، أي عبد الله. وهذه حصيلة ما جرى؛ إذ بعد جيلٍ واحدٍ من استقرارهم، باتوا جزءًا من النسيج الإسلاميّ.
كان چنگيز وتولوي وأبناؤهما حتى بلغوا الجيل الثاني، هم من أدخلوا اللغة التركيّة إلى العالم الإسلامي. إنّ دخول الإسلام إلى منطقة إيران، نظرًا لطابعها الثقافيّ، لم يكن يعوقه اختلافٌ لغويّ أو عرقيّ أو جغرافيّ. فالإسلام حينما كان يأتي، لم يبدِ حساسيةً إزاء هذه الأمور؛ إذ لم يكن خطابه جغرافيًا محدَّدًا، بل كان موجّهًا إلى «الناس». وكلّ هذه الألوان والألسِنة هي من خلق الله، وكانت فرصةً للتعارف. ولم يكن أحدٌ يلام على لغته. وهكذا بقيت اللغة الفارسيّة في إيران. وإنْ حدث تغييرٌ لغويّ في بعض المناطق، فلم يكن ذلك بسبب الإسلام نفسِه، بل لأسبابٍ أخرى. إذ لو كان هذا نتيجةً لذات الإسلام، لكان أثره واحدًا في كلّ مكان. فقد جاء الإسلام من غير أنْ يحمل أيَّ حساسيةٍ تُجاه اللغة أو العرق.

أريد أنْ أشير إلى أنّ غزو المغول كان طابعه سياسيًّا وعسكريًّا فحسب، وكان الجانب العسكري فيه أبرز من السياسيّ، إذ كان (السَّيف) هو الأساس. ولم يقتصر الأمر على إيران في جذْب المغول إلى ثقافتها وتحوّلهم إلى رافدٍ لها، فقد وجدنا أبرز الآثار الفنيّة في تاريخ العالم الإسلامي تعود إلى عصر المغول؛ وبذلك سخّرهم الإسلام لخدمته. فمثلًا، مسجد (گوهرشاد) وما يشابهه في مناطق خراسان الكبرى يعود إلى تلك الفترة. وبعد أنْ استمرّ وجودهم، أسلم الجيل الثاني منهم جميعًا. وحيثما ذهب المغول - في الهند أو الصين مثلًا - حدث الأمر نفسه تقريبًا، إذ اكتسبوا من ثقافة تلك المناطق. بمعنى أنّه لم يكن الأمر سيطرة السيف فقط.

والسبب هو أنّه من الناحية التاريخيّة كانت هناك تقريبًا ثقافةٌ مشتركةٌ بين مختلف الأقوام، وأسُسٌ مشتركةٌ عديدة، ولم تكن الفوارق التي تميز هذه الجماعة الغازية تمتلك من القوّة ما يفوق ثقافة العالم الإسلامي، ولا حتى الثقافة السائدة في الصين؛ إذ كانت القوّة العسكريّة تأتي لتفتح المناطق، لكنّها لم تكن تملك القدرة الكافية على مواجَهَةٍ ثقافيّة. فلم يكن لدَى ذاك الغزو عقيدةٌ ثقافيّةٌ متفوّقةٌ أو قاعدةٌ حضاريّةٌ راسخة. وربما لم يكن لدَى بعضهم أساسٌ ثقافيٌّ جديدٌ على الإطلاق. فمثلًا، عندما غزا نادر شاه الهند ثم عاد، وجدنا ثقافةً واحدة، وسكّانًا مسلمين، وكان المسلمون مستقرّين هناك أصلًا. فلم يتغير سوى السلطة السياسيّة.
كانت الحروب بين إيران والدولة العثمانيّة ذات طابعٍ ثقافيّ أيضًا، إذ برزت فيها قضيّة المذهب الشيعيّ والسنّي. ومع ذلك، فإنّ الشيعة والسنّة كانوا جزءًا من هويّةٍ ثقافيّةٍ واحدة، وإنْ وُجدت خلافاتٌ في إطار تلك الثقافة. فلو حلّ مثلًا مكان القزلباش جماعةٌ كآ‌ق قويونلو، واستولت على المنطقة، لمّا كانت الأوضاع الثقافيّة في إيران اليوم على هيئتها الحالية، بل لربّما غلب عليها الطابع السنّي. هذا التأثير كان واردًا، لكنّ بروز التشيّع أو التسنّن من هذا القبيل لا يخلق تمايزًا أو اختلافًا من قبيل ما أفرزته الحضارة الحديثة.
من هنا، أقول إنّ ما نسمّيه اليوم (ظاهرة الاستعمار) تجلّى أوّل الأمر بصورةٍ عسكريّةٍ وسياسيّة، وقد شمل العالم الإسلاميّ كلَّه. وليس ثمّة بلدٌ إسلاميّ إلّا خضع للاستعمار العسكريّ المباشر، باستثناء إيران حيث لم يتمكّن الاستعمار من دخولها عسكريًّا على نحوٍ مباشر. صحيحٌ أنّ إيران لم تتلقَّ هزيمةً صريحةً في الحربين العالميّتين بحيث تُحتَلّ أو تُقسَّم، ولكنّها خضعت - رغم ذلك - لنفوذٍ كبير.
في العصر الصفويّ، لم يكن الفارق العسكريّ بيننا وبين أوروبا شاسعًا؛ فلدى الجانبين كان استخدام المدافع والبارود مشتركًا، وكانت أساليب القتال متقاربة. لكن مع مرور الزمن واتّساع الفجوة التقنيّة، اتّضح التفاوت. ففي حروب إيران وروسيا مثلًا، تساءل عباس ميرزا: «من أنتم؟ وهل شمسكم هذه مختلفة؟ إنّ ربّنا ربّكم نفسه!». ثم أُرسلت مجموعةٌ من الجواسيس للتعرّف إلى الروس. وكان السُّفراء - عادةً - أوّل مَن يرصدون ما وصل إليه الغرب في مجالات التقدّم التقنيّ. وهكذا اتّضح أنّ الأمر لا يقتصر على تفوّقٍ عسكريّ أو سياسيّ فقط، بل إنّ التمكن التقنيّ هو الذي منحهم اليد العليا في الحروب. ومن أجل مواجهة ذلك، لجأوا إلى إرسال الطلّاب للخارج، وإنشاء دار الفنون، والاقتباس من هذه التقنية.
أمّا الدكتور عبد الهادي الحائري، فكان تخصّصه في التاريخ، وقد اهتمّ بموضوع الاستعمار. في كتابه (دو رويه تمدن غرب) (وجها الحضارة الغربيّة)، يرى أنّه قد حلّ هذه المسألة عندما ربط الجانب العسكريّ بالجانب الصناعيّ والتكنولوجيّ. فقد رأى أنّ الاستعمار يحمل جانبًا خطيرًا متمثّلًا في هيمنته العسكريّة، لكنّه يمتلك جانبًا آخر مفيدًا هو التكنولوجيا؛ لذا لا بدّ، بحسب رأيه، من الاستفادة من ذلك الجانب التكنولوجيّ، حتى إذا كنّا نرغب في ردّ الشقّ الآخر من الاستعمار، فإنّ وسيلتنا هي التكنولوجيا نفسها. وهنا نجد بُعدًا يتجاوز مجرّد المواجهة العسكريّة والسياسيّة في تناول قضيّة الاستعمار.
لا يمكن أنْ نقول مثلًا إنّ المغول كانوا يمتلكون تكنولوجيًا تفوق ما كان لدينا؛ فلم يكن الأمر كذلك. غير أنّنا صرنا نرى أهميّة التكنولوجيا وضرورة الاستفادة منها. وهذا يعَدّ خطوةً جديدة في تقدّم المسألة. ولأنّ الاستعمار لم يكن قضيّةً تخصّ إيران وحدها، بل انخرطت فيه جميع دول العالم، فقد نشأ وضعٌ شبيه غزو المغول الذين سعوا للاستيلاء على العالم بأسره؛ لكنّ تميزهم أو تفوّقهم لم يقتصر على القوّة العسكريّة، بل امتلكوا عناصر أخرى أيضًا.

وهكذا، أوّلُ ما واجهَه الناس في ظاهرة الاستعمار كان وجهها العسكري. ثمّ، بعدما تساءلوا عمّا لدى الخصم، واجهوا تقنيته، وكانت التكنولوجيا ظاهرةً حديثة. فأرادوا أنْ ينقلوها إليهم. وهذا ما دأبت عليه البلدان الخاضعة للاستعمار، فسعَت إلى استقدام تلك التكنولوجيا. وبالفعل، يُعَدّ القرن العشرون قرن الثورات التحرّريّة والمقاومة ضدّ الاستعمار، حيث نشأت في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية حركاتٌ تهدف إلى طرد المستعمِرين. وفي أمريكا اللاتينيّة، بعد ظهـور الماركسيّة وانقسام العالم إلى قطبين، كانت الدول الواقعة تحت الاستعمار الغربيّ تتلقّى الدعم من المعسكر الشرقيّ المناوئ للغرب. وهكذا تشكل عالمٌ ثنائيّ القطبية في القرن العشرين، منذ مطلع ذلك القرن عند وقوع الثورة البلشفيّة سنة 1917، حين تمكن البلاشفة من السلطة واستمرّ نفوذهم لنحو سبعين أو ثمانين عامًا، حتى العقدين الأخيرين من ذلك القرن.
وقد استغلّت البلدان الخاضعة للسيطرة العسكريّة هذا الواقع، فلجأت - تبعًا لهويّة مستعمرها - إلى خصمه. وبما أنّ الاستعمار كان - في الأغلب - أوروبيًّا، فقد اختارت كثيرٌ منها اللجوء إلى روسيا. أمّا إنْ كانت روسيا قد بسطت يدها في مكانٍ ما، وأراد أولئك تلقي العون ضدّها، فقد كانوا يميلون آنذاك إلى الجانب الغربيّ.

خلاصة كلامي هي أنّ المواجهات الأولى مع الاستعمار كانت ذات طابعٍ عسكريّ، وقد برزت هذه المواجهات العسكريّة في القرن التاسع عشر، وتشكّلت مقاوماتٌ كانت هي أيضًا عسكريّة. بيد أنّ المسألة المهمّة تكمن في أنّ هذه البلدان، حين سعت للتحرّر عسكريًّا من الاستعمار، اضطُرّت للاستعانة بقطبٍ آخر بسبب انقسام الغرب نفسه إلى قطبين سياسيّين. فلو نظرنا مثلًا إلى فيتنام أو الصين أو تجربة كاسترو و(تشي غيفارا)، نجدهم وقفوا في وجه الولايات المتّحدة والغرب، فصاروا ضمن إطار المعسكر الشرقي. وفي الثورات السياسيّة، حتى في بعدها السياسيّ، لجأوا إلى قوىً حديثة، وكانت الأيديولوجيّات التي اعتمدوا عليها في نضالهم أيديولوجياتٍ حديثة. وبما أنّ معظم الاستعمار كان بيد الدول الغربيّة، بينما وقف المعسكر الشرقي في مواجهة الغرب، فقد آلت تلك الدول الثائرة إلى أحضان الشرق وأصبحت ماركسيّة، فيما بقي الآخرون على الليبراليّة. وبالفعل، حين كانوا يطردون المستعمِرين، وجدوا أنفسهم -عند عودتهم وتقييم الوضع- مضطرّين لمدّ أيديهم إلى القوّة نفسها التي حاربوها. فعبّروا عن ذلك بقولهم: (طردناهم من الباب فعادوا من النافذة)، إذ اضطرّوا للرجوع إليهم.

في الخطوة الأولى، جرى طرد المستعمِر بمساعدة قوّةٍ سياسيّةٍ وعسكريّةٍ حديثةٍ أخرى. وفي الخطوة الثانية، من أجل إدارة شؤون الدولة، عادوا مجدّدًا إلى الأساليب والحلول التي كان يمتلكها المستعمر الغربيّ. أي إنّ هذه المقاومة كانت مجرّد منافسةٍ سياسيّة، ومع ذلك، كانت الكفّة راجحةً لصالح المعسكر الغربيّ الذي أعدّ خططه للعودة إلى المنطقة، فعاد فعليًّا. وفي الجزائر مثلًا، وقعت ثورة تحرّريّة، وكان ظاهرها دينيًّا وإسلاميًّا، لكنّ الجيل التالي للدولة الوليدة استقدم من جديد خبراء وأفكارًا غربيّة. وهنا يُطرَح السؤال: ماذا فعل الاستعمار بعد الثورات، سواء بصبغة ماركسيّة أم في العالم الإسلاميّ؟ نرى أنّ إحدى نتائج الحرب العالميّة الثانية وسطوة بريطانيا تمثّلت في قيام إسرائيل، في حين أنّ القدس هي القبلة الأولى للمسلمين من الناحية الهويّاتيّة والثقافيّة. وعندما أراد المسلمون مجابهة الاستعمار، فقد كان ذلك - في الغالب - بأطرٍ فكريّةٍ حديثة، وكان أبرزها التيّارات اليساريّة والماركسيّة؛ مثل نايف حواتمة وجورج حبش ومختلف الفصائل اليساريّة. وهناك أيضًا من تبنّى القوميّة، أو ما يُعرَف بالناصريّة والقوميّة العربيّة. فحزب البعث - سواءٌ في العراق أم سوريا- اعتمد القوميّة، وكذلك حركة فتح التي كانت تمثّل قوميّةً عربيّة. وبالتالي، من أجل الدفاع عن أحد أهمّ الرموز الدينيّة، لجأوا إلى أيديولوجيّاتٍ غير دينيّة. هذا هو المشهد.
أودّ أن أقول إنّه يجب أنْ نعي أنّ الاستعمار لم يقتصر على البُعد العسكريّ والسياسيّ وحسب، بل هنالك جانبٌ آخر مغفول، ألا وهو الجانب الثقافيّ. بمعنى آخر، لم تكن المسألة محصورةً في التكنولوجيا وحدها. فهذه التكنولوجيا، المتمثّلة في العلوم التطبيقيّة والهندسيّة، ترتكز على مستوى سابقٍ يتمثّل في العلوم الأساسيّة، وهذا المستوى نفسه يقوم على مرتكزاتٍ ونظريّاتٍ فلسفيّة. جميع هذه المكوّنات متداخلةٌ فيما بينها. وعليه، حينما نحاول جلب التكنولوجيا الغربيّة، لا بدّ من الاطّلاع على العلوم الهندسيّة والفنيّة لديهم، ثمّ المضيّ خطوةً أخرى لنجد أنّ هذه العلوم الهندسيّة والفعّالة تستند بدورها إلى نظريّاتٍ في العلوم الأساسيّة. وهكذا، تصبح الطبيعة – مثلًا في مناهجهم ومقرّراتهم – ذات مدلولٍ جديد، يختلف تمامًا عمّا نعرفه في الفكر الإسلاميّ والحِكميّ، إذ تبرز مفاهيم مختلفة. بهذه الصورة وصلنا في القرن العشرين إلى إدراك أنّ الاستعمار لا يقتصر على قوّته السياسيّة أو العسكريّة، بل يحمل في طيّاته بُعدًا آخر. ومن اللافت أنّنا في سعيّنا إلى مقاومة هذا البُعد الأوّل، كنا نلجأ إلى المستوى الآخر من منظومة المستعمِر نفسه، أي إنّنا نحاربه في الظاهر ونعتمد على أدواته الفكريّة في العمق. في الحقيقة، هذا ما زاد الاستعمار رسوخًا في المستوى النظريّ.

إذًا، بخلاف رأي أمثال المغفور له الدكتور حائري الذي قسّم الاستعمار إلى طبقةٍ عسكريّة/سياسيّة وأخرى تكنولوجيّة، فإنّ المسألة تبدو أعمق من ذلك. فهنالك أبعادٌ فلسفيّةٌ وثقافيّةٌ أعمق ظلّت غائبةً في القرن العشرين.
بناءً على النقطة المهمّة التي تفضّلتم بها، وهي أنّ المقاومين كانوا يلجؤون في نضالهم إلى مرجعيّاتٍ أيديولوجيّة غربيّة (منها ما يميل إلى اليسار والشيوعيّة)؛ هل يمكن القول إنّ الاستقلال الذي نالته تلك البلدان والمستعمَرات كان في معظمه مجرّد وهمٍ لا أكثر؟

من الناحية السياسيّة، تحقّق استقلالٌ بالفعل؛ فقد قدّمت الشعوب تضحياتٍ كبيرة، وقاومت، ونجحت في طرد المحتلّ. بيد أنّ هذا الاستقلال نفسه استند إلى أطرٍ ومفاهيم عميقةٍ مُستمدّةٍ من الثقافة الغربيّة، ما أدّى إلى وقوعها في نوعٍ أشدّ من التبعيّة؛ لذا يَصدق المثل القائل: (لقد طردناهم من الباب، لكنّهم عادوا من النافذة). بمعنى آخر، إنّ ظاهرة الاستعمار تمثّل التجلّي السياسيّ لحضارةٍ جديدة. هذه الحضارة الجديدة، بتاريخها وثقافتها، تختلف اختلافًا جذريًّا عمّا سبق من حضارات، رغم ما كان بينها من فروق. لكنّ الحضارة الحديثة تحمل تفاوتًا جوهريًّا أشدّ عمقًا بالمقارنة مع كلّ ما سبقها.
على سبيل المثال، في الحروب التي دارت بين المسيحيّين والمسلمين، كانت خلفيّتهم المشتركة هي انتماؤهم جميعًا إلى الأديان الإبراهيميّة، وكانوا - من وجهة نظرهم - يمارسون جهادًا مقدّسًا. لكنّ الغرب الحديث اليوم هو غربٌ علمانيٌّ قد تخلّى عن الدّين. أمّا في مواجهة الشعوب الشَمَنِيّة، فكان لديهم على الأقلّ نوعٌ من الاعتقاد الدينيّ تجاه الوجود، وإنْ كان ضعيفًا نظريًّا أو مجرّدًا في صورة أسطورة. وقد جاء الإسلام أصلًا وفي جعبته أفكارٌ تردّ على مثل هذه المفاهيم وتدفعها؛ بمعنى أنّ لدى العالم الإسلاميّ تجربةً سابقةً في التصدّي لتلك التصوّرات، وكان يفهمها بسهولة ويملك حجّةً تجاهها. أمّا العالم الحديث، فيأتي بمفاهيم جديدة كليًّا وغير مألوفةٍ إطلاقًا.

ما كان مألوفًا فقط هو تفوّقه العسكريّ وسطوته السياسيّة الاستعماريّة. ولمواجهة ذلك، سعوا إلى الاستعانة به نفسه؛ أي أخذوا عنه التكنولوجيا، لكنّهم لم ينتبهوا إلى اختلافه الجوهريّ عن القوى السابقة، وأنّه يتبنّى رؤيةً جديدة للإنسان والكون. فإذا تأثّرنا في مستوياتنا الثقافيّة الأعمق، وبقيت المواجهة مع الاستعمار مجرّد خصومةٍ سياسيّة، كانت النتيجة أنْ نصير نسخةً أخرى من الغرب الحديث، نسعى إلى التماهي معه. وعليه، إذا ظنَنّا أنّ الاكتفاء بالاستقلال السياسيّ والعسكريّ هو كلّ شيء، فسوف تؤول الأمور إلى تلك النتيجة.

إذًا، ما الحلّ كي نحقّق مقاومةً ثقافيّة حقيقيّة؟
يتلخّص في إعادة اكتشاف هويّتنا المعرفيّة وخصائصنا الحضاريّة. وهذا ما كان مفقودًا في أغلب الحركات النضاليّة خلال القرن العشرين، إلى أنْ جاء أواخره فبرز منعطفٌ جديد. بمعنى آخر، إنّ العالم الحديث عالمٌ علمانيٌّ يتبنّى نظرةً حديثة للوجود والإنسان، ويطرح أهدافًا جديدة يسعى إلى تعميمها عالميًّا. ومن سمات هذا العالم الحديث انقسامه إلى شمالٍ وجنوب، وفق مقتضيات التوسّع الاقتصاديّ والسياسيّ حيث يتحدّد المركز والأطراف. وما يستلزمه هذا التفوّق العسكريّ والسياسيّ هو بسط الهيمنة والاستعمار، أي التواجد المباشر في البلدان الأخرى، وضبط حركة إنتاج السلع وتوزيعها، وإقامة علاقات اقتصاديّةٍ وسياسيّةٍ خاصة مع سائر أرجاء العالم، بما يخدم تلك الغايات.
إنّ فكرة التخلّف التي نسمعها كثيرًا – وبخاصّةٍ في ما يتعلّق بالبلدان الإسلاميّة – إلى أيّ مدى تُعَدّ نتاجًا لما تبثّه الدول الاستعماريّة والغربيّة، بحيث يترتّب عليها شعورٌ بالانهزام الذاتيّ وتفاقم نقاط الضعف في تلك المجتمعات؟ وكيف أثّر الاستعمار الغربيّ عمومًا في تغيير المنظومة المعرفيّة والثقافيّة للعالم الإسلاميّ؟
لقد أدّى إهمال الجانب الثقافيّ إلى بروز ظاهرةٍ تُسمّى (الاستلاب أو الانبهار بالغرب) أو (التغريب). وقد أشرتُ من قبلُ إلى أنّنا في التاريخ الإسلاميّ تَعرّضنا لغزواتٍ سياسيّةٍ وهزائمَ عسكريّة، ولكن نظرًا لقوّتنا الثقافيّة آنذاك، كنا قادرين على استيعاب الغزاة السياسيّين وتوظيفهم في خدمتنا، تمامًا كما حدث في مواجهتنا مع المغول. وأريد أنْ أقول إنّ الاستعمار الجديد، أو الاستعمار الحديث، تميّز بخصيصةٍ جعلته يختلف عن الغزوات السابقة: فهو لا يقتصر على التحرّك العسكريّ والسياسيّ المعتاد، بل يأتي محمَّلًا بهويّةٍ ثقافيّةٍ ومعرفيّةٍ محدّدة. ما ظهر ابتداءً من القرن التاسع عشر - أو ربما الثامن عشر - لم يسبق له مثيل في تاريخنا، إذ شهدنا نشوء ثقافةٍ جديدةٍ تُسمّى الثقافة الحديثة، تمتلك رؤيةً مغايرةً للإنسان والوجود، وهذا أبرز ما يميّز الاستعمار المعاصر: إنّه ليس قوّةً عسكريّةً صرفًا، بل قوّةٌ تتقدّم برؤيةٍ حديثةٍ للكون والإنسان.

من خصائص هذه الثقافة الحديثة أنّها دنيويّةٌ (علمانيّة) في نظرتها للعالم، وتستند فكريًّا إلى رؤيةٍ إنسانيّةٍ تضع الإنسان الماديّ في مركز الوجود. أمّا على المستوى المعرفيّ، فتقوم على مقوّماتٍ ليست موجودةً في الثقافات الأخرى.
لقد كانت الثقافات القديمة، في معظمها، إمّا أسطوريّة وإمّا متّكئةً على غطاءٍ دينيّ؛ فعلى سبيل المثال، نجد الحروب الصليبيّة تُخاض باسم المسيحيّة، أو حروب بعض القبائل العربيّة التي كانت ترفع شعاراتٍ ترتبط بآلهتها الوثنيّة. وكذلك في ملحمة هوميروس، يتجلّى غطاءٌ دينيٌّ وإنْ يكن وثنيًّا لا توحيديًّا. أمّا العالم الحديث فقد جاء بشيءٍ جديد، إذ يستند إلى تاريخٍ حياتيٍّ وفكريٍّ يمتدّ حوالي مئتي إلى ثلاثمئة عام، تبلور ونضج في أوروبا قبل أنْ ينطلق إلى ما وراء حدودها، حيث فرض هيمنته على العالم. لقد سعى هذا العالم الحديث إلى السيطرة على الكون كلّه، وهو ما يُميّز الاستعمار الأوروبيّ الحديث عن تجارب الغزو السابقة.

انظروا مثلًا إلى الصينيّين؛ لديهم البارود، لكنّهم لم يستخرجوا منه سلاحًا على هذا النحو الذي نراه لدى الغرب. بل شادوا سور الصين العظيم حول أنفسهم، فلم يكن قصدهم فتح العالم، بل صدّ المهاجمين. أمّا القبائل الغازية التي أتتهم، كالمغول مثلًا، فقد اخترقت السور واستولت على البلاد، غير أنّ المغول كانوا آنذاك من الشَّمَنيّين.
ولم تكن رؤيتهم للوجود (بُعدهم الوجوديّ) تختلف كثيرًا عمّا لدى الصينيين؛ فالشَّمَنيّون أيضًا كانوا يحملون نظرةً روحيةً ما تجاه العالم، ثم انتهى الأمر بهم إلى الاندماج في تلك الحضارة، كما اندمجوا سابقًا في إيران، ثم في الهند واعتنقوا ثقافتها.
ما أودّ قوله هو أنّ الثقافات البشرية، رغم اختلافاتها، كانت تتمتّع ببعض الأصول المشتركة نسبيًّا، وغالبًا ما كانت ذات طابعٍ أسطوريّ. ولم تكن تستوعب العقلانيّة على نحوٍ واسع، بل كانت تميل إلى الخيال والمشاهدات التخييليّة وما شابه ذلك. وفي مقابلها، نرى الثقافات التوحيديّة التي تمتاز بمستوىً أقوى من المعنوية والعقلانية بالمقارنة مع عوالم الأساطير.

من جانبٍ آخر، في الثقافات الدينية، كان كلّ فريقٍ يحدّد هويته بشكلٍ سماويّ؛ فلو تأمّلنا في الإسلام أو المسيحيّة أو اليهوديّة، سنجد أنّ بداياتها انطلقت من نوعٍ من الوحي أو الانكشاف الإلهيّ، ومن هنا نشأت هويّتها. أمّا الثقافات المنافسة، فقد نشأ فيها نوعٌ من الانحراف عن هذا المسار، فباتت تسعى إلى الدنيا وإنْ احتفظت بمسوّغاتٍ دينية أو سماويّة ظاهريّة. ولنا في تاريخ البشرية مظاهر قد يفسَّر فيها التعلّق بالدنيا منذ هبوط آدم وقصة هابيل وقابيل، لكن من دون أن تكون صورة العلمانية أو السيكولارية حاضرة. فقد كانوا يتوجّهون نحو الدنيا، لكنهم يضفُون تفسيرًا دينيًّا على سلوكهم، وهذا ما يعرَف بالفسق.
إذا أردنا أنْ نستخدم نظرة الفارابي في هذا الشأن، نجد أنّ التاريخ شهد إمّا مدينة فاسقة وإمّا مدينة ضالّة. فالمدينة الفاسقة هي تلك التي تدّعي الإيمان بالحقّ والحقيقة والتوحيد وتقرّ بالعقل والعقلانيّة المترابطة مع الوحي والشهود، لكنّ توجّهها يبقى دنيويًّا؛ أي إنّها تبرّر سلوكيّاتها الدنيويّة تحت غطاء المفاهيم الدينيّة السائدة في ثقافتها. وربّما يكون أوّل من استخدم لفظ (سكولاريزاسيون) (العَلْمَنة) في المؤلّفات الفارسيّة هو العلّامة الطباطبائي في حواراته مع هنري كربن، حين سأله كربن عن العَلمنة في الإسلام، فأجاب العلّامة بأنّ جذور هذه الظاهرة تعود إلى حوادث تاريخيّة في الإسلام تَحكَّمَ فيها الغرضُ الدنيويّ بلبوسٍ معنويّ. فثمّة نزعة دنيويّة كانت قائمة، غير أنّ الادّعاءات والشعارات تظلّ دينيّة، حتى إنّ الأمور تُنفّذ باسم (كتاب الله)، ويستند أصحابها إلى جهاز الخلافة. فنرى بني أُميّة وبني عبّاس، وإنْ قاتلوا أبناء رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأوردوهم مورد الشهادة، فإنّهم كانوا يتّهمونهم بالخروج عن دين رسول الله.

الفارابي يطلق على هذه الظاهرة أحيانًا اسم المدينة الفاسقة، وأحيانًا المدينة المموّهة؛ أي مدينة المنافقين. فالمدينة الفاسقة هي التي يعتنق سكّانُها الإسلام إيمانًا ظاهريًّا، لكنّهم لا يعملون بالدين وينشغلون بدنياهم. وهاتان التسميتـان تعبّران عن نوعٍ واحدٍ من المدينة، إذ يمكن للفاسقين أنْ يتعايشوا في إطار المدينة المموّهة. وبهذا جمع الفارابي هذين المصطلحين ليعبّر عن شكلٍ من أشكال المجتمع الذي يتغطّى بغطاء العقل والدين، بينما عمله ليس دينيًّا في جوهره. وقد استخدم الفارابي هذه الفكرة حتّى في الحديث عن فرعون؛ إذ كان فرعون يعلم ما يقوله موسى، بيد أنّه وقع في الشرك، فعدَّه الفارابي من الفاسقين، واصفًا إيّاه وأمثاله بالفسق.

في نقاشه واستدلالاته أمام آل فرعون وأتباعه، أراد النبيّ موسى (عليه السلام) أنْ يبيّن موقفًا منطقيًّا يفضح ادّعاء فرعون حين قال:(أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)؛ فقد جعل من نفسه ربًّا سماويًّا وإلهيًّا خاصًّا به. وقد دحض النبي موسى (عليه السلام) هذا المنطق عبر البيّنة التي جاء بها، وفهم فرعون تمامًا صحّة ما طرحه موسى (عليه السلام)، إلّا أنّه استمرّ بالمغالطة؛ إذ كان بحاجة إلى ذلك الخداع ليبرّر أفعاله. فقال لسيّدنا موسى: إنّك كنت كبير السحرة، وجئت بما جئت. وهنا يتدخّل الله تعالى لإتمام الحجّة عليه، فيسبقُ فرعونَ نفسه ويُظهر آيةً للمؤمنين، فيسارع السحرة إلى الإيمان، الأمر الذي سلب من فرعون فرصة الاستمرار في مراوغته.

وأحيانًا يختار الإنسان العصيان، ومع ذلك يُلبسه غطاءً سماويًّا، باعتبار أنّ السماء لها هويّة مقدّسة، وهو يدّعي أنّ له حقًّا في هذه الهويّة الربّانيّة. هكذا تتشكّل العوالم الأسطوريّة. وفي المسيحيّة أيضًا، شهدنا حدثًا مماثلًا:( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا)؛ فقد استحدثوا الرهبانيّة لمواجهة الإمبراطور الرومانيّ وغيرِه، في حين أنّ الله تعالى لم يفرضها عليهم. ومع ذلك، لم يلتزموا حقّ الالتزام بها، وانتهت الحال بهم إلى اللهاث وراء الدنيا. فظهر رجالُ الدين نفسُهم وهم يعتمرون تاج القيصر أو يضعونه عليه، ثمّ سعوا إلى نيل السلطان. أمّا في القرون الوسطى، فقد ارتُكبت أمورٌ عدّة باسم الدين، والأمر يحتاج إلى فحصٍ كيف ثبّت هؤلاء سلطتهم الدنيويّة باسم الدين. فيما بعد، تنافسوا مع القيصر وفئاتٍ أخرى كطبقة البرجوازيّة. وفي خضمّ هذه الصراعات، برز فريقٌ قرّر التخلّي كليًّا عن هذا الغطاء، إذ وجدوا أنّ الكنيسة نفسها تتصرّف بدافعٍ دنيويّ، وأنّ خصومها أكثر دنيويّةً منها، فوقع التحوّل الذي نسمّيه النهضة (عصر النهضة). وهناك خرجت النزعة الدنيويّة بثوبها الحقيقيّ عاريةً من أيّ غطاءٍ مسيحيّ.

للمرّة الأولى، صودرت الأراضي التي كانت تابعةً للكنيسة، إنّ نزع ملكيّة الأرض من الكنيسة يعني إخراجها من المجال المقدّس، فصاروا يقولون إنّ هذه الأراضي (أصبحت علمانيّة). وفي مرحلةٍ لاحقة، جرى إخراج الحياة ورموز السلطة السياسيّة من تحت نفوذ الكنيسة وسيطرتها. وبهذه العمليّة، انتقلت فكرة (العلمنة) من نطاق الأرض إلى نطاق الحياة والمعيشة والسياسة، وأصبح هذا المفهوم متداولًا بصورةٍ واسعةٍ فيما بعد.
لا نجد في اللغتَيْن الفارسيّة والعربيّة ما يقابل بدقّة مصطلحات (سكولار)، و(سكولاريزم)، و(سكولاريزاسيون). إذ اعتاد الناسُ، في سياق النظرة الدينيّة، أنْ يقابلوا الدنيا بالآخرة، ويُطلِقوا على هذا العالم اسم (عالَم) بمعنى الإشارة والعلامة، ما يدلّ على اتّصال الإنسان بعالمٍ دينيّ. فلم يكن لدينا مصطلحاتٌ تشير إلى هذا الوجود بمعزلٍ عن الحقيقة التي تتجاوز الحياة الفانية. أي لم يوجد من قبلُ تعبيرٌ مخصوصٌ للطبيعة لا يَلحظُ أيّ صلةٍ بعالمٍ أسمى أو بُعدٍ أخرويّ. ولذلك، حين أراد العرب ترجمة سكولاريزم أو سكولاريزاسيون، استخدموا لفظ (العلمانية). والسؤال: هل اشتُقّت كلمة العلمانية من (عالَم) أم من (علم)؟ فإنْ كانت من عالَم، ففيه إشارةٌ إلى هذا العالم الدنيويّ. لكنّ لفظ (عالَم) في أصله لا يدلّ بالضرورة على القطيعة مع الآخرة، بل يعني العلامة أو الإشارة. ومثل ذلك في الفارسيّة، إذ يقابلون «گيتي» بـ«مينو» (الدنيا والآخرة)، وفي اللغة الدينيّة، نقابل الدنيا بـالآخرة بوصفهما مفهومَيْنِ متضادَّيْن.

أمّا اليوم، فعندما تُتَرجَم سكولاريزم أو سكولاريزاسيون بكلمة علمانية، يُراد من العالَم هنا معنى هذا الوجود المحض المنحصر في الدنيا، لا المفهوم الإضافيّ الذي يقابل الآخرة. وفي سعيهم لإيجاد مكافئٍ لغويّ لهذا المصطلح، يرد سؤال: هل الجذر مأخوذٌ من عالَم أم من علم؟ إذ إنّ العلم الحديث نفسه قد صار علمًا دنيويًّا (سكولاريًّا) لا يبحث إلّا في أمور هذا العالم الماديّ وحدوده. وهذا ما فعله أصحاب الموسوعة (دائرة المعارف) عندما أضفوا معنًى جديدًا على الطبيعة والعالَم، فأخرجوهما من سياقهما الدينيّ والمقدّس.

قبل أنْ انتقل إلى الحديث عن (أصحاب دائرة المعارف)، كنتُ أتطرّق إلى الثقافة الحديثة. ففي البداية، صار عيش الناس في الغرب دنيويًّا، بحيث تخلّوا تمامًا عن الغطاء الدينيّ. وقد أنتج هذا النمط من الحياة فنًّا وأدبًا يتوافق معه. ففي فنّ عصر النهضة، برز الحضور المادّي للعالم. ولم يعد الفنّانون يرسمون القدّيسين بقداسةٍ سماويّةٍ كما في السابق؛ بل ركّزوا على الجمال البشريّ وحده. فلم يُصوَّر داوود بهالته الربّانيّة، بل أظهروا قوّة جسمه وبنية ذراعيه الدنيويّة. ومريم العذراء، صوّروها في جمال معالم وجهها فحسب. بوسعنا أنْ نلاحظ في متاحف الفاتيكان وغيرها الفارق الشاسع بين رسوم القرون الوسطى وما قبل النهضة، وبين ما رسمه فنّانو عصر النهضة وما تلاه.
على هذا النحو، اتّخذت حياة الناس في الغرب مسارًا دنيويًّا متسارعًا. ولم تعد القوى المنافِسة للكنيسة تسعى إلى إسباغ أيّ تبريرٍ دينيٍّ على تصرّفاتها؛ بل أخذت بإزاحة الدين جانبًا. وعلى عكس ما كان في القرون الوسطى، نجد أنّ هذه السلطة العلمانيّة طابعٌ جديدٌ تمامًا، لم يشهد التاريخ نموذجًا مماثلًا لها سابقًا.

لكنّ هذه الثقافة احتاجت إلى فلسفاتها الخاصّة كي تفسِّر بها العالم على هذا النحو. فجاء فلاسفةٌ يتبنّون في مبحث المعرفة هذه الرؤية. ولم يعد الكتاب المقدّس هو النصّ المفسِّر للعالَم. بل صارت مهمّتهم إزالة الطابع الأسطوريّ عن الوجود والإنسان، ولم يعد العقل قوّةً مستمدّةً من وحيٍ إلهيٍّ أو مقدّس (كما في المسيحيّة حيث جُعِل العقل مرتبطًا بالروح القدس). صحيحٌ أنّ المسيحيّة نفسها اتّسمت ببعض الأسطوريّة، وحوّلت التوحيد إلى تثليثٍ (الآب والابن والروح القدس) وأضعفت عنصر التنزيه، لكنّها مع ذلك كانت تحمل نظرةً سماويّةً. أمّا في العصر الحديث، فقد صار العقل مجرّد قوّةٍ بشريّةٍ صرف، وسقط عنه بعده القدسيّ والحدسيّ بفضل هيمنة الحسّيّة. كما أُبعدت مرجعيّة الكتاب المقدّس تمامًا، تمامًا كما نرى بوادره في فكر ديكارت. وفي خطوةٍ لاحقة، جعل كانط العقل ذاتيًّا (سوبژكتيو) ومستقلًّا تمامًا، إذ غدا العقل هو الذي يضفي الصورة على هذا العالم، ولم يعد هناك من حقيقة إلّا في دائرة ما تدركه الحواس. وفي السياق نفسه، بات العقل يُسهم فقط في تشكيل المفاهيم اللازمة لتنظيم عالم المحسوسات. ومن ثمّ حُصِرت (العلميّة) في ما يُطبَّق فيه هذا المنهج العقليّ على الطبيعة، أمّا سائر مجالات المعرفة، فلم تَعِدْ تُعَدّ علمًا من منظورهم، بل صارت في عرفهم مجرّد مفاهيم ذهنيّة أو ما يُسمّى (إبستيمه). وبذلك، تمّ استبعاد الميتافيزيقا من نطاق العلم، وصار الحديث عنها مجرّد تناولٍ لظواهر إنسانيّةٍ وثقافيّة (Humanities) لا أكثر.
إذًا، إنّ الحياة الدنيويّة الخالصة تتطلّب فلاسفةً لا ينشغلون إلّا بتفسير العالم المحسوس دون الإكثار من الحديث عن العالم الآخر، لئلّا يُشعر المرءُ بأنّ إقامته في هذا العالم صارت ثقيلة عليه( :بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ)، أي إنّ الإنسان يرغب في التصرّف بحرّية في هذا العالم. أمّا استحضار المعاد والتوحيد وسائر المسائل الماورائيّة بصورةٍ حيّةٍ في الحياة، فذلك يُربِك رغبته في التحرّر.

لكن هل كان هؤلاء الفلاسفةُ المحدثون هم مَن صنع الغربَ والعالمَ الحديث، أم أنّ الواقع الغربيّ وطبيعة الحياة فيه هما اللذان برزا ليُعلِيَا شأنَ هؤلاء الفلاسفة؟ ثمّة ارتباطٌ متبادلٌ بين الجانبين. وبظنّي، يحتمل أنْ يكون السيناريو الآتي هو الأرجح: بدأ الأمر بعصر النهضة (الرينسانس)، ثمّ تلاه ظهور فلاسفةٍ قدّموا الأسس الفكريّة لتبرير نمط العيش الجديد، وبعدها نشأ العلم الحديث الذي انصبّت مهمّته على نزع الهالة القدسيّة، وإزالة الطابع الأسطوريّ عن العالم. وهكذا تراجعت مرجعيّة العلم الدينيّ، وخرجت من نطاق المعرفة العلميّة.
وعلى إثر ذلك، لم يبقَ سوى عقلٍ مفهوميٍّ خالص. وحين اتّجه هذا العقل إلى التنظير لعالم الطبيعة، وُلد العلم الحديث، وصار ما يتجاوز هذا النطاق (المحسوس) مجرّد فلسفة، لا علمًا. إنّه شكلٌ من سيادة العلم التجريبيّ، حتّى إنّ قضيّة الصدق والكذب في المسائل التجريبيّة أضحت مؤقّتةً، بحيث صار يقال إنّ الإرادة هي التي تخلق العلم، لا أنّ ثمّة علمًا يتجاوز الإرادة فيجب على الإنسان أن يتكيّف معه. هذه هي المسيرة التي سلكها الإنسان الحديث. فأين نجد مثل هذا المنحى في تاريخنا السابق؟!

كيف ينتهي المنظور العلمانيّ إلى الاستعمار؟
عندما تصبح النظرة دنيويّةً (هذا-العالميّة)، فإنّ السيطرة على هذا العالم تغدو الهدف الرئيس لهذا التوجّه. فهذه الثقافة، ما إنْ تُوجّه اهتمامها إلى الإنسان حتّى تسعى إلى السيطرة عليه والتنبّؤ بسلوكه؛ وهذا حال علومها الإنسانيّة كذلك. وعندما تنظر إلى الطبيعة، تنظر بالمنطق عينه: في البداية قد يبدو أنّ ثمّة صوابًا وخطًا، لكن سرعان ما يتخلّى أصحاب هذا الفكر حتّى عن تلك الادّعاءات. فمثلًا، يصرّح ماركس بأنّ الإنسان ليس (حيوانًا ناطقًا)، بل هو (حيوانٌ صانعٌ للأدوات). في حين أنّ الإنسان قبل ذلك كان كائنًا متميّزًا عن سائر الحيوانات بعقله، يتساءل: (من أين أتيت؟ أين أنا؟ وإلى أين أمضي؟)، وكان مراده تجاوز الحياة المحدودة الدنيويّة والسعي نحو الأبدية. ولكنّ هذه القضايا صارت خارج نطاق العلم الحديث، الذي اكتسب هويةً دنيويّةً بحتة.

بعبارةٍ أخرى، ما يحدث في عالم الأساطير إنّما هو تجلٍّ لأنانيّة الإنسان في صور أوثانٍ متعدّدة. وعندما يرى الإنسان نفسه مستقلًّا عن الله ولا يرى الحقّ، فإنّ التوحيد يغيب أيضًا. لكن لو رأى وجه الله، لرأى أنّ الوجود كلّه متعلّقٌ به، ولا حديث إلّا عن التوحيد، إذ يتبدّى الكون بأسره أسماءً وأفعالًا إلهيّة. أمّا إذا عاد الإنسان إلى ذاته وظنّ أنّه مستقلٌّ عن الحقّ، صار هو نفسه حجابًا على ذاته؛ فإمّا أنْ يشاهد وجه الله في كلّ شيء، أو لا يراه في أيّ مكان. ومن هنا يعتقد أنّ كلّ كيانٍ مستقلٌّ عن الآخر.
في المرحلة الأولى من الهبوط، كان الإنسان في الجنّة، يتحدّث إلى الله ويراه، لكنّه حين احتجب الوجه الإلهيّ، توقّف الإنسان – الذي علّم الملائكة الأسماء – عن رؤية وجه الله في أيّ مكان من العالم. وهكذا صار ينظر حتّى إلى الملائكة على أنّهم مستقلّون، وفق ما تذكره بعض الروايات من أنّ هبوط البشر تمّ على عدّة مراحل، وأنّ الشياطين كانوا يصعدون إلى السماوات، مستغلّين ما كانت لديه البشريّة من قابليّات. وبهذا الانحراف، صار الإنسان ينظر إلى الملائكة وأرباب الأنواع بوصفهم كياناتٍ مستقلّة، فدخل في عالم الأساطير.

إنّ الإنسان الأسطوريّ ليس دنيويًّا صرفًا؛ بل يلجأ إلى قوى ما وراء الطبيعة خدمةً لأطماعه وسيطرته على الطبيعة. وهذه الآلهة أو الأرباب ما هي إلّا حُجبٌ من إسقاطات الإنسان ذاته على الوجود، فيعرّف الإنسان هويّته الدنيويّة في ظلّ تلك الأرباب والكيانات. تلك هي الحال السائدة في عالم الأساطير.
أمّا في العالم الحديث، فتحدث عمليّة إزالة الأسطورة؛ إذ يتجلّى الصنم الأكبر – وهو الإنسان نفسه – وتتلاشى سائر الأصنام. ومن ثَمّ يرى البشر أنّهم أصلُ جميع الأمور. هذا هو معنى محوريّة الإنسان أو الإنسانيّة الحديثة التي نشهدها الآن. في المقابل، كان الإنسان الأسطوريّ لا يمثّل رؤيةً دنيويّةً محضة، وإنْ لم يكن ينتمي إلى الرؤية الإلهيّة، ما يوحي وكأنّ انحراف الإنسان وهبوطه يجريان عبر مراحل تاريخيّة.

ومع قدوم عيسى المسيح (عليه السلام)، بقي للشياطين إمكانيةُ الصعود إلى بضعة سماوات فقط، وأُغلِقت دونهم ثلاثة أو أربعةٌ منها. ثمّ مع مجيء النبيّ الخاتم (صلّى الله عليه وآله)، سُدّ الطريق على الشياطين تمامًا. وبإغلاق هذا السبيل، فقد الكفر قابليّاته (الفوق-أرضيّة)، وصار يُروى على هيئة حكاياتٍ تاريخيّةٍ ينبغي إعادة صياغتها بنحوٍ جديد. فمن جهة، ظهر الحقّ في أعلى مراتبه، أي في صورة التوحيد الخالص؛ ومن جهةٍ أخرى، برز الكفر في أدنى دركاته. وهكذا، حال وجود القرآن في الثقافة الإسلاميّة دون رواج التفاسير الدنيويّة الخالصة، فيما اتّجه العالم الآخر تدريجيًّا إلى تبنّي تفسيرٍ مادّيٍّ صرف.
بهذا تكون مراحل الهبوط التاريخيّ في طريقها إلى الاكتمال. وقد تطرّق العلّامة الطباطبائيّ إلى هذا الموضوع في (الرسائل التوحيديّة)، كما سعيتُ بنفسي إلى متابعته جزئيًّا في كتاب (هستي و هبوط (اعتمادًا على أفكاره. وتُشير الروايات أيضًا إلى أنّنا مقبلون على (جاهليّةٍ في آخر الزمان). ففي السابق، واجهنا مدينةً فاسقةً ترتدي عباءةً دينيّة. وفي مؤلّفات الفارابي أُشير إلى مدينةٍ ضالّة، حيث رغم استبعاد ثقافة الحقّ، لكنّها كانت تفرض سلطتها باسم الدين. وقد عبّر عن ذلك الإمام الحسين (عليه السلام)بقوله: «وعلى الإسلام السلام»؛ أي إنّه مع مجيء يزيد، انقلبت كلّ تلك الانحرافات لتُمارَس باسم الدين، حتّى بدا وكأنّ لا سفينة نجاةٍ تُرتجى، وبات الطريق موصودًا.

في المدينة الفاسقة، لا تزال المعايير الدينيّة حاضرة، غير أنّ الناس يخالفونها فعليًّا. فمنهم منافقون يتصرّفون وكأنّهم أحرص على الدين من غيرهم، ومنهم فاسقون يتهاونون بتلك المعايير. أمّا في المدينة الضالّة، فينسدّ طريق العودة، رغم أنّها لا تزال تتستّر بمظهرٍ دينيٍّ وأسطوريّ.
وحين يتحدّث الفارابي عن المدن الجاهلة، لا يعني بذلك أنّ في عصره مدنًا جاهلةً واقعيّة، بل يشير إلى الباطن الكامن في المدينة الفاسقة والمدينة الضالّة، حيث تسود فيهما القوّة الدنيوية واللذّة الدنيوية والثروة الدنيوية والرغبات النفسيّة. فالمدينة الضالّة والفاسقة، في حقيقتها، تتغشّى بالدين بوصفه غطاءً وأيديولوجيًا، أمّا المدينة الجاهلة فلا تزال غير موجودة فعليًّا، وإنّما يستخدم الفارابي وصفها لتبيين خصائص المدينة الفاسقة والضالّة.

أمّا العالم الحديث، فهو عالمٌ خالٍ من أثر الوحي كما لا يحفل بالعقل. في البداية، عُدَّت المعرفة التجريبية علمًا، لكن بمرور الزمن ألغي هذا أيضًا، وصاروا يصرّحون بتقدّم الإرادة على العلم. ومِن بين من عبّر عن ذلك ماركس حين قال: «ليس الإنسان حيوانًا عاقلًا يبحث عن الحقيقة؛ فقد سعى الفلاسفة حتى الآن إلى فهم العالم، بينما نحن نريد تغييرَه». فالإنسان في نظره حيوانٌ صانعٌ للأدوات، يهدف إلى التغيير. وغاية الإنسان حياةٌ دنياويةٌ محضة، ولتحقيق ذلك، هو بحاجةٍ إلى أدوات: أدواتٍ صلبة مثل المطرقة والمعول والتكنولوجيا، وأدواتٍ لينة مثل اللغة والقوانين والحقوق والعلم والمعرفة. ولم يعد العلم محتاجًا إلى نظرية الصدق والكذب؛ إذ ينتَظر من تنظير العالم أنْ يكون ذا جدوى عمليةٍ فحسب. فهذا العلم تحوّل إلى أداةٍ للمعيشة، وبالتالي صار حتى مفهوم الحقيقة أو الأبدية أو الحقّ المطلق نتاجًا ينبثق عن مصالح طبقةٍ ما للحفاظ على مكانتها. وهذه العناصر كلّها هي جزءٌ من عمليةٍ تطبيقيةٍ يجري تحريكها في حياة الإنسان.

وهكذا يصبح الفيلسوف الممثِّل لهذا العالم هو نيتشه أو كانط. فيرى كانط أنّ الميتافيزيقا ليست علمًا على الإطلاق، وأنّ زعم الإخبار عن العالم وهمٌ ليس إلّا. ومع ذلك، فقد احتفظ كانط ببعض عاداته الدينيّة المسيحيّة، وحاول تدارك النقص عبر العقل العمليّ. أمّا نيتشه، فبعد كانط صرّح بوضوحٍ بأنّ الإرادة هي التي تصنع المعرفة. فنرى الإرادة نحو القوّة عند نيتشه، والإرادة نحو السلطة عند فوكو، والإرادة نحو الاقتصاد والحياة في الماركسيّة الكلاسيكيّة، كما تظهر الإرادة نحو العيش بصيغةٍ ما في البراجماتيّة لتتجلّى في الثقافة والفلسفة الأمريكيّة. لذلك، لا بُدّ من فلاسفةٍ جددٍ يفسّرون هذا العالم ويبرّرونه، وهؤلاء فلاسفةٌ حديثو النشأة.

إنّ هذه النظرة إلى العالم تعكس ما ذكره أمير المؤمنين (عليه السلام) عن أنّ هناك منهومَيْن لا يشبعان: طالب علمٍ وطالب دنيا، فـ(مَنهوم الدنيا) لا يعرف حدًّا للشبع. لذلك يبدأ من قدراته الداخليّة، ثمّ ينقضّ على البيئة الخارجيّة. من ذلك احتياجه إلى أسواقٍ استهلاكيّة، فضلًا عن التنافس الداخليّ على فتح العالم، ما يؤدّي إلى أن تغدو حروب المستعمِرين فيما بينهم صراع حياةٍ وموت. وفي خضمّ ذلك، يرسخ لمن تتوفّر لديه يدٌ عاملةٌ أرخص ــ وقد تكون في هيئة عبيديّة أو غيرهاــ ويتوفّر له سوقٌ استهلاكيٌّ أوسع، أمّا من يعجز عن المنافسة فيتلاشى. وعلى هذا المنوال، تنشأ التراستات والشركات الكبرى وتتبلور الأقطاب، فيُقسَّم العالم إلى شمالٍ وجنوب. فالشمال لا يستطيع الاستمرار من دون الجنوب في عالمنا هذا. ومع الوقت، بدأ الجنوب يقاوم، فتشكّل أول مرحلةٍ تتجلّى فيها السلطة والفوارق الطبقيّة وما شابه، واستحدثت حينها شتّى النظريّات.

يشير كارل ياسبرز، في كتابه (البداية والنهاية في التاريخ)، إلى أنّ الغرب حينما اتّجه نحو بلدان الشرق، كانت تقاليدها ــ في الغالب ــ قد فقدت حيويّتها، أي إنّ النظرة الروحيّة قد خبت هناك. ومن ثمّ، بسبب هذا الخفوت وحالةٍ من العلمنة الجزئيّة (ولو لم تكن علمنةً تامّةً بعد)، كانوا يواجهون العالم الحديث بنظرةٍ مادّيّةٍ نسبيًّا، فانبهرت أعينهم إزاء عالمٍ بدا أكثر عمرانًا من عالمهم. فتساءلوا: لماذا نحن على ما نحن عليه؟ وهكذا احتدم الصراع بين الشمال والجنوب، وفي هذه المواجهة نشأت لديهم رغبةٌ في أنْ يصبحوا مثل الطرف الآخر، كما أنّهم لجؤوا إلى نظريّات هذا الطرف في تفسير مشكلاتهم. ولذلك، حتى لو تمكّنوا من قطع اليد السياسيّة لخصومهم، فإنّهم غالبًا ما يقعون في مصيدة رؤاهم الفكريّة والنظريّة.

عندما تنطفئ تلك التقاليد الروحيّة، يصبح النمط الآخر هو القدوة، فينشأ نوعٌ من فقدان الثقة بالذات تجاه ذلك الآخر. وحين نقف في وجهه، نحاول التشبّه به، إلا أنّه لا يمنحنا الفرصة الكاملة لنكون على صورته؛ لأنّ حاجته إلى الهيمنة تفرض عليه أن يظلّ متميّزًا. وهكذا تتشكّل بعد ذلك منافسةٌ من نوعٍ خاص.
وفي الغرب، بعد نشوء هذه الثقافة الجديدة، ظهرت لغةٌ وعلمٌ متناغمان معها، وتغيّرت مفاهيم المعرفة والوعي. فاللغة البشريّة ــ بما أنّ لها خلفيّةً دينيّة ــ تنطوي على دلالاتٍ معنويّة، في حين أنّ هذا التحوّل الدنيويّ لم يكن له نظيرٌ في لغاتنا من قبل. ومن هنا، استحدثت مفاهيمُ مثل العلمنة والعلمانية من رحم هذه الحياة الجديدة واكتسبت دلالةً خاصّة. وحيث كانت اللغة ترتكز على جذورٍ دينيّة، بات يُعاد تفسيرها واستخدامها على أساسٍ مادّيٍّ صرف، ما استلزم إعادة صياغة اللغة ذاتها. وقد ذكرتُ سابقًا أنّنا لم نتمكّن بسهولة من ابتكار مقابلٍ دقيقٍ لمصطلحات سكولاريسم وسكولاريزاسيون في الفارسيّة أو العربيّة، ورغم كثرة الاقتراحات، فإنّ توصيل المعنى على نحوٍ تامٍّ لا يزال صعبًا. فعندما نسعى إلى ترجمة هذه المفاهيم، نضطرّ إلى تقديم بضع عباراتٍ توضيحيّة، ومع ذلك قد تبقى هذه الشروح قاصرة.

إنّ السبب في ذلك أنّ عالمنا ومعانينا في النظر إلى الوجود كانت مختلفةً جوهريًّا، ولم تكن لدينا ألفاظٌ تصف هذا المنظور الجديد. فبحكم جذورنا التاريخيّة كنّا نعيش في سياقٍ مغاير، ثمّ تعرّضت مفرداتنا نفسها للتأويل والتوظيف في سياقٍ حديث، ما أدّى إلى سلبنا حتّى طريقتنا في التعبير. لننظر إلى كلمة (عِلْم) في القرآن الكريم وفي الثقافة الإسلاميّة؛ إلى أيّ درجةٍ تُعدّ مقدّسة! فالقرآن كتابُ علمٍ، والأنبياء مُعلّمو البشريّة( عَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ.) إنّ للعلم هويّةً إلهيّة في الثقافة الدينيّة؛ فـ(هُوَ الْعَلِيمُ) وكلّ العلوم تعود إليه. ولكن، هل تُستخدم اليوم كلمة Science بالمعنى نفسه؟ وهل نعرّف التلامذة في مدارسنا إلى العلم وفق هذا المفهوم؟ ذلك الذي كنّا نسمّيه عِلْمًا في تراثنا لا يعدّه الفكر الحديث (Science) علمًا، بل يضعه في خانة (المعرفة) أو Knowledge مقابلًا للعلم، ولا يقرّ بقيمته العلميّة، كالفقه والفلسفة والكلام... إذ تُعدّ هذه من دائرة Humanities. وعلاوةً على ذلك، لم نحسن ترجمة Humanities؛ فاعتمدنا عبارة (علوم إنسانيّة) في الفارسيّة، فابتعدنا عن دلالتها الحقيقيّة. أمّا العرب، فقد اعتمدوها (إنسويّة) مثلًا، وهو أقرب قليلًا إلى المعنى الأصليّ. وبالنتيجة، وقعنا في حالةٍ من الاضطراب اللغويّ وسط هذا السياق.

ما أردتُ قوله - بالاستناد إلى عبارة كارل ياسبرز - هو أنّ أغلب تلك البلدان باتت دنيويّةً فعليًّا، ممّا جعل أهل السلطة والنفوذ فيها أوّل مَن أُعجِب بالحضارة الغربيّة. فمن هم هؤلاء أصحاب النفوذ؟ إنّهم في البداية السفراء ورجال البلاط، كما نلاحظ في إيران حين شعروا بالمزاحمة الغربيّة. وكان سؤالهم الأوّل: (أيّها الغربيّ، من تكون؟) لأنّهم وجدوا الشمال والجنوب وجميع الأنحاء تخرج من أيديهم. وعندما اتّجهوا لاستكشاف الغرب، رأوا أنفسهم ــ في الواقع ــ ينجذبون إليه. ولقد نقل الغربيّون رؤاهم المعرفيّة عبر قنواتٍ مختلفة، كتلك المحافل الماسونيّة والمنظّمات المماثلة. ونجد أنّ القاجاريّين بدأوا علاقتهم بالغرب على أنّه خصم، لكنّ الأمراء والشخصيّات البارزة في البلاط القاجاريّ نفسه صاروا ماسونيّين، وكذلك التجّار الذين سافروا إلى الغرب أُصيبوا بنوعٍ من الانبهار به. أمّا في العالم الإسلاميّ، فقد كان العلماء الدينيّون الفئة الأخيرة التي واجهت العالم الحديث؛ إذ إنّ الفئة التي كان يُفترَض بها أنْ تتصدّى له في المقام الأوّل كانت الأكثر انجذابًا إلى الحياة الماديّة، ونشأ عندها نوعٌ من نسيان الذات والتوجّه نحو الضفّة الأخرى. وهكذا عمل الغرب على ترسيخ رؤيته للكون والإنسان في أوساطهم، فبرزت حالةٌ يُطلِق عليها البعض (الغربزدگي) (الافتتان بالغرب).

لا أعلم بأيّ لفظٍ عبَّر العرب عن هذه الظاهرة تحديدًا؛ فمثلًا في سياق الاستشراق أو الاستغراب، ثمّة وجهٌ لدراسةٍ واعيةٍ تحليليّة، أمّا هنا فقد نشأت حالةُ افتتانٍ تجاه ذلك الآخر قبل الوصول إلى طورٍ دراسيٍّ أو تحليليّ. أطلق البعض على هذه الحالة مسمّى (الاستسباع)، أي التحوّل إلى ما يشبه الضاري المُسْتَسْبِع، وهو المصطلح الذي تناوله العلّامة الطباطبائيّ في حديثه عن الإنسان. يقول إنّه لا يوجد في الإنسان فعلٌ يصدر عنه بالجبر المحض؛ بل قد يقع الفعل بالإكراه أو الاضطرار؛ لأنّ الإنسان مفطورٌ على الإرادة والحرّيّة والاختيار. فطالما نعدّ ما يقع من فعلٍ منسوبًا للإنسان، فلا بدّ أنّه صدر عنه بإرادته. متى نقول إنّ الإرادة منتفية؟ عندما تُقيَّد يداه ورجلاه تمامًا بحيث لا يكون للعمل صلةٌ بإرادته. إذًا مفهوم الجبر بمعناه المطلق غير واردٍ في حقّ الإنسان، نعم قد نقع في الاضطرار أو الإكراه؛ كأن يقول أحدهم: (لو لم أفعل هذا لأدّى إلى موت طفلي)، أو (لو امتنعتُ لقُتلت). وبعض هذه الحالات اضطرار، وبعضها إكراه، ولكلٍّ منها حكمه الفقهيّ المختلف. لكنّ الجبر بمعناه الحقيقيّ غير موجودٍ في أفعال الإنسان؛ لأنّ إرادته حاضرةٌ دائمًا. فحتى حين يطيع أو يخضع، يفعل ذلك بعد حسابٍ واختيار؛ يقول في نفسه: (أنا مضطر، فلو لم أفعل لسقط عليّ الجدار وأهلكني)، أو (لو لم أفعل لأطلق النار عليّ وقتلني)، أو (إنْ لم أوافق فسيجوع طفلي أو يمرض). ومن ثَمّ يتّخذ قراره بالبيع أو الفعل ليدفع الضرر. إذًا فالإنسان دائمًا يعمل بإرادته، والإرادة متوقّفةٌ على الوعي والإدراك. لا يمكن لأحدٍ أنْ يمارس إرادةً أوسع ممّا يعيه؛ قد يعلمُ شيئًا ولا يعمل به، أمّا ما لا يعلمُه إطلاقًا فلا يستطيع أنْ يتّخذه مَحلًّا لإرادته.

الإنسانُ المُستَسْبِع هو ذاك الذي يطارده سَبُعٌ أو مُفترس. والناسُ في هذا الموقف أنواعٌ عدّة:
أحيانًا يهجمُ المفترسُ على شخصٍ فيفرّ هاربًا، فيتسلّق شجرةً لا يقدر المفترسُ على صعودها، فينجو بحياته.
وأحيانًا يمرّ المفترسُ من مكانٍ ما، فيسرعُ الشخصُ نحو بيته ويغلق الباب على نفسه.
وأحيانًا أخرى يكون المفترسُ في طريقه ولا يهتمّ بالبشر أصلًا، وقد لا يكون جائعًا ولا يعنيه أمرُ ذلك الشخص، فيكتفي الإنسانُ بالجلوس جانبًا ريثما يبتعد المفترسُ من دون أن يتعرّض له.

إنّ هذه الأحوال كلّها لا تسمّى استسباعًا. أمّا حالة المُستَسْبِع فهي عندما يرى الإنسانُ الأسدَ (أو السّبع) يمرّ بالقرب منه من دون أنْ يلتفت إليه، ولكنّه هو الذي يقرّر ألّا يدعه وشأنه؛ بل يتبعه حيثما يمضي، إلى أن يجوع الأسدُ فيعود إليه ويهجم عليه ويفتك به. عندئذٍ نقول: كيف حصل هذا؟ هل أُجبر الرجلُ على ذلك؟ طبعًا لا، الأمر ليس إجبارًا، بل اختار بنفسه أنْ يسلك هذا السلوك. فما سرّ هذا الاختيار؟ وما آليّته؟

ذلك لأنّ الإنسان يتحرّك ضمن دائرة وعيه. ففي اللحظة التي يرى فيها الأسد، يسيطر عليه تصوّر السّبع وهيبته إلى درجةٍ يعجز فيها عن استحضار أيّ تصوّرٍ أو احتمالٍ آخر. لا يرى إلّا صورة الأسد وطريقة مشيه، فيحاكيه ويمشي مثله، فيُسمّى (فاعلًا بالعناية)؛ لأنّه ما إنْ ينطبع في ذهنه إدراكُ وجود الأسد حتى لا يعود يتصوّر شيئًا آخر يفكّر فيه. فالتفكير يتطلّب وجود خيارين أو أكثر للمقارنة بينهما، أمّا إذا لم يتوفّر إلّا خيارٌ واحدٌ في مخيّلته، فلا يبقى أيّ معنى للتردّد أو الشكّ.

بعضُ الناس في منامهم قد ينهضون ويمشون في أماكن لا يستطيعون عبورها لو كانوا في حال اليقظة. يمشون مثلًا على حائطٍ أو جدارٍ مرتفع. ولكن بمجرّد أن توقظهم يسقطون. ما الذي يجري هنا؟ وفي حالة اليقظة، قد يحصل أنّك تركضُ على طريقٍ ضيّقٍ فوق حائطٍ ارتفاعه عشرون مترًا وعرضه خمسون سنتيمترًا، وربّما تقطع خمسين مترًا سيرًا عليه دون أن تلتفت إلى الخطر، ولو بقيت غافلًا لاستطعت المتابعة أو العودة بلا سقوط. ولكن بمجرّد أن تنتبه إلى الهاوية أسفلك، تخاف وتفقد التوازن فتسقط في الحال؛ لأنّ رهبة الوقوع في الفراغ تسيطر على كيانك، فتَحجُب عنك التفكير في أيّة إمكانيّةٍ أخرى. وهكذا تغفل عن قدراتك وعن المسارات البديلة التي كان بإمكانك سلوكها. هيبةُ الهاوية وحدَها تملأ وجدانك، فتتلاشى سائر احتمالات النجاة.

والإنسان الذي يتبع المفترس بهذه الكيفيّة يُقال له: مُستَسْبِع؛ إذ لا يتمثّل في ذهنه شيءٌ سوى الأسد وطريقة مشيه، فلا يقدر على الوقوف والتراجع، فيسقط ويهوي إلى الهلاك.
عندما يستولي هيْبَةُ هيمنةِ الغرب على بعض الناس، يندفعون وراءه بأنفسهم. لا حاجةَ له بفعل شيءٍ يُذكَر. وهذا ما فعله فرعون؛ إذ يقول القرآن الكريم( فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ)، ومعنى (استخفّ) أنّه أراد لهم الذلّ والهوان. وبالطبع هيّأ مقدّماتٍ كي يحقّق ذلك؛ كان يقول: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ؟) فما إنْ أظهر فرعون عظمته وسلطانه، شعروا بصِغَرهم، وحين استصغروا أنفسهم أطاعوه. لم يُجبِرهم على ذلك، بل كفى أن يُعظّم نفسه.

في عالم الحيوان نرى أحيانًا سلوكًا مشابهًا؛ ففي الهجوم، قد يُظهر أحد الحيوانَين نفسه أكبر مما هو عليه، فيكفي للطرف الآخر أنْ يرى في ذاته الصِّغَر فتدُبّ فيه الرهبة والاستسلام، وهو ما يمكن وصفه بـ (الاستسباع). فمثلًا، الحمامة لديها أجنحةٌ تستطيع الطيران، فيما الحيّة لا تطير. مع ذلك، قد تأتي الحيّة لالتهام فراخ الحمامة، فبعض الطيور تقاوم وتذود عن عشّها؛ يُقال إنّ طائر السنونو مثلًا يذهب في الصحراء ويجلب شوكةً، ثمّ يعود ويضعها عموديًّا في فم الحيّة وهي فاغرةٌ فمها لتلتهم الصغار، فتغرز فيها الشوكة وتعجز الحيّة عن إغلاق فمها، فتفرّ. وهكذا يُظهِر حتّى طائرٌ صغيرٌ قدرةً على مقاومة العدوّ.

أمّا بعض الطيور الأخرى، فإذا لمحت الحيّة، فإنّها تستسلم وتطير مباشرةً نحو فمها، كأنّ مشهدَ الحيّة يملأ كيانها رهبةً فلا تتصوّر خيارًا آخر سوى الارتماء في فمها. وهذا تحديدًا هو (الاستسباع)؛ هيْبة المفترس تسيطر على الضحيّة حتّى تفقد إمكانية الاختيار. وكثيرًا ما تُوظَّفُ هذه الحيلة للقضاء على الخصم؛ فيحاول الحيوان القويّ تكبيرَ ذاته واتّخاذ وضعيةٍ مخيفة تُرعب الخصم، إلى أن يستسلم من تلقاء نفسه دون مقاومة. وهكذا، بخطواتٍ يتّخذها الضحيّة نفسُه، يُمسي خاضعًا. ومع اختلاف درجات هذه الحالة، يظلّ المبدأ واحدًا في ظاهرة الاستسباع.
في العلاقات بين الثقافات، قد تظهر هذه الظاهرة نفسها؛ إذ إنّ الثقافة الغربيّة حين تواجه ثقافاتٍ باتت دنيويّة، كما يقول ياسپرس، ولم يعد لديها تراثٌ حيٌّ أو روحانيّةٌ نابضةٌ أو برهانٌ وشهودٌ حقيقيّ، بل ترتكز فقط إلى التقليد، فيغدو وجودها فعليًّا مادّيًّا ودنيويًّا. فإذا واجهت تلك الثقافة الدنيويّة قوّةً أقوى منها، قد يؤدّي ذلك إلى فقدانها كلّ شيء.

وابن خلدون يشير إلى هذه الفكرة حين يقول إنّه إذا غلب قومٌ قومًا آخر، وقبل المغلوبُ سيادة الغالب، فإنّه يندرج تحت سلطانه وتتحوّل لغته وسائر عناصر هويّته. فعلى سبيل المثال، يروون عن بعض الأقوام الواقعة تحت سلطة المغول أنّ رجالها، تقليدًا للمغول الذين لا يربّون اللّحى، صاروا يعدّون اللّحية قبحًا، فتبدّل ذوقهم الجماليّ تمامًا.

أمّا العالم الحديث، فلم تنحصر هويّته في مجرّد قوّته المادّيّة. صحيحٌ أنّ هذه القوّة تستعمل أدواتها، بيد أنّه عندما يمتلك القوّة الثقافيّة، فإنّه يحقن ثقافته أيضًا، لتنعكس على الهويّة برمّتها وتبدّلها. وهذا ما اتّسم به العالم الحديث؛ فمشكلة الاستعمار لم تكمن في قوّته العسكريّة فحسب، إذ لو اقتصر الأمر على ذلك، لأدّى إلى تغييراتٍ محدودة، كاستبدال اللغة أو التأثير في جانبٍ معيّنٍ من الحياة. ولكنّ المسألة هي في الرؤية التي يحملها هذا العالم تجاه الكون والإنسان، وفي أنّه يبسط نفوذه بهذه الرؤية ويُلبسها قوّةً وسلطانًا.
ومن جهةٍ أخرى، قد يأتي الفاتح حاملًا ثقافةً معينة كما حصل مع الإسلام؛ حيث نقرأ في القرآن الكريم: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا.)

فلما حصل فتح مكّة، تتابع الناس أفواجًا في الدخول بالإسلام، متأثّرين بقوّته. وهكذا تصبح الثقافةُ في ظلّ هذه القوّة عاملًا مهيمنًا في تغيير المنظومات الفكريّة والسلوكيّة لدى الأمم الأخرى.
أمّا في الاستعمار وفي العالم الحديث، فإنّ الكلمة التي يسعى هذا الأخير إلى نشرها لا تمتّ بصلةٍ إلى التوحيد ولا إلى عالم الأساطير؛ بل تطلّ علينا صورةٌ جديدةٌ كلّيًّا عن العالم والإنسان. فالمغول، على سبيل المثال، لم يأتوا بصورةٍ مغايرةٍ للوجود والإنسان؛ لذا كان يمكن لسيرة العالم الإسلاميّ الروحيّة أن تفرض نفسها عليهم في ظرفٍ جديد. أمّا هنا، فنحن أمام رؤيةٍ جديدة، وهويّةٍ حديثةٍ تنفذ إلى الواقع، وتترافق مع قوّةٍ مهيمنة، فتُحدِث في الطرف الآخر حالةً من (الاستسباع)؛ حيث يمضي هؤلاء بأنفسهم وراءها. تراهم يغيّرون لهجتهم إلى الإنجليزيّة أو الفرنسيّة، ويتبدّل لباسهم. وقد ورد في الحديث «مَن تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ»، وذلك يعني أنّ هذا التشبّه يحصل بسعيٍ من المرء نفسه.

غير أنّ هذه الحالة من الافتتان بالغرب (التغريب) أو الافتتان بالقوّة قد تكون في سياقين مختلفين: فإن كانت تلك القوّة المهيمنة تمتلك هاجسًا حقيقيًّا للوصول إلى الحقّ، فقد يقرّبك ذلك من الحقيقة عبر اقتداره. وأمّا إن كانت هذه القوّة تسعى إلى تأمين مصالحها الاقتصاديّة أو السياسيّة، فهي ترغب في إبقائك ضعيفًا كي تبقى لك وظيفةٌ محدّدة في منظومتها. في هذه الحالة، قد تطلب التشبّه بها، وهي تمنحك ما تشاء وفقًا لحاجاتها. فإذا احتاجت إلى تقنيّين، أعطتك قدرًا من التقنيّة والخبرات يلزمها لسوقٍ استهلاكيٍّ معيّن. لكنّها لن تنقل إليك ما يمكّنك من منافستها فعليًّا. كما قد تمنحك بعض العلوم لتُضعِف من قدرتك على المقاومة. ومن هنا نرى نشأة الاستشراق (Orientalism)؛ فالطرف الغربيّ بحاجةٍ إلى دراسة الشرق بوصفه موضوعًا (Object) ليعرف كيف يتعامل معه. وبوساطة هذا التصوّر الجديد، يقدّم تفسيرًا دنيويًّا لهويّتك يقوم على احتياجاته هو.

وعندما تتلقّى أنت هذا التفسير وتدرسه، تبدأ بتأويل ذاتك وتأويل مكّة والمدينة والدين من منظارٍ مادّيٍّ صرف، فيغدو كلّ ذلك تراثًا قديمًا غير فاعل. وهكذا تتآكل التقاليد التي تشكّل عوامل المقاومة، ليصبح الطريق مفتوحًا للسوق الاستهلاكيّ الذي يحتاجه الغرب، وتُفتَح الأبواب لتعزيز الهيمنة الاقتصاديّة والسياسيّة. بالطبع، أدّى هذا كلّه إلى نشوب تناقضاتٍ داخليّةٍ في المنظومة الغربيّة نفسها، ما أسفر عن انقسامها إلى معسكرٍ شرقيٍّ وآخر غربيّ. في المحصّلة، نجد البلاد المستعمرة التي تحاول الدفاع عن نفسها تلتزم أيضًا بمفاهيم المنظومة الحديثة وبمصطلحاتها في مقاومتها. وقد تطرّقتُ إلى هذه المباحث خلال دروسي، وأشرتُ إلى بعضها في كتاب (حديث پيمانه).
إنّ هذا التفسير مثيرٌ للتأمّل وجديدٌ من ناحيةٍ ما، إذ يخالف التصوّر السائد بأنّ العصر الذهبيّ للاستعمار قد ولّى وانتهى؛ ففي الواقع، الاستعمار الحديث بات أكثر قوّةً ونفوذًا في مستوياتٍ متعدّدة، أشدّ بكثير من هيمنته في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

ولهذا السبب، نجد أنّ أولئك الذين أدركوا الاستعمار السياسيّ والاقتصاديّ دون أن يلتفتوا إلى الاستعمار الثقافيّ، حاولوا منافسته بالتشبّه به كي يبلغوا مرتبته؛ أي إنّهم لم يغادروا دائرته فعليًّا. كانوا يرغبون في جلب علومه ومعارفه، بينما هو ــ في الحقيقة ــ لا يريد سوى استغلالهم؛ لقد عقد العزم على القضاء عليهم، فينتفع من هذه الظروف ليفرض مزيدًا من الأسر لهم، مُلقيًا ببعض المعارف كي يَشتدّ ارتباطهم به، بل إنّه قد يمنحهم في الظاهر وهم الاستقلال.

لاحظوا أنّ لدينا نوعَيْن من العلوم الإنسانيّة. هناك علمٌ يُسمّى (الاستشراق). هذا العلم ليس بعِلمٍ تجريبيّ (ساينس)، بل هو من العلوم الإنسانيّة (هيومنيتيز)، يتناول دراسة العادات والتقاليد وثقافة منطقةٍ ما. ومَن يحتاج إلى هذا العلم؟ إنّهم الساسة وصنّاع القرار. فوزارة المستعمرات الفرنسيّة مثلًا هي التي كانت بحاجةٍ إليه؛ ولهذا لم يكن الاستشراق تابعًا لوزارة العلوم لديهم، بل لوزارة المستعمرات.

وفي المقابل، هناك علم (علم الاجتماع)، وهو بحاجةٍ إلى تفسيرٍ علميٍّ (Science). لقد تطلّع الغربيّون إلى علم الاجتماع من أجل دولهم ومجتمعاتهم؛ لدراسة قضايا العمل والمهن والحرب والسلم، وشؤون المدينة والريف وغيرها.

عندما ندرس علم الاجتماع، إذا راجعتم كتب مبادئ علم الاجتماع أو مقدّمات علم الاجتماع، ستجدونهم يذكرون أنّ الفرق بين الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع هو أنّ الأنثروبولوجيا تُعنى بالمجتمعات غير الغربيّة، بينما علم الاجتماع ينصبّ على الدول الصناعيّة. إنّ الأنثروبولوجيا، في الواقع، لا تُعَدُّ علمًا تجريبيًّا (ساينس)؛ بل تضع باقي الثقافات موضع الموضوع (Object) . يحتاج المستعمِر إلى هذا، ليفهم كيف يبيع سِلَعَه في تلك المجتمعات: ما الألوان التي يفضّلونها؟ ما الذي يكرهون وما الذي يحبّون؟ كيف يجب أن يتعامل معهم؟ وكيف يتصرّف أمامهم؟ إنّها حاجات ضروريّة للاستعمار.
في البداية، يستجيب الاستشراق لحاجة المستعمِر، لكنّه فيما بعد يُسخَّر لتغيير هويّة أبناء الشرق. أي إنّه يدرَّس ويُنشر ليُنتِج هويّاتٍ تعريفيّة أو بطاقاتٍ تعريفيّة (شهاداتٍ) لهؤلاء، فيُعاد تشكيل رؤيتهم لذواتهم وتُغيَّر هويّتهم، ويتمّ إعادة بناء تقاليدهم بمنظورٍ حديث. تصوّروا كيف يوجّهونكم إلى القيام بتفسيرٍ معيّنٍ لدينكم؛ فهل تبقون بعده مؤمنين كما كنتم؟ إنّ هذا يمنحكم هويةً جديدة بالكامل؛ إذ عبر دراسة تاريخ الدول، يُعيدون رسم الآفاق بين الأرض والسماء بأسلوبٍ يجعل السماء أمرًا دنيويًّا. كلّ هذا يُدرَّس بهدف تغيير التقاليد والهويّات. لا حاجة إلى أن يفرضوا ذلك عليكم؛ فأنتم من تلحّون عليهم لتتعلّموا، وترسلون أبناءكم بأموالكم الخاصّة لينشئوا أنظمةً علميّةً جديدة!

في المقابل، كان لديهم علمٌ آخر يُسمّى (علم الاجتماع). وهذا العلم يرمي إلى التفسير، بهدف التمكّن من التوقّع والسيطرة، ولم يكن يهتمّ بتلك البلدان أصلًا. مَن بدأ الاهتمام بها؟ في عقد الستّينيّات، مثلًا، وذلك لأنّ المعسكر الشرقيّ حينها بدأ ينافس الغرب، ويجتذب إليه بعض الدول والمجتمعات. فصار ينبغي للغرب أنْ يفسِّر أحوال تلك البلدان ويدرسها، ليفهم كيف يتعامل معها كي لا تقع في فلك المعسكر الآخر.

تحوّل (علم اجتماع التنمية) إلى حقلٍ يُعنى بقضايا التخلّف والدول غير الغربيّة، فصار موضوعًا للدراسة في إطار العلم الحديث؛ يتساءل: لماذا هذه البلدان متخلّفة عن الركب؟ لماذا لم تصبح مثلنا؟ لماذا هي على هذا الحال؟ هكذا جاء مشروع (النقطة الرابعة) لترومان وما شابه، كي يحولوا دون انجرار دولٍ كإيران نحو الماركسيّة، فربّما بتقديم بعض التحسينات لا تستطيع القوى المنافسة استمالتهم إليها.
ومن ناحية أخرى، التفت بعض الباحثين من دول الشرق إلى (علم اجتماع التخلّف)، فدرسوه وهم يدّعون أنّ الاستعمار أو (البلوك الغربيّ) هو الذي يحول دون تقدّم بلدانهم، فظهرت منافساتٌ من هذا القبيل. أمّا نحن، فجلبنا علم اجتماع التنمية إلى بلدنا، بما يتضمّنه من طروحاتٍ ونظريّاتٍ غربيّة، ولا نزال - بعد أربعين عامًا - ندرّس تلك النظريّات نفسها، ونتساءل :لماذا لم نصبح مثلهم؟

في المقابل، حاول فريقٌ من المفكّرين الدينيّين أنْ يقاوم هذا التوجّه، فقالوا :إنّ مصطلح (التنمية) يعكس رؤيةً أحاديّة الخطّ للتاريخ، فلنستخدم بدلًا عنه مصطلح (التقدّم)، ونقدّم نموذجًا إسلاميًّا للتقدّم .لكنّ الواقع أنّ هناك من جهةٍ مؤسّساتٌ وجامعاتٌ تسير في خطٍّ آخر، ومن جهةٍ أخرى، هؤلاء الذين يحاولون طرح أساسٍ مختلف لا يملكون لا بنيةً تعليميّة كافية، ولا كوادر بشريّة، ولا تمويلًا، واكتفوا بمجرّد وجود مبانٍ بلا إمكاناتٍ فعليّة. وهنا يتّضح عمق المعضلة.

لقد ذكرتُ هذا مثالًا واحدًا لأُبيّن أنّ العلوم الحديثة حين تُنقَل إلى بيئتنا لا تحلّ مشكلاتنا، بل قد تخلق لنا مشكلاتٍ جديدة.
في مواجهة هذا المدّ الاستعماريّ المشتمل على أبعادٍ معرفيّة وثقافيّة وفكريّة، فضلًا عن مسائله الاقتصاديّة، كيف يمكن بلوغ الاستقلال الحقيقيّ أو المقاومة الفعليّة؟ بمعنى آخر، ما نقطة الانطلاق لجريان الإصلاح والإحياء في البلدان التي خضعت للاستعمار أو وقعت في براثن الانبهار بالغرب؟

لقد شهدنا التفاتًا جزئيًّا إلى هذا الموضوع لدى بعض مفكّري العالم العربيّ. فمثلًا، ألقى مالك بن نبي ضوءًا ما عليه، وربّما كان حسن حنفي من أوائل الذين تنبّهوا إلى هذه المسألة حين طرح (الاستغراب) في مقابل (الاستشراق). أمّا مدى نجاحه في ذلك، فهذا شأنٌ آخر. وقد انتبه بعض الغربيّين أنفسهم، كالفلاسفة الوجوديّين إلى هذه القضيّة؛ إذ إنّ أوّل النظريّات التي ظهرت لمواجهة هذا الواقع – كما في حقل علم اجتماع التنمية – قد انبثقت أساسًا من الغرب ذاته، في إطار صراعاته الداخليّة، كالتجاذب بين المعسكر الشرقيّ والغربيّ. فهؤلاء عارضوا الليبراليّة بسلسلةٍ من الأطروحات الاشتراكيّة والشيوعيّة. أمّا الوجوديّون الذين تناولوا وجهًا آخر من نظريّات الاستعمار، فكان فيهم نزعةٌ يساريّةٌ نسبيًّا، واهتمامٌ بالجوانب النظريّة والفكريّة للقضيّة. هذا التوجّه يعطي اعتبارًا للتباينات الثقافيّة، لكنّ تأويله يبقى في نهاية المطاف علمانيًّا أو ما بعد حداثيّ.

ما أعنيه هو أنّه لم يدخل أحدٌ بعمقٍ في هذه المسألة من منطلق الثقافة الدينيّة. ومع ذلك، لاحظ كثيرون أنّ مشكلة الاستعمار ليست مجرّد بعدٍ سياسيٍّ أو اقتصاديّ فحسب، بل تكمن في أنّه لا يسمح لنا بأنْ نصير مثله. كثيرون اليوم يتساءلون: ألا يوجد نموذجٌ آخر غير الليبراليّة؟ ومع هذا، لم يتّخذوا هذه الإشكاليّة بوجهها الثقافيّ والحضاريّ العميق. أجل، نجد مثلًا أنّ لدى حسن حنفي شيئًا من هذه الرؤية، لكنّ تفسيره للثقافة والحضارة لا يخلو أحيانًا من النزعة الحديثة.

إنّ العالم الإسلاميّ عالمٌ دينيّ؛ لذا فإنّ الانتباه إلى الأبعاد العميقة والأساسيّة في الثقافة والحضارة الغربيّة أمرٌ مهمّ. فمن يمكنه الاضطلاع بتلك المهمّة؟ وما الأسس الجوهريّة لثقافتنا وحضارتنا الإسلاميّة؟ إنّ بناء معرفةٍ تنهضُ من قلب تلك الثقافة هو الذي يزوّدنا بنظريّةٍ فاعلةٍ في المواجهة. أمّا إذا واصلنا العمل وفق ركائز الثقافة الحديثة، فسواءٌ التقطنا ما يقوله الغرب من دون تمحيص، أو حاولنا مقاومته ضمن أُطُره النظريّة نفسها، سنظلّ في الهامش نسعى للانتقال إلى المتن. وفي أفضل الأحوال قد ننتهي إلى نموذجٍ شبيهٍ باليابان، التي باتت غربًا جديدًا – وذلك حتّى بداية السجال! ــ أو نغدو صينًا تُنافِس الغرب، لكنّها خارجةٌ من أنقاض الفكر الماركسيّ وغيرها من التوجّهات، فلا تكاد تمثّل الصين التاريخيّة، إنّما هي غربٌ جديد في صورةٍ أخرى.
إنّ هذا الغرب انتشر وتمدّد في أنحاء العالم، فدخلت أجزاؤه في صراعاتٍ داخليّةٍ أفضت إلى تبادل المواقع بين الهامش والمتن. فتغدو الصين قوّةً جديدةً، وتتحوّل الولايات المتّحدة بدورها إلى هامشٍ في نظر بعضهم، ويتصوّرون أنّ الخلاف يدور حول هذه التبدّلات في موازين القوى. أمّا المقاومة الحقيقيّة، فهي تلك القائمة على المفاهيم الجوهريّة والأسس المركزيّة للثقافة الدينيّة والإسلاميّة، أي تلك التي تستند إلى الرؤية الدينيّة للهويّة الوجوديّة (الأنطولوجيّة) ونوعيّة تعاملها مع الكون والإنسان، فتقف في مواجهة الإطار العامّ للعالم الحديث والغرب المعاصر الذي غمر الأرض.

هذه المقاومة لا بدّ أن تخرج من عباءة المنظومة الحديثة برمّتها؛ أي أنّ يُعاد تأويل العالم انطلاقًا من أسس الثقافة الدينيّة، كي تتبلور منافسةٌ فكريّةٌ وجدلٌ حقيقيّ وقدرةٌ على الممارسة والعمل. وهنا نصل إلى بحث إمكان تحقّق الشأن الدينيّ في عالمنا المعاصر، وكيفيّة حصوله، وهو ما نؤجّل الخوض فيه إلى فرصةٍ لاحقةٍ إنْ شاء الله.
نسأل الله لكم التوفيق، وشكراً لكم على إتاحة هذه الفرصة.