البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الفلسفة الإفريقيّة ومناهضة الاستعمار الثقافيّ _ رؤى ومقاربات

الباحث :  د. دعاء عبد النبي حامد
اسم المجلة :  الاستعمار
العدد :  3
السنة :  ربيع _ 2025 م
تاريخ إضافة البحث :  April / 13 / 2025
عدد زيارات البحث :  150
تحميل  ( 616.245 KB )
تتناول الدراسة جهود الفلاسفة الأفارقة في مواجهة الاستعمار الثقافيّ، إذ تسلّط الضوء على دور الفكر الفلسفيّ في مقاومة الهيمنة الثقافيّة التي فرضها الاستعمار الغربي على الشعوب الإفريقيّة. تبدأ الدراسة بتحليل السياق التاريخيّ والثقافيّ التي نشأت فيها هذه المقاومة، مشيرة إلى تأثير الاستعمار على هويّة الشعوب الأفريقيّة. كما تستعرض الأُطر النظريّة التي تبناها الفلاسفة الأفارقة في تصديهم للاستعمار الثقافيّ، مثل فلسفة العودة إلى الجذور والتركيز على تراث القيم الإفريقيّة. تركز الدراسة على أبرز الفلاسفة الأفارقة مثل فرانز فانون، والشيخ أنتا ديوب، ونجواجي وا ثيونجو، وكواسي وريدو، وأشيل مبيمبي وتعرض أفكارهم حول التحرّر الفكريّ والتخلّص من التبعيّة الثقافيّة. في النهاية، تستعرض الدراسة التحدّيات التي واجهها الفلاسفة الأفارقة في هذا السياق، وكذلك التأثيرات المستمرة لهذه الجهود على الفكر الإفريقيّ المعاصر.


الكلمات المفتاحية:
الاستعمار الثقافيّ- اللغة - الهويّة- المركزيّة الأوروبيّة- الفلسفة الإفريقيّة- العولمة الثقافيّة.

مقدّمة
«في الغزو الاستعماري، تفعل اللغة للعقل ما يفعله السيف لجثث المستعمَرين»
«إذا كنت تفهم جميع لغات العالم ولكنّك تجهل لغتك الأم، فهذا هو الاسترقاق»
«استخدم اللغة الإنجليزيّة ولكن لا تدع اللغة الإنجليزيّة تستخدمك»[2]
يمثّل إنهاء الاستعمار الثقافي في إفريقيا مرحلةً حاسمةً في تاريخ القارة الإفريقية، حيث تسعى الدول الإفريقيّة إلى استعادة هويّتها وثقافتها الأصيلة بعد قرونٍ من السيطرة الاستعماريّة، التي فرضت قيمًا ومعتقداتٍ وثقافاتٍ خارجيّة على الشعوب الإفريقيّة. يُعدّ هذا الجهد جزءًا لا يتجزّأ من عملية التحرّر الوطنيّ والسياسيّ، التي شهدتها القارّة منذ منتصف القرن العشرين.

تحت سيطرة الاستعمار، فرضت القوى الأوروبيّة لغاتها، وأنظمتها التعليميّة، وقيمها الثقافيّة على المجتمعات الإفريقيّة، ممّا أدّى إلى تهميش الثقافات والتقاليد المحلّيّة. ومع بدء حركات الاستقلال، ظهرت الحاجة إلى ضرورة إعادة بناء الهويّة الإفريقيّة، والحفاظ على التراث الثقافيّ، وتعزيز اللغات الأصليّة، والفنون، والمعتقدات الدينيّة التي كانت مهدّدةً بالاندثار. مع بداية استقلال الدول الإفريقيّة في منتصف القرن العشرين، أدرك القادة والمفكّرون أهميّة استعادة الهويّة الثقافيّة بوصفها جزءًا لا يتجزّأ من بناء الدولة الحديثة. فلم يكن الاستقلال السياسي كافيًا لتحقيق التحرّر الكامل، بل كان من الضروري أيضًا التحرّر من السيطرة الثقافيّة التي ظلّت تشكّل عائقًا أمام النهضة الفكريّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة في القارّة السمراء.

تمثّل إشكاليّة إنهاء الاستعمار الثقافيّ في إفريقيا تحدّيًا في كيفيّة استعادة الهويّة الثقافيّة الأصيلة للأمم الإفريقية بعد عقود طويلة من السيطرة الاستعمارية، وتتجلّى هذه الإشكاليّة في السُبل التي يمكن من خلالها للأمم الإفريقيّة إعادة بناء هويّتها الثقافيّة وسط تأثيرات العولمة التي تعزّز التبعيّة الثقافيّة للقوى الغربية، فبينما تسعى الدول الإفريقيّة إلى إحياء تراثها الثقافيّ، تواجه في الوقت ذاته تدفقًا مستمرًا للثقافات والأنماط الغربية عبر وسائل الإعلام والاقتصاد العالمي، ممّا قد يؤدّي إلى استمرار التبعيّة الثقافيّة بشكلٍ جديد. أيضًا تتمثّل إشكالية إنهاء الاستعمار الثقافيّ في مدى إمكانيّة تحقيق التوازن بين الحفاظ على الثقافات التقليديّة والانفتاح على التطوّرات الحديثة، إذ يشكّل التحدّي الرئيس في محاولة حماية اللغات المحليّة والتقاليد والفنون من التهميش والطمس، وفي الوقت ذاته الاستفادة من التكنولوجيا والتعليم الحديث لتحقيق التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة. كما تتمثّل الإشكاليّة في السُبل التي من خلالها يمكن للأجيال الجديدة، التي نشأت في بيئةٍ متأثرةٍ بشدّةٍ بالثقافات الغربيّة، أنْ تتصالح مع هويّتها الإفريقيّة دون الوقوع في فخ الانعزال أو التعصّب الثقافيّ. تُبرز هذه الإشكاليّة مدى تعقيد عملية إنهاء الاستعمار الثقافيّ التي تتطلّب استراتيجياّتٍ متعدّدة الأبعاد لمعالجة التحدّيات التاريخيّة والمعاصرة التي تواجهها الدول الإفريقيّة في سعيها نحو التحرّر الثقافيّ الكامل.

إنّ الهدف من إنهاء الاستعمار الثقافيّ ليس التخلّص من النفوذ الثقافيّ الاستعماريّ فقط، بل أيضًا إحياء الروح الثقافيّة الإفريقيّة وتجديدها بطرقٍ تعزّز الفخر بالهويّة الإفريقيّة، وتجعلها قوّةً دافعةً للتنمية المستدامة والنهضة الشاملة في القارّة. هذه العملية تتطلّب جهودًا مستمرةً في التعليم، والفنون، والإعلام، والسياسة، لتعزيز التمسّك بالتراث الثقافيّ الإفريقيّ في أوساط الأجيال الجديدة. أيضًا يهدف إنهاء الاستعمار الثقافيّ إلى إعادة إحياء القيم والتقاليد الإفريقيّة التي تمّ تهميشها أو قمعها خلال فترة الاستعمار. يشمل هذا الجهد استعادة اللغات المحلّيّة، وإعادة بناء النظم التعليميّة بما يتماشى مع القيم والمعتقدات الإفريقيّة، وتعزيز الفنون والتراث الشعبيّ، بالإضافة إلى إعادة تقييم التاريخ الإفريقيّ من منظورٍ داخليّ بعيدًا عن الرؤية الاستعماريّة التي غالبًا ما شوهت أو قللت من شأن إسهامات الحضارات الإفريقيّة. تحظى مسألة إنهاء الاستعمار داخل القارّة الإفريقيّة بقدرٍ كبيرٍ من الاهتمام في الأوساط الأدبيّة والفلسفيّة في إفريقيا.

الاستعمار والثقافة الإفريقيّة
الاستعمار هو تسلّط دولةٍ أجنبيّةٍ على شعبٍ آخر يتمتّع بالسيادة سابقًا، وقد وصفه فانون أنّه قاعدةٌ للعنف حيث يكون الشرطي والجندي المتحدّثين الرسميين المرئيين يوميًا للدولة الاستعمارية. إنّه أيضًا هندسةٌ اجتماعيّةٌ بمعنى تفكيك وإعادة ترتيب التكوينات الاجتماعيّة والإقليميّة، وإعادة تشكيلها كمجتمعاتٍ جديدةٍ في حدودٍ معُاد رسمها، مع الولاء القسريّ للعلم الأجنبيّ. إنّ الدول القوميّة المختلفة في إفريقيا اليوم تشكّلت، ووضُعِت أسماؤها، من قبل الاستعمار في معظم الحالات[3].

يعبّر استعمار العقل عن مظاهر خفيّةٍ للمعتقدات السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والدينيّة التي تستحوذ على عقول الضحايا وتسيطر عليها من قبل المستعمرين. ووفقًا لدوغلاس Douglas، فإنّ استعمار العقل يفترض تدخّل القوة الخارجيّة على ستة مستويات: تدخّل المستعمِر في نفسيّة الخاضعين للاستعمار، والتدخّل المؤثّر على المجال العقلي للموضوع، والآثار طويلة الأمد التي يصعب إزالتها، والنتيجة التي هي علاقات قوّةٍ غير متكافئةٍ بين الأطراف، وإمكان أنْ تعيش الأفراد على درايةٍ أو غير مدركةٍ للعلاقات المكتسبة الجديدة، ومشاركة الأطراف في العلاقات طوعًا أو كرهًا. قد تتم هذه العملية من خلال نقل العادات العقليّة والهياكل الاجتماعيّة الأخرى على مدى فترةٍ طويلةٍ من الزمن. يمكن للأفعال الاجتماعيّة مثل التعليم والدين أنْ تكون بمنزلة وسيلةٍ حاسمةٍ لإيداع السمات الاستعمارية في عقول الضحايا. في هذه العملية، يتم تعليم الأفارقة أنْ يشعروا بالخجل من تراثهم الثقافيّ حتى يتمكنوا من التخلّص منه من حياتهم وتبنّي المعايير الأجنبيّة بوصفها ثقافةً أصيلةً وعالمية [4].

يعود جزءٌ كبيرٌ من إشكاليّة إنهاء الاستعمار الثقافيّ إلى تاريخ القارّة الإفريقيّة وتأثير الاستعمار، الذي فرض لغاتٍ أوروبيّةً مثل الإنجليزيّة والفرنسيّة والبرتغاليّة على حساب اللغات الإفريقيّة الأصلية. هذا التحوّل اللغويّ لم يكن مجرد استبدال للغة، بل كان عملية تقويضٍ للهويّة الثقافيّة الإفريقيّة؛ لأنّه عزل الفكر الفلسفيّ الإفريقيّ عن جذوره اللغويّة والثقافيّة. ومن المتأصّل في ظاهرة الاستعمار الميل إلى التخلّف، هذا التأثير للاستعمار هو ما يوضّح الحاجة لإنهاء الاستعمار، وهو ما يرقى في الواقع إلى جهد التدمير والرفض والإزالة والتغلّب على الاستعمار من خلال التدابير التي تعيد الشعب إلى مكانته وتمكنّه من التقدّم بنفسه، وليس عن طريق جهةٍ أخرى، ومن خلال الاختيارات التي تتدفّق من الطبيعة والإمكانات الثقافيّة[5].

في أعقاب مؤتمر برلين عام 1855م، الذي وافق على تقسيم إفريقيا، أُسّست المدارس الاستعماريّة لخدمة أغراض المستعمِرين؛ إذ في هذه المدارس استبدال اللغات الأوروبيّة باللغات الإفريقيّة. قاد هذا التعليم الطفل الإفريقيّ إلى النظر إلى اللغة الإنجليزيّة أو الفرنسيّة أو البرتغاليّة بوصفها لغاتٍ ذات مكانةٍ عاليةٍ، وتوفّر فرصًا مهمّة في العالم. ومع ذلك، فإنّ استقبال اللغات الأجنبيّة لم يكن خاليًا من النتائج المدمّرة. لقد تم تعليم الأطفال المستعمَرين أنْ يحتقروا لغاتهم وثقافاتهم؛ لذا لم يكن الخوف من الأسلحة الغربيّة التي قتلت الأفارقة أكثر من الخوف من التعليم الغربيّ الذي يجعل الأطفال الأفارقة يعتقدون أنّ الأفضل لا يأتي إلّا من لغةٍ وثقافةٍ أجنبيّتين. لقد قام المستعمِر بتغيير اللغة؛ لأنّه أراد تغيير الثقافة الإفريقيّة؛ لذا فالاستعمار لم يتسبب في موت اللغات الإفريقيّة فحسب، بل وفّر أيضًا أرضًا خصبةً لاستعباد الذات[6]. إنّ الادّعاء بأنّ المشروع الاستعماري لم يعدْ له تأثيرٌ على الدولة التي تم إنهاء الاستعمار فيها حديثًا، هو إساءة فهمٍ لمدى عمق تأثير المشروع الاستعماري على هذه البلدان ومواطنيها. ومن أجل التغلّب على إرث الاستعمار، من الضروري أيضًا إنهاء استعمار المشهد الفكريّ للبلد المستقل، وفي نهاية المطاف، إنهاء استعمار عقل المستعمَر سابقًا [7].

إنّ استقلال الدول الإفريقيّة في واقع الأمر مجرد تحوّل من الاستعمار القديم إلى الاستعمار الجديد. ومن ثَمّ فإنّ تحقيق الاستقلال السياسي لم يغيّر شيئًا سوى تكوين قيادات معظم الدول الإفريقيّة، مع الاحتفاظ بطابع العصر الاستعماري. ومن ثم، فإنّ حصول الدول الإفريقيّة على الاستقلال لم يدمّر الهياكل والأنظمة الاستعماريّة، بل حافظ عليها. وعلى الجانب الثقافي ظلّت إفريقيا تحت سيطرة اللغات الأجنبيّة، ولم تتحرّر من هيمنة الاستعمار الثقافيّ. ومع سيادة اللغات الاستعماريّة بوصفها لغةً مشتركةً في العديد من الدول الإفريقيّة، إلى جانب المناهج التعليميّة ذات النمط الغربيّ، ستبقى عقلية ومصير السكان الأصليين الأفارقة تحت السيطرة الاستعماريّة. ومن الواضح أنّ هناك جهدًا مستمرًا من قبل العديد من الأفارقة للهروب من فرديتهم وهويتهم أو للقضاء على وجودهم الإفريقيّ من خلال تمسّكهم بلغة المستعمِر وثقافته.

ولأنّ اللغة تؤدّي دورًا أساسيًّا في تحديد هويّة الشعوب؛ عمد الاستعمار إلى حرمان الأفارقة من التعامل بلغتهم الأصلية، وإجبارهم على التعلّم والتعامل بلغة المستعمِر. إنّ الاعتراف بأنّ الأفارقة لديهم لغةٌ إنسانيّةٌ من شأنه أنْ يضفي الشرعيّة على الفرضيّة القائلة بأنّ لديهم فلسفةً ودينًا وتاريخًا وثقافةً تعبّر عنها اللغة، وهذا ما لا يريده الاستعمار[8].
في الواقع وبخلاف الفرضية السابقة فقد تبنّت المركزيّة الأوروبيّة اتجاهًا آخر، من خلال فرضيّة التفوّق العرقيّ للغرب على حساب الشعوب غير الأوروبيّة، ودعمت فكرة الدونيّة البيولوجيّة للأفارقة وعدم قدرتهم على التفكير والأبداع من خلال الدراسات العلميّة والفلسفيّة. فقد أدّت فرضيّة الدونيّة البيولوجيّة للأفارقة إلى استعمار إفريقيا واستغلال مواردها البشريّة والطبيعيّة والاقتصاديّة كافة من جانب، وإضفاء شرعيّة استعماريّة من جانبٍ أخر؛ لذلك لا يمكن أنْ يعترف الغرب بالقدرات العقليّة والأبداع الفكري للأفارقة؛ لأنّ الاعتراف سينمّ عن هدم كلّ المعتقدات الغربيّة تجاه الشعوب الأخرى التي تم ترويجها لعدّة قرون، وبهذا الاعتراف ستنهار أسطورة التفوّق الغربي، ومن ثَمّ تنهار فكرة المركزيّة الأوروبيّة. وهذا ما يريده الغرب.

وبخلاف حرمان الأفارقة من التعامل بلغتهم الأصليّة وإجبارهم على التعلّم والتعامل بلغة المستعمِر، عمد المستعمرون أيضًا على إبقاء الشعب في جهلٍ تامٍّ من خلال اتباع عدة خطواتٍ لتعطيل أيّ تقدّمٍ في إفريقيا. فكانت البداية بالمدرسة، وهي من أهمّ العوامل التي استخدمها الاستعمار. كانت العديد من المدارس في واقع الأمر مدارس تبشيريّة مسيحيّة. إلى جانب العامل التبشيري أيضًا كان التوجّه الأدبي هو الاتجاه العامّ في المدارس الاستعماريّة، فكان الأدباء الغربيّون نماذج يُحتذى بها لدى تلاميذ المدارس الاستعماريّة بدلًا من العلماء. أمّا العامل الثالث فتمثّل في عنصر التغييب؛ فلم يكن هناك أحدٌ في المدارس الاستعماريّة يجرؤ على افتراض أنّ الأفارقة قد حاولوا عبور المحيط الأطلسي قبل كولومبس بقرون. ونتيجة ذلك؛ نسيَ أبناء القارة السمراء أنّهم أصحاب منجزات علميّة، بل نُسيَ أيضًا أنّهم أصحاب حضارة[9].

لقد أحكم الاستعمار قبضته على ثقافة الشعب الإفريقي عن طريق المدرسة الاستعماريّة والإنجيل، فكان هذا الأمر حاسمًا بالنسبة له حتّى يستطيع التحكّم عن طريق المعرفة والثقافة في الشعوب، ولقطع أيّ صلةٍ بينهم وبين الوسائل التي يتعرفون بها على هويّتهم. هذه الظروف التي أوجدها الاستعمار أدخلت الإنسان الإفريقي في حالة اغترابٍ ذي بعدين؛ اغتراب داخل وطنه الذي سُلبت فيه حريته، وامتُهنت كرامته، من المستعمِر القادم من وراء البحار، واغتراب داخل ثقافته التي أُقتلع منها لصالح ثقافةٍ وافدةٍ لا ترتبط ببيئته، ليعيش حالةً من الضعف الثقافي، حين عملت قوى الاستعمار إلى أنْ تجعل من أوروبا مركزًا للكون ولحضارة الإنسان، وعملت على تعليم إفريقيا أنْ تنظر إلى نفسها نظرةً متدنّية. فأصبحت الثقافة الغربيّة، مركز العمليّة التعليميّة في إفريقيا، ودُفعتها إلى الخلف[10]. فكان قانون المركزيّة الأوروبيّة هو شريعة تنسب الحقيقة فقط إلى الطريقة الغربيّة لإنتاج المعرفة. إنّه قانون يتجاهل التقاليد المعرفيّة الأخرى. إنّه مذهبٌ يحاول تصوير الاستعمار كشكلٍ طبيعيّ من العلاقات الاجتماعيّة بين البشر وليس كنظامٍ للاستغلال والقمع[11].

إنّ العمليّة الاستعماريّة تعمل على نقل عقل الشخص من المكان الذي يعرفه بالفعل إلى نقطة بداية أجنبيةٍ حتى مع بقاء الجسد في وطنه. إنّها عملية اغترابٍ مستمرٍ عن القاعدة، عمليّة مستمرة للنظر إلى الذات من خارج الذات. قد ينتهي الأمر بالمرء إلى التماهي مع القاعدة الأجنبيّة بوصفها نقطة البداية نحو الذات[12].

الجهود الإفريقيّة لمواجهة الاستعمار الثقافي
ارتبط مشروع إنهاء الاستعمار الثقافي بفكرة النهضة الإفريقيّة فمنذ أوائل القرن العشرين، كانت هناك علاقة بين فكرة النهضة الإفريقيّة وتحسين اللغات الإفريقيّة. وحتى عندما كان الاستعمار في ذروته، فكر المثقّفون الأفارقة في مستقبل القارة بعد تحريرها من الهيمنة الأجنبيّة[13].

ولأهميّة اللغة سعى الفلاسفة الأفارقة إلى محاربة الاستعمار المعرفي والثقافي وتأكيد دور اللغة في عمليّة إنهاء هذا النوع من الاستعمار، ففي ثلاثينيّات القرن العشرين، ظهرت جماعة الزنجيّة كحركة تمرّدٍ تهدف إلى استعادة الهويّة الإفريقيّة من الفوضى التي أحدثها الغربيّون بها. ومن خلال تطبيق مهاراتهم في الكتابة، ناضل رجالٌ مثل ليوبولد سنغور، وإيمي سيزار، بجهدٍ لإعادة توجيه العقل الإفريقي الذي تم سلبه بالفعل من قبل أيديولوجيّة الأعلى والأدنى، السيّد والعبد. يجب على الإفريقي أولًا أنْ يعيد اكتشاف نفسه بعيدًا عمّا تقوله عنه كتب التاريخ التي كتبها علماء الأنثروبولوجيا الغربيّون. يجب أنْ يرى نفسه وثقافته وعقليّته الفريدة. وهذا ما شرعت حركة الزنوجة في القيام به[14].

وفقًا لسينجور لقد أصبح الإفريقي، من خلال عمليّة الاستعمار ذاتها، مجردًا من شخصيّته، وأصبح أقلّ شأنًا، ومن ثم فقد هويّته. الهويّة المعروفة للإفريقي هي تلك التي أعطاها له سيّده الغربي. هذا الشعور بالانتماء لم يعد للذات، بل للآخر يتماشى مع الوعي بالدونيّة، والذي يتُرجم من الناحية الاجتماعيّة إلى وعي طبقي. الزنوجة هي دفء الوجود والعيش والمشاركة في انسجامٍ طبيعيّ واجتماعي وروحي. خطوة لاستعادة نفسه أوّلًا، ومن ثم تحديد علاقته بالآخرين. وهي محملة بأجنداتٍ أيديولوجيّةٍ وسياسيّة[15].

بالنسبة لبولين هونتودجي Paulin Hountondji على وجه الخصوص، كان إنهاء الاستعمار يستلزم إقامة روابط مع الفلاسفة الأفارقة في جميع أنحاء القارة لمعالجة المسائل ذات الاهتمام الجماعي. تم الاتفاق على أنّ الأفارقة العازمين على مشاريع مختلفة لإنهاء الاستعمار الفكري (ديوب؛ وا ثيونغو) يحتاجون ببساطةٍ إلى ترجمة المفاهيم الفلسفيّة الغربيّة العالميّة المفترضة إلى لغاتهم الأصليّة. وفي نهاية المطاف نجح وريدو في نشر مقال باللغة Twi بعنوان Papa ne Bone التي تعني الخير والشر[16]. كما نجح ديوب في ترجمة مقال لأينشتين للغة الولوف، وكذلك كتب وا ثيونغو بلغة الجيكوكو.

عدّ بولين هونتودجي Paulin J. Hountondji إنهاء الاستعمار بمنزلة التأكيد على أن نشاطنا العلمي ليس موجّهًا خارجيًا؛ لا يقصد به تلبية الاحتياجات النظريّة لنظرائنا الغربيين والإجابة على الأسئلة التي يطرحونها، إنّ إنهاء الاستعمار وفقًا لهونتودجي عمليّةٌ مستقلةٌ ومعتمدةٌ على الذات لإنتاج المعرفة التي تمكننا من الإجابة على أسئلتنا الخاصّة، وتلبية الاحتياجات الماديّة للمجتمعات الإفريقيّة. يعدّ إنهاء الاستعمار في السياق الإفريقي يعني؛ أولًا تغيير المناهج أو المحتوي وذلك ينطبق في الغالب على العلوم الإنسانيّة، ثانيًا تغيير معايير تحديد النصوص التي تضمينها أو استبعادها من القانون، وثالثًا تغيير التركيبة السكانيّة للطلّاب مع تعيين المزيد من الموظّفين السود، وتحويل الهيئات الأكاديميّة والإداريّة، وأخيرًا إعادة ضبط التدريس والتعلم بطريقةٍ تؤسّس علاقةً قويةً بين المعلِّم والطالب[17].
ولأنّ اللغة الإفريقيّة لا غنى عنها. تحدّث مبيتي Mbiti في كتابة الديانات الإفريقيّة والفلسفة (1969)، عن اللغة كمفتاحٍ لفهم الفلسفة الإفريقيّة عندما كتب: «هناك إمكانياتٌ كبيرةٌ لدى العلماء الأفارقة الذين يدرسون الديانة والفلسفة الإفريقيّة التقليديّة، بمساعدة الأدوات والمنهجيّة العلميّة، ومع مزايا كونهم جزءًا من شعوب إفريقيا، مع إمكانية الوصول غير المحدودة تقريبًا إلى المعلومات والتحدّث باللغات التي تعدّ مفتاحًا للبحث الجاد، وفهم الأديان والفلسفة التقليديّة»[18].

لقد وقع استخدام اللغات الإفريقيّة في الأدب بين بحث المركزيّة الإفريقيّة عن العودة إلى الحكمة الإفريقيّة ما قبل الاستعمار والسعي إلى التحرّر من العقل الاستعماري. وبالتالي، ساعد الأدب في رسم الخطوط العريضة للنهضة الإفريقيّة وتوقع إنجازاتها. ووفق هذا المفهوم العملي للأدب، سعى المثقّفون إلى استثمار القضيّة اللغويّة في القضايا السياسيّة. إنّ النهضة الإفريقيّة تتمثّل في التحرّر من المركزيّة الأوروبيّة؛ لذلك يقول نجوجي وا ثيونغو: «لقد بدأت النهضة الإفريقيّة بالفعل، لقد بدأت في اللحظة التاريخيّة عندما أصبحت فكرة إفريقيا قوة منظمة في معارضة الإمبراطوريّات الاستعماريّة الأوروبيّة»[19].
يشير أتشيبي أيضًا إلى إنهاء استعمار العقل الإفريقي كعمليّة لجعل الأفارقة يستعيدون إيمانهم بأنفسهم عن طريق التخلّص من عقدة سنواتٍ من التشويه وتحقير الذات. وفي هذا الاتجاه، من المفترض أنْ يدرك الإفريقي تمامًا الحاجة إلى أنْ يكون أصليًا، وأنْ يتحمل المسؤوليّة الكاملة عن تقدمه من أجل تطوير أيديولوجيّةٍ جديدةٍ ومبتكرةٍ يجب أنْ تتطور بطريقته الخاصّة، متضمنة تراثه الثقافي الخاص، وليس نسخة رديئة من التراث الثقافي للآخرين. والحقيقة أنّ إنهاء الاستعمار في العقل الإفريقي يشير إلى إعادة توجيه العقلية والمواقف الإفريقيّة. أي خلق أشخاص (جدد) من المستعمرَين، بناءً على ثقافتهم الأصيلة من أجل دفعهم نحو المستقبل وتمكينهم من مواجهة حاضرهم في سياق المأزق العالمي. في هذه الأمور كلّها، لا يعني إنهاء استعمار العقل الإفريقي الجهل بالتقاليد الأجنبيّة، بل إنكار السلطات الأجنبيّة، وسحب الولاء لها، ورفض كلّ ما لن يكون في صالح المستعمِرين أو يضيف قيمة لهم[20].

فرانز فانون وإنهاء استعمار اللغة
وفقًا لفرانز فانون، إنّ النضال من أجل إنهاء الاستعمار يتعلّق قبل كلّ شيءٍ بملكية الذات، فقد دعا فانون إلى أنْ ندير ظهورنا لأوروبا، وعدم أخذ أوروبا كنموذجٍ لعدة أسباب منها أنّ اللعبة الأوروبيّة قد انتهت؛ يجب أنْ نجد شيئًا مختلفًا؛ أنّ بإمكاننا اليوم أنْ نفعل كلّ شيءٍ طالما أننا لا نقلّد أوروبا[21].

ولأهميّة اللغة خصّص فرانز فانون الفصل الأول من كتابه (بشرة سوداء أقنعة بيضاء) لمسألة اللغة. يوضح فانون أنّ اللغة هي أوّل حالةٍ يستبعد منها المستعمر. إنّ استبعادك من عالم اللغة يعني استبعادك من عالم الإنسان، وهو المجال الذي يتم فيه التعامل مع البشر كبشر وتشكيلهم على هذا النحو[22]. إنّ الإنسان ــ كما يرى لفانون ــ الذي لديه لغة يمتلك العالم الذي تعبّر عنه تلك اللغة[23].

ولأنّ اللغة هي طريقة للتفكير، فعندما يتبنى الزنجي لغةً مختلفةً عن لغة المجموعة التي ولد فيها فإنّ ذلك دليلٌ على التفكّك والانفصال. لكي يصل الزنوج لدرجة الإنسان فإنهّم يقومون بتقليد المستعمِر بصورةٍ ساذجةٍ مثل ارتداء الملابس الأوروبيّة، واستخدام الأثاث الأوروبي، والأشكال الأوروبيّة للتواصل الاجتماعي، وتزيين اللغة الأصليّة بالمصطلحات الأوروبيّة، هذا كلّه يسهم في الشعور بالمساواة مع الأوروبي وإنجازاته[24]. إنّ التحدّث بلغة يعني اكتساب عالمٍ وثقافة. إنّ زنجي جزر الأنتيل الذي يريد أنْ يكون أبيض سيكون أكثر بياضًا عندما يكتسب إتقانًا أكبر للأداة الثقافيّة المتمثّلة في اللغة[25].

من خلال مناقشة فانون لقضيّة اللغة يلقي الضوء على عقدة النقص والدونيّة للزنجي المستخدم للغات المحليّة وبصفة خاصّة لغة الكريول؛ لذلك يسعى الزنجي للتقرّب من البياض بامتلاك اللغة الفرنسيّة، والتحدّث بها، وفي ذلك إشارةٌ لتخلّي الأفارقة عن لغاتهم الأصليّة نتيجة الشعور بالدونيّة إمام اللغات الأوروبيّة. فبجانب العامل السياسي والاستعماري للتخلّي عن اللغات الإفريقيّة يضيف فانون العامل النفسي أيضًا بوصفه سببًا رئيسًا للتحدّث بلغة المستعمِر، ومن ثم التقرّب أكثر فأكثر من ثقافة الغرب والتحلّي بها. وعلى النقيض البعد والتخلّي عن لغة وثقافة إفريقيا. الزنجي الإفريقي لم يكن لديه عقدة النقص فقط تجاه الغرب، بل لديه أيضًا عقدة التبعيّة؛ فهو تابعٌ للرجل الأبيض، وليس ندًّا له؛ لذلك يطالب فانون الزنوج بالتخلّص من عقدة النقص والتبعيّة، والتخلّص من المصير الواحد الذي يسعى إليه السود، وهو المصير الأبيض.

الشيخ انتا ديوب والتحرر من التبعية الثقافية
كان لجهود الفلاسفة الإثنيّين دورٌ بارزٌ في التصدّي للممارسات الاستعماريّة، من خلال البحث عن الهوية الإفريقيّة والتي تجلت في فكرة العودة إلى جذور الثقافة الأصليّة للأفارقة، ويعد الفيلسوف السنغالي الشيخ أنتا ديوب من أبرز الفلاسفة الإثنيين. دعا ديوب إلى إنهاء استعمار المعرفة والثقافة الإفريقيّة، والتمسّك باللغات المحليّة الأصيلة. وفقًا لديوب إنّ استعباد إفريقيا وشعوبها بدأ مع السيطرة على عقولهم؛ لذلك فإنّ أساس التحرّر الإفريقي والنهضة الإفريقيّة، يجب بالضرورة أنْ يبدأ بإنهاء استعمار العقل الإفريقي من خلال استعادة التاريخ الإفريقي[26]. لذلك، كانت قضيّة اللغة من أهمّ القضايا الرئيسة التي دافع عنها الشيخ أنتا ديوب، بوصفها جوهر النهضة الإفريقيّة. جادل ديوب بأنّ الأفارقة فقدوا هويّتهم وكرامتهم وتقرير مصيرهم من خلال السماح لأنفسهم بتغيير لغتهم التي كانت الوسيلة الوحيدة الواضحة في التواصل، لذلك فإنّ تطوير لغاتنا الأصلية هو شرطٌ أساسي لنهضة أفريقيّة حقيقيّة[27].

طالب ديوب بتوحيد إفريقيا حول لغةٍ واحدةٍ تكون وسيلةً للتواصل بين جميع أنحاء القارة، وعن خطوات النهضة المطلوبة للنهوض بإفريقيا بخلاف التحكّم في لغتنا التاريخيّة، طالب أيضًا بصياغة التاريخ السنغالي باللغة الإفريقيّة يجب أنْ يكون لدينا اكتشاف واستجواب لتراثنا بحيث لا يسمح الأفارقة للآخرين بأنْ يكونوا المترجمين الرئيسين لتاريخنا، ولا بدّ من التخلّي عن كلّ أشكال الهيمنة الثقافيّة أيضًا، فالأفارقة ليسوا من الدرجة الثانية رغم محاولة الاستعمار للأفارقة واستعبادهم[28].

أدرك الشيخ أنتا ديوب مشكلة اللغة بوصفها إحدى النقاط الرئيسة التي يجب أنْ تبدأ منها النهضة الإفريقيّة. في كتابه، نحو النهضة الإفريقيّة تناول هذه النقطة بصرامة، ودعا إلى استعادة الإيمان باللغات الأصليّة التي دمّرها الاستعمار. ومن جانبٍ آخر، أقتنع ديوب بأنّ اللغات الإفريقيّة ما تزال حيّةً ومتحدّثًا بها على نطاقٍ واسعٍ بين الأفارقة أينما كانت، على عكس وجهة النظر التي قادت معظم الباحثين إلى الضلال بأنّ اللغات الأوروبيّة منتشرةٌ على نطاقٍ واسع، وعلى عكس العديد من العلماء، دافع أنتا ديوب عن التخلّي التام عن اللغات الأوروبيّة. كان يعلم أنّ المعرفة الإفريقيّة لن يتم إنتاجها طالما أننا نواصل استخدام اللغات الأوروبيّة[29]. وفي ذلك يقول أنتا ديوب: «إنّ كلّ عملٍ أدبي ينتمي بالضرورة إلى اللغة التي كتب بها وبالتالي، فإنّ الأعمال التي كتبها الأفارقة باللغات الأجنبيّة تنتمي أولًا وقبل كلّ شيء إلى تلك الآداب الأجنبيّة بغض النظر عن كونها متجذرةً في تجربةٍ أفريقيّة. ويسأل ديوب قرائه: من المستفيد من الأدب المكتوب بلغةٍ أجنبيّة؟ الجواب هو، ليس الوطن! النتيجة النهائية لكتابة الكاتب الإفريقي بلغةٍ أجنبيّةٍ تثبت أنهّا مثيرةٌ للقلق؛ لأنّ التجربة الإفريقيّة تستخدم لإثراء اللغة الأجنبيّة»[30].

وعن الكيفيّة التي يتم من خلالها تطبيق تلك اللغة وفقًا لديوب «سيتم في البداية تدريس اللغة المختارة على المستوى القاري في المدارس الثانويّة في جميع الأقاليم، تمامًا كما لو كانت لغةً أجنبيةًّ إلزاميةً في المنهج». ويرى أنّ اللغة القاريّة مهمة؛ لأنّ تمثيل الواقع الإفريقي من خلال هذه اللغة لا يتعارض مع تجربة متعلّم اللغة القاريّة على عكس اللغة الأوروبيّة التي لا تعكس تجربة الإفريقي، أو لا تراعي الطلب على اللغة القاريّة. واقع بيئة المتعلّم[31].

وتجدر الإشارة إلى أنّ أنتا ديوب لم يكن ضدّ التبادل الثقافي، لكنّه توقّع بوضوح المستقبل وخطر تطوير اللغات الأوروبيّة من قبل الشعوب الإفريقيّة على حساب ثقافتهم الإفريقيّة. قادته دراسته للغة بأنّ «الدول الأوروبيّة شعرت أنّها قادرةٌ على الانسحاب سياسيًّا من إفريقيا من دون خسارةٍ كبيرةٍ طالما ظلّ وجودها (اللغوي) في المجالات الاقتصاديّة والروحيّة والثقافية». وما يثير القلق مواصلة إفريقيا في عمل المستعمِر من خلال رعاية لغته بكلّ إخلاص. يؤكّد نموذج أنتا ديوب على سياسةٍ لغويّةٍ تتميّز بالقبول والمساواة وقابلية التطبيق العملي للغات الإفريقيّة، فضلًا عن استخدامها في التعليم وفي الأغراض الرسميّة الأخرى من أجل تلبية احتياجات الشعب الإفريقي. والنتيجة النهائية هي إنهاء الاستغلال الاستعماري للشعب الإفريقي، الذي استمرّ من خلال اعتماد اللغات الأجنبيّة[32]. حاول ديوب إعادة هيكلة كاملة للجهاز المفاهيمي الذي يتعامل مع الموضوع الإفريقي. تجري هذه العمليّة واسعة النطاق في العديد من المستويّات وبالطرقتين التاليتين: إعادة النظر في مسألة التاريخ الإفريقي، وإعادة تقييم مكانة الموضوع الإفريقي في التاريخ معاصر[33].
ممّا تقدم يتمحور موقف ديوب في الاعتقاد بأنّ هناك صحوةً قويّةً بين الأفارقة ولونهم الأسود يجعلها فريدةً من نوعها للنهضة، إنّ استعباد إفريقيا وشعوبها بدأ مع السيطرة على عقولهم؛ لذلك، فإنّ أساس التحرّر الإفريقي والنهضة الإفريقيّة، يجب بالضرورة أنْ يبدأ بإنهاء استعمار العقل الإفريقي من خلال استعادة التاريخ الإفريقي؛ لذلك كان من أهمّ القضايا الرئيسة التي دافع عنها ديوب، وأكّد على جوهريّتها للنهضة الإفريقيّة هي اللغة.

وبخلاف التحكّم في لغتنا التاريخيّة، يجب أنْ يكون لدينا اكتشافٌ واستجوابٌ لتراثنا بنحوٍ لا يسمح الأفارقة للآخرين بأنْ يكونوا المترجمين الرئيسينَ لتاريخنا، بل ينبغي قراءة التاريخ الإفريقي والكشف عنه بعقولٍ إفريقيّة. وفي الحقيقية لقد بذل ديوب كثيرًا من الجهد في قراءة التاريخ الإفريقي لإثبات قيمة الحضارات الإفريقيّة وفضلها على الشعوب الغربيّة باستخدام منهجيّةٍ مبتكرةٍ تجمع بين العديد من العلوم والمنهجيّات المختلفة، لإثبات فرضيّته بالتفوق الإفريقي. وعلى الرغم من اختلافنا مع ديوب بشأن الحضارة المصريّة القديمة بوصفها حضارةً زنجيّة، إلّا أنّ جهوده تظلّ في موضع التقدير من إفريقي يمجّد التاريخ الإفريقي بحضاراته المتعدّدة ليتحدّى بذلك الفرضيّات الغربيّة المضللة وفقًا لتعبيره.

نجوجي وا ثيونغو وإنهاء استعمار العقل
إنّ نطاق مشروع نجواجي وا ثيونغو Ngugi Wa Thiongo لإنهاء الاستعمار هو نتاج دراسته الطويلة للاستعمار والظواهر المصاحبة له. بدأ وا ثيونغو بالتشكيك في الترتيبات التعليميّة الاستعماريّة الجديدة في كينيا منذ أواخر الستينيّات. وفي كتابه في السياسة يقول: «دعونا لا نتلاعب بالألفاظ، فالحقيقة هي أنّ محتوى مناهجنا، والمنهج في الأدب وعرضه، وآلية تحديد اختيار النصوص وتفسيرها، كانت جميعها جزءًا لا يتجزّأ من الإمبرياليّة في شكلها الاستعماريّة الكلاسيكي، وهي اليوم جزءٌ لا يتجزّأ من الإمبرياليّة نفسها، ولكنّهم الآن في مرحلتها الاستعماريّة الجديدة»[34].

يربط وا ثيونغو بين مستوى الثقافة والمستوى السياسي والاقتصادي حيث يقول: «على مدى الأربعمائة عام الماضية، كانت إفريقيا جزءًا لا يتجزأ من نمو وتطور الرأسماليّة العالميّة، بغض النظر عن درجة تغلغل الرأسماليّة الأوروبيّة في الداخل. لقد ازدهرت أوروبا، بسبب تدمير القارة والاستغلال الوحشي للملايين، مع عواقب وخيمة على المجالات الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة والأدبيّة»[35]. يرى وا ثيونغو أنّ الهدف من الاستعمار هو الاستيلاء على أراضي الشعوب، وقد يتخذ هذا شكل الاحتلال المباشر، أو من خلال السيطرة غير المباشرة من خلال حكومةٍ وإدارةٍ استعماريّة، والهدف واحد هو تأسيس بنيةٍ اقتصاديةٍ، وبالتالي نظام طبقي تستطيع الدولة المستعمرة السيطرة عليه. وعلى الرغم من أنّ استغلال المستعمَرات يعود بالنفع على الدولة المستعمِرة فإنّ الطبقات الحاكمة في البلدان المستعمرة هي التي تستفيد من الممتلكات الاستعماريّة والاستعماريّة الجديدة. لكن لكي تكتمل السيطرة الاقتصاديّة والسياسيّة تحاول القوة الاستعماريّة السيطرة على البيئة الثقافيّة من تعليمٍ ودينٍ ولغةٍ، وكلّ أشكال التعبير لتسيطر على قيم الناس، وفي نهاية المطاف على نظرتهم للعالم وصورتهم، وتعريف ذاتهم[36].

على المستوى المعرفي يقول وا ثيونغو: «كان استعمار العملية المعرفيّة هو التجربة اليوميّة في الفصول الدراسيّة الاستعماريّة في أيّ مكان. في المرحلة الثانويّة من المذكرات التي أكتبها حاليًا، أسجل القصة نفسها: اللغة الإنجليزيّة والأدب والتاريخ والجغرافيا. سيخبرك أيّ كيني من جيلي أنهّم يعرفون العديد من المعالم الطبيعيّة والتاريخيّة في لندن التي لم يروها من قبل فترة طويلة من معرفتهم بشارع واحدٍ في عاصمتهم، ناهيك عن الأنهار الرئيسة في بلادهم. وعلى حدّ تعبير إدوارد بلايدن Blyden Edward المعلّم الإفريقي العظيم في القرن التاسع عشر: (لقد تغنّوا بتاريخهم، الذي كان تاريخ انحطاطنا. لقد سجّلوا انتصاراتهم التي كانت تحتوي على سجلات إذلالنا. ولسوء حظّنا الكبير، تعلّمنا تحيّزاتهم وأحكامهم وعواطفهم، واعتقدنا أنّ لدينا تطلعاتهم وقوتهم)»[37].

يرى واثيونغو في إفريقيا بعد الاستعمار شكلًا جديدًا للاستعمار من خلال وكلاء أفارقةٍ جددٍ يستكملون مهمة الاستعمار القديم، هؤلاء الوكلاء هم الأكثر استفادةً من الاستعمار بشكله الحالي. كما يرى أنّ لتسهيل مهمة الاستعمار ينبغي السيطرة على مقومات البيئة المستعمرة كلّها من اقتصادٍ وسياسةٍ وثقافةٍ، ومن تسهل السيطرة على الشعوب المستعمرة، بل أكثر من ذلك شعور الشعوب المستعمَرة بالامتنان للمستعمِر صاحب الحضارة الأكثر تقدّمًا. وفقًا لنجوجي وا ثيونغو: «إنّ الهدف من إنهاء الاستعمار هو رؤية أنفسنا بوضوح في علاقتنا مع أنفسنا وعلاقة أنفسنا مع الكون، وكان الأمر يتعلّق برفض الافتراض القائل بأنّ الغرب الحديث هو الجذر المركزي لوعي إفريقيا وتراثها الثقافي، وأنّها مجرد امتداد للغرب، وقد رسم نجوجي مضامين عملية حول الثقافة والأدب، وكانت معظمها مرتبطة بإصلاح المناهج الدراسيّة، وكان من بين الأمور الحاسمة في هذا الصدد الحاجة إلى تعليم اللغات الإفريقيّة، ورأى أنّ أي جامعة انتهى استعمارها في إفريقيا أنْ تضع اللغات الإفريقيّة في قلب مشروعها التعليمي»[38].

لتوضيح أهميّة اللغات الإفريقية يبدأ ثيونغو كتابه إنهاء استعمار العقل بالقول: «إنهاء استعمار العقل هو وداعي للغة الإنجليزيّة كوسيلة لأيٍّ من كتاباتي؛ من الآن فصاعدًا أصبحت الجيكويو والسواحيلية على طول الطريق. في الواقع، يمكن القول إنّ اللغة تشكّل التوجه الرئيس للإنهاء استعمار العقل. تتفق أطروحة أوبي ولي Obi Wali مع نجواجي حيث كانت أطروحته هي أنّ القبول غير النقدي للغة الإنجليزية والفرنسية كوسيلةٍ حتميةٍ للكتابة الإفريقية المتعلمة هو أمرٌ خاطئ، وليس لديه أيّ فرصةٍ لتطوير الأدب والثقافة الإفريقيّة. بمعنى آخر، أنّ أيّ أدبٍ أفريقي حقيقي يجب أنْ يكُتب باللغات الإفريقيّة، وإذا لم يتبع الكتاب هذا الاتجاه فإنّهم سيتبعون طريقًا مسدودًا لا يؤدي إلّا إلى العقم وعدم الإبداع والإحباط»[39].

لقد كانت اللغة أهمّ وسيلةٍ سحرت من خلالها السلطة واحتجزت الروح. وإذا كانت الرصاصة وسيلة القهر الجسدي. فكانت اللغة وسيلة الإخضاع الروحي. ويؤكد أيضًا أنّ اللغة تمتلك طابعًا مزدوجًا؛ لأنّها وسيلة اتصالٍ وناقلةٍ للثقافة. ويؤكّد بأكثر من طريقةٍ على دور الثقافة في تطوّر اللغة كمخزن للهويّة الجماعيّة للشعب وذاكرته وتطوّره. يرى وا ثيونغو أنّ نظام التعليم الذي اعتمدته معظم المناطق المستعمرة سابقًا كان مليئًا بالعيوب الخطيرة؛ لأنّه كان منفّرًا ثقافيًّا. إنّ الطفل الاستعماري أجبر على رؤية العالم، وأين يقف فيه كما يراه ويعُرفه أو تنعكس في ثقافة اللغة المفروضة (لغة المستعمِر) ثم يضطر الطفل الاستعماري إلى رؤية لغاته الأصليّة من خلال عدسة المكانة المتدنية، والإذلال، والعقاب الجسدي، والذكاء والقدرة البطيئين، أو الغباء التام، وعدم الفهم والهمجيّة[40]؛ لذلك يطالب نجوجي بالتخلّي عن اللغات الأوروبيّة التي فرضها الاستعمار لصالح اللغات الإفريقيّة الأصلية. بالنسبة للأفارقة الذين يواصلون الكتابة بلغةٍ أوروبيّة، فهو يرى أنّهم مجرد تقليد يمرّ بمرحلة انتقاليّة، تقليد أقلية لا يمكن وصفه إلّا بالأدب الإفريقي الأوروبي[41].

وفقا ل وا ثيونغو ليس من شأن الأفارقة إضفاء الطابع الإفريقي على اللغة الإنجليزيّة أو الفرنسيّة أو الألمانية أو نزع العنصريّة عنها كما يقول المدافعون عن هذه اللغات في الفلسفة الإفريقية، «ولكن من شأننا أنْ نعبّر عن أنفسنا بلغتنا الخاصّة التي من شأنها تعزيز ثقافتنا». وأشار إلى أنّ المجموعة الحالية من الفلاسفة والعلماء الأفارقة تتكهن بما يجب أنْ تكون عليه الفلسفة الإفريقيّة، أو التاريخ الإفريقي، أو الأدب الإفريقي أو أيّ شيءٍ آخر دون أنْ تنجح في تحديد ماهيّتها وتوضيحها. وعلى حدّ تعبيره «إنّنا نفشل في القيام بذلك؛ لأننا نستخدم التصنيفات اللغويّة الغربيّة المستعارة لتحليل مادة ومحتويات فكرنا وفقًا لقيم هذه المقولات الغربيّة المحدّدة مسبقًا، فقط لينتهي بنا الأمر في حلقةٍ مفرغة»[42].

إنّ معارضة وا ثيونغو للغة الاستعماريّة تميل إلى أيديولوجيا (التحكم في كيفيّة إدارة الأفارقة لحياتهم اليوميّة، وعالمهم العقلي، وتصوّرهم لأنفسهم وعلاقتهم بالعالم). ومن ثَم، مثل غيره من المحافظين، فقد دعا أيضًا إلى ضرورة البدء في ممارسة الفلسفة الإفريقيّة باللغات الإفريقيّة الأصليّة[43]. بالنسبة لنجوجي، يجب وضع إفريقيا في المركز. «التعليم هو وسيلة لمعرفة أنفسنا وبعد أنْ فحصنا أنفسنا، ننطلق إلى الخارج ونكتشف الشعوب والعوالم من حولنا. ومع وجود إفريقيا في مركز الأشياء، وعدم وجودها كملحقٍ أو تابعٍ لبلدان وآدابٍ أخرى، يجب النظر إلى الأمور من المنظور الإفريقي. كل الأشياء الأخرى يجب أنْ تُؤخذ في الاعتبار من حيث صلتها بوضعنا وإسهامها في فهم أنفسنا. ونحن في اقتراحنا هذا لا نرفض تيّارات أخرى، وخاصّة التيار الغربي. نحن فقط نرسم بوضوح الاتّجاهات ووجهات النظر التي ستتخذها دراسة الثقافة والأدب حتما في إحدى الجامعات الإفريقيّة»[44].

إنّ أيّ مشروع لإنهاء الاستعمار الفكري واللغوي وفقًا لوا ثيونغو هو بالضرورة عمليّةٌ واسعة النطاق تنطوي على رؤية ووعي عالميين. وا ثيونغو، الذي يشبه مشروعه لإنهاء الاستعمار اللغوي مشروع وريدو، سينشر في نهاية المطاف بعض رواياته بلغة الجيكويو كوسيلةٍ لمعالجة المتطلبات العملية لقضيته. جادل وا ثيونغو بأنّ إنهاء الاستعمار كان مشروعًا متقنًا للتعافي العقلي بدءًا من اللغة. وكان على المستعمَرين سابقًا أنْ يتعلموا من جديد كيفية التفكير والتصرّف بلغتهم الخاصّة[45]. إنّ مشروع وا ثيونغو لإنهاء الاستعمار لا يقتصر على الاستعمار الثقافي فقط، بل يمتد إلى الوضع الاقتصادي والسياسي. يهتم مشروع وا ثيونغو بإنهاء استعمار الإمبريالية على نطاق عالمي؛ لذلك يؤكد على ضرورة توحيد الشعوب المضطهدة في جميع أنحاء العالم من أجل مواجهتها. وبعبارةٍ أخرى، إذا كانت ديناميكيات الإمبريالية ذات طبيعةٍ عالمية، فإنّ القوة المضادة لها يجب أنْ تكون عالميةً أيضًا في التعبير عنها[46]. يتفق وا ثيونغو مع فانون على أنّ إنهاء الاستعمار هو عمليةٌ جذريّةٌ يتعين فيها على الطبقات المضطهدة في جميع أنحاء العالم أن «تتبنى نظرةً علميةً ماديةً للعالم حول الطبيعة والمجتمع الإنساني والفكر الإنساني»[47].

وفقًا لما تقدّم، يتفق وا ثيونغو مع الشيخ أنتا ديوب على ضرورة استخدام اللغات المحليّة والتعليم باللغات الإفريقيّة، كما يتفق معه على ضرورة تعليم الصغار باللغات الإفريقيّة نظرًا؛ لصعوبة التعلم باللغات الأجنبيّة كونها تتطلّب مجهودًا أكبر من قبل الأفارقة. أيضاَ اتفق على ضرورة رؤية أنفسنا من خلال اللغات القوميّة نظرًا لتشوية رؤية ذواتنا من خلال لغاتٍ وثقافاتٍ غربيّة لا تعبّر عن هويّة وثقافة الشعوب الإفريقيّة ما يجعل الإفريقي يشعر بالاغتراب عمّا يعرفه عن ذاته بوسائل معرفةٍ غريبةٍ عنه. وعلى الرغم من اتفاق وا ثيونغو وديوب على ضرورة استخدام اللغات الإفريقيّة إلّا أنّه لا يتبع ديوب في ضرورة توحيد لغةٍ إفريقيّةٍ واحدةٍ على مستوى القارة ربما لصعوبة هذه العمليّة، فالقارة الإفريقيّة تمتلك كثيرًا من اللغات المحليّة، فبأيّ لغةٍ يتم التعامل بها؟ إنّ اختيار لغةٍ واحدة من بين اللغات الكثيرة سيؤدي إلى وجود احتقانٍ لدى أصحاب اللغات الأخرى، فلكلّ مجموعةٍ عرقيّةٍ لغةٌ تعتزّ بها، وسوف ترغب بشدّة في استخدام لغتها لغةً قاريّةً، ومن ثم فإنّ استخدام لغةٍ واحدةٍ ربما يعمل على التشتت والتمزّق بين الشعوب الإفريقيّة أكثر من وحدتها كما يريدها ديوب.

كواسي وريدو وإنهاء الاستعمار المفاهيمي

توجد أسباب كثيرة لتبنّي موقف نقدي مضاعف تجاه مشاكل ونظريات الفلسفة الغربيّة لا سيّما تجاه مقولات الفكر المضمنة فيها. الأسباب تاريخيّة. لم يكن الاستعمار فرضًا سياسيًا فحسب، بل كان فرضًا ثقافيًا أيضًا. تأثرت الديانات والأنظمة التعليميّة بشكلٍ خطير. أريد أنْ ألاحظ مباشرة جانبًا من نظام التعليم الذي أدخله الاستعمار والذي له صلةٌ فلسفيّةٌ خاصّة. وهو يتألّف من حقيقة أنّ التعليم تم تقديمه بلغةٍ أجنبيةٍ أو بأخرى [48].

وبكلّ إنصاف، لا يمكن لوم المعلّمين على هذا. لقد تم التعاقد معهم لتعليمنا الفلسفة الغربيّة، وهذا ما فعلوه. في الواقع، ربما كان من الأفضل أنْ يبدأ الفلاسفة الأفارقة المعاصرون بسجلٍ نظيفٍ تمامًا عندما بدأوا في فترات ما بعد الاستقلال للبحث في الفلسفة الإفريقيّة. ولكن، كما يحدث، أجريت الدراسات الدينية والأنثروبولوجية على وجهات نظر العالم الإفريقي في أقسام الدين والأنثروبولوجيا، وكانت تميل إلى احتواء عناصر ذات صلةٍ بالفلسفة الإفريقيّة، على الرغم من أنّ هذه الدراسات لم تكن فلسفيةً من الناحية الفنيّة، فإنّها أجريت ليس فقط باللغات الأجنبيّة، مثل الإنجليزيّة والفرنسيّة والألمانيّة، ولكن أيضًا من حيث مقولات الفكر الميتافيزيقي الغربي التي أصبحت مقبولةً على نطاقٍ واسعٍ في الثقافة الغربيّة[49].

فرُض الاستعمار سياسيًّا؛ بالإضافة إلى ذلك، كان بمنزلة فرضٍ ثقافيّ للتعليم والقيم الغربيّة على إفريقيا. والنتيجة هي تفسير التجربة والفكر والعقليّة الإفريقيّة بمصطلحاتٍ أجنبيّة. لقد أدخل الاستعمار التعليم الغربي إلى إفريقيا، ويتم التدريس والتعليم بهذا المعنى بلغةٍ أجنبيّةٍ أو أخرى. إنّ آثار هذا التعليم على نظام القيم وهويّة الأفارقة معقدة. إنّ الإفريقي اليوم، كما كتب وريدو يعيش في تدفّقٍ ثقافيّ يتميز بتفاعلٍ مشوشٍ بين التراث الثقافي الأصلي والإرث الثقافي الأجنبي ذي الأصل الاستعماري. هذا التدفّق الثقافي له تأثير الفرض التاريخي الفائق لمقولات الفكر الأجنبيّة على نظام الفكر الإفريقي، «هذا الفرض الفائق، لا يؤدي فقط إلى تشويه وجهات النظر الإفريقيّة العالميّة. كما أنّها «يمكن أنْ تكون مسؤولةً عن العديد من حالات عدم الاستقرار في المجتمع الإفريقي المعاصر؛ لذلك فإنّ أفضل طريقةٍ بالنسبة لوريدو لتجنب هذه التشوهات وغيرها من المشاكل الضمنية المرتبطة بالاستعمار المفاهيمي والعقلي هي من خلال التفكير في المشاكل الفلسفيّة في اللغات الإفريقيّة. هذه هي فكرة إنهاء الاستعمار المفاهيمي. في بعض مقالاته «الحاجة إلى إنهاء الاستعمار المفاهيمي في الفلسفة الإفريقية» يدعو وريدو إلى استخدام اللغات الإفريقيّة في كلّ مجالٍ يمكن تصوّره من المساعي البشريّة، ويرى أنّه لا يمكن تحقيق الكثير من التقدّم في تدريس الفلسفة الإفريقيّة، والبحث فيها دون إنهاء الاستعمار المفاهيمي[50]. وفقًا لوريدو «ما يثير الإشكال ليس ببساطة أنّ القارة الإفريقيّة كانت مستعمرة، بل حقيقة أنّ الاستعمار كان قادرًا على تحقيق اختراقاتٍ عميقةٍ في نفوس الشعوب في معظم أنحاء إفريقيا، وأنّه نجح في حثّهم على العقليّة الاستعماريّة»[51].

تحدّث وريدو عن مشروعة لإنهاء الاستعمار المفاهيمي في كتابين رئيسين: الفلسفة والثقافة الإفريقية 1980م، والعالميّات الثقافيّة 1996م. يعدّ مشروع وريدو ذا أهميّةٍ فلسفيةٍّ بحتة؛ لأنّه يركز على مفاهيم فلسفيّةٍ معروفةٍ جيدًا مثل الحقيقة، والعقل، واللغة، والديمقراطيّة، والأخلاق. ولأجل إنجاح مشروع وريدو يحتاج إلى ثلاثة أنواع من الكفاءات: أولًا، معرفة الثقافات واللغات الغربيّة وتأثيرها المدمّر على الثقافات المحليّة؛ ثانيًا، الإلمام الشديد بالثقافات واللغات الأصليّة قبل تغلغلها بالتقاليد الغربيّة؛ وثالثًا، امتلاك البراعة المفاهيميّة والكفاءة اللازمة لمواجهة الإرث الاستعماري المبهم في كثيرٍ من الأحيان. هذا المخطّط لم يفتح لوريدو طريقًا لاستجواب الآثار المتبقية من المواجهة الاستعماريّة فقط، بل فتح طريقًا يمكن من خلاله تنفيذ مجموعةٍ متنوّعةٍ من المشاريع الحديثة. من الناحية المفاهيميّة، يعدّ مشروعه تاريخيًّا وفلسفيًّا وتجديديًّا؛ ولهذا السبب يمكن تطبيقه على مجموعةٍ لا حصر لها من السياقات الإفريقيّة. وعلى عكس العديد من القوميين المتطرّفين الذين يفضّلون عدم رؤية أيّ شيءٍ ذي قيمةٍ في المواجهة الاستعماريّة والثقافات الغربيّة بشكلٍ عام، تتضمن مساهمة وريدو تقييمًا نزيهًا للوضع الوجودي الحالي في إفريقيا، وتأمّلًا رزينًا في الخيارات المفاهيميّة المتاحة لإنهاء الاستعمار. ومن ثَمّ فهو يطرح السؤال الأساسي: ما الذي يمكننا استعادته من ماضينا مع الاحتفاظ بما هو مفيد في الحاضر؟ وبهذه الطريقة، يصبح بقاء الذات الإفريقيّة، التي تعتبر من هذا المنظور وجوديّة إلى حدٍّ كبير، أمرًا بالغ الأهميّة[52].

تشير ملاحظات وريدو المفاهيميّة إلى أنّ الأفارقة يتخلصون من الاستعمار عندما يتراجعون عن التأثيرات الغربيّة غير المبررة، أو يتجرّدون منها. هناك ثلاث مراحل في عملية إنهاء الاستعمار هي: التفسير، والتقييم، والبناء. يشير التفسير إلى محاولة المجتمع استعادة ما يفكّر فيه بنفسه، وهذا هو عمل استخلاص وتوضيح المفاهيم الأساسيّة التي يتم تنفيذها ضمن طقوسه وممارساته ولغاته وأساطيره، والنقطة الأساسية في هدف البحث التفسيري هو حالة (رؤية مواد الفكر الإفريقي في سياقها الحقيقي). أما التقييم فيقصد به المطالبة بالفحص النقدي. وعلى الرغم من أنّ هذا المطلب ينطبق على كلّ من المواد الفكريّة الأصلية والأفكار الغربيّة، إلّا أنّه يتوافق مع مستويات مختلفة من الشك. على سبيل المثال، لمّا كانت الأفكار الاستعماريّة جزءًا من مخطّط الهيمنة، فيجب على الباحث أنْ يفحصها بعنايةٍ فائقة. ومع ذلك، يظل التقييم مسألة تقييمٍ نقديّ لكلّ من الأفكار الإفريقيّة والمواقف الغربيّة التي من المحتمل أنْ تتعارض معها على أُسسٍ مستقلة. وتتضمن مرحلة البناء أفكارًا عن الاستغلال المفاهيمي لتطوير النظريّات، والمشاركة في الأبحاث الإيجابيّة، وتعتمد هذه النظريّة على التفسير والتقييم[53].

أدّى فهم وريدو لإنهاء الاستعمار المفاهيمي إلى تغييرٍ كبيرٍ في المرتكزات المفاهيميّة للنقاش حول إنهاء الاستعمار السياسي. كان يجب أنْ يكون هذا الأخير مصحوبًا بتمرينٍ متقنٍ على التحرّر العقلي. عندها فقط يصبح بوسع الأفارقة تعزيز الشعور بالكرامة الجماعيّة، واستعادة أشكال الوعي كافة، وتجهيز أنفسهم بالأدوات اللازمة لمواجهة المستقبل بقوةٍ متجددة[54].
قدّم وريدو انتقاداتٍ لكلٍّ من الحداثة المستوحاة من الغرب وتراثها الفلسفي العام، من ناحية، والثقافة الإفريقيّة الأصلية، من ناحيةٍ أخرى[55]. فقد حاول وريدو التوليف الثقافي بين الحداثة الأوروبيّة والثقافة الإفريقيّة التقليديّة. وهدفه هو الترويج لطرقٍ أخرى لإدراكها غير تلك التي توفّرها اللغة الإنجليزيّة ومفاهيمها. ووفقا له «إنّ الطريقة التي تعمل بها لغتك يمكن أنْ تهيئك لعدّة طرقٍ للتحدث، وفي الواقع، لعدّة طرقٍ للتفكير. يجب أنْ يتطلّب إنهاء استعمار العقول استعادة تعدّديةٍ من الأساليب بفضل ممارسة اللغات الإفريقيّة. ومع ذلك، فهي مجرد خطوة أولى؛ لأنّه بمجرد تحقيق ذلك، يجب استعادة الحوار بين الثقافات»[56].

إنّ عملية إنهاء الاستعمار المفاهيمي يمكن وصفها بأنّها عملية إعادة بناءٍ فكريّةٍ من خلال الفهم والتوضيح المفاهيمي. ويمكن القول أيضًا إنّ إنهاء الاستعمار المفاهيمي ينطوي على استخدامٍ مقارنٍ لمختلف اللغات الإفريقيّة في التفكير الفلسفي بهدف الحماية من الاستيعاب غير النقدي للمخططات المفاهيميّة المتأصّلة في اللغات والثقافة الأجنبيّة. وفي الوقت نفسه، يهدف إلى تعزيز الفهم المناسب للأسس الفكريّة للثقافة الإفريقيّة بالإضافة إلى ذلك، سوف تحرّرنا فلسفة إنهاء الاستعمار من العقليّة الاستعماريّة، وتساعدنا على تحديد أي المشكلات الفلسفية تكون محايدة أو عالمية، وسوف يساعد على إزالة الغموض في الاستخدامات اللغويّة التي يمكن أنْ تعيق عمليّة مقارنة الأفكار بين الثقافات بشكلٍ عام، تتضمن فلسفة إنهاء الاستعمار التناقضات اللغويّة، والدراسات المقارنة، والتوضيح المفاهيمي وفهم القضايا والمشكلات الفلسفيّة، باستخدام اللغات الأصليّة الإفريقيّة[57].

وفقًا لوريدو بما أنّ إنهاء الاستعمار، هو عمليّة مفاهيميّة عالية، فإنّ هذا يعني أنّه يجب أنْ تكون هناك دراسات مكثّفة لعناصر الثقافة التي تقوم بأدوارٍ مهمّة في تكوين المعاني في مختلف وجهات النظر الإفريقيّة العالميّة. من بين هذه العناصر تبرز اللغة. لا يمكن للمرء أنْ يأمل في فصل الافتراضات المفاهيميّة التي تم فرضها تاريخيًّا على تشكيلات الفكر الإفريقي دون فهم وثيق للغات الأصلية المعنية. هذا يصف على الفور منهجيّةً معيّنةً في دراسة الفلسفة التقليديّة الإفريقيّة. وببساطة، فهو ينصّ على أنّه ينبغي التركيز على الدراسات التفصيليّة المتعمّقة للفلسفات التقليديّة لشعوب أفريقيّة محدّدة بوساطة باحثين يعرفون اللغات المستخدمة جيّدًا[58].
يرى وريدو ضرورة البحث عن أفكار الفلاسفة الأصليين الذين يسهمون في الفلسفات المجتمعيّة للمجتمعات التقليديّة ودراستها. هؤلاء المفكّرون الأصليّون، يستحقّون الدراسة في حدّ ذاتها. إنّ الدراسات من هذا النوع التي تعدّ أكثر خصوصيّة لديها القدرة على إنهاء الاستعمار. من المحتمل أنْ يساعد ذلك في محو الانطباع الذي نشأ في المعالجات الاستعماريّة والمستوحاة من الاستعمار للفكر الإفريقي بأنّ إفريقيا تفتقر إلى المفكّرين الفرديين ذوي الأصالة الفلسفيّة[59]. إنّ الفلاسفة الأفارقة في عصرنا لا يمكنهم العيش من خلال إنهاء الاستعمار وحده، ولكن أيضًا من خلال الاستجواب المباشر للواقع. ما الحقيقة، والخير، والحرية، والوقت، والسببية، والعدالة؟ ما هو أصل الكون، ومعنى الحياة، ومصير النفس البشرية؟ ما هي مبادئ التفكير الصحيح؟ ما هي أفضل طرق اكتساب المعرفة؟ يعترف وريدو بأنّ الاستعمار قد قدّم تفسيراتٍ مشوّهة لمفاهيم الأجداد حول العديد من هذه القضايا. كما يعترف أنّه في بعض الحالات قد تحتاج هذه المشكلات إلى إعادة الصياغة. ومع ذلك، علينا نحن الأفارقة المعاصرين أيضًا واجب طرح اقتراحات بشأن هذه الأمور. عند القيام بذلك، سيتعين علينا أنْ نأخذ بعين الاعتبارات لتراثنا الخاصّ، كما يفعل الفلاسفة في الثقافات الأخرى بشكل روتيني[60].

إنّ مشروع وريدو لإنهاء الاستعمار يتطلّب استبدال المفاهيم الغربيّة بالمفاهيم الإفريقيّة، وهذا يتعارض بشكلٍ مباشرٍ مع العولمة التي تسعى إلى جمع العالم من خلال العمليّة الرقميّة للإبداع التكنولوجي المرتكزة على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. وهذا يجعل إنهاء الاستعمار المفاهيمي، الذي كان من المفترض أنْ يكون مهمةً بسيطةً تتمثّل في مجرد التخلّي عن المفاهيم الغربيّة أو الأجنبيّة من قبل الفلاسفة الأفارقة المعاصرين، يجعله تحدّيًا فكريًّا صعبًا ومعقّدًا. ومن الواضح من هنا أنّه مع العولمة، لن يكون التخلّص من الاستعمار المفاهيمي مجرد مشروع فلسفي يسعى إلى استبدال المفاهيم الأجنبيّة بالمعادل الإفريقي لهذه المفاهيم؛ لذا يصبح السؤال هنا؛ هل من الممكن استبدال جميع المفاهيم الأجنبيّة بشكلٍ شاملٍ في خطابنا الفلسفي في عالمٍ معولم؟[61]

إنّ استبدال اللغات الأجنبيّة باللغات الإفريقيّة قد يعرض الحوار بين الثقافات للخطر؛ لذلك لا بدّ من إيجاد أداة اتصالٍ مشتركةٍ بين الثقافات، ومن الغريب أنّ الإصرار على الجانب الحواري لإنهاء الاستعمار الذي يجب القيام به دفع نجوجي وا ثيونغو إلى إعادة الاتصال باللغة الإنجليزيّة مرةً أخرى، على الرغم من أنّه يستخدم لغة الجيكويو دائمًا في رواياته، إلّا أنّه فضّل اللغة الإنجليزيّة لكتابة مذكّراته. تشير هذه العودة إلى اللغة الإنجليزيّة في الواقع إلى الدور الذي يأمل المؤلّف أنْ تمنحه اللغة الإنجليزيّة، وهو دور لغةٍ مشتركةٍ، قد يجعل من الممكن نسج روابط بين الثقافات؛ ولذلك استخدم استعارة الجسر للتعبير عن وجهة النظر هذه. وفقا له «الشيء المهم حقًا هو رؤية الروابط. فقط عندما نرى روابط حقيقية يمكننا التحدّث بشكلٍ هادفٍ عن الاختلافات والتشابه والهويّات. في الواقع؛ إنّ التحدّي الذي يواجه، على سبيل المثال، معلمي الأدب الإنجليزي أو الأدب الإفريقي أو الآسيوي، هو التعرّف على تلك الجسور وإيجادها والبناء عليها»[62].

أصبحت اللغة الإنجليزيّة عامل حدود بين مختلف البلدان الإفريقيّة، ولكن أيضًا بين السكّان السود في القارة وفي الشتات. وبالتالي، وفقًا لهم، فإنّ اللغة الإنجليزية لديها دورٌ تلعبه في عصر النهضة الإفريقيّة من خلال حقيقة المكانة الإمبراطوريّة التي لا تزال تتمتع بها حتى اليوم. وكما قال نجوجي وا ثيونغو «الترجمة هي إحدى الطرق التي يمكن من خلالها ضمان إمكانيّة الوصول إلى الموارد باللغات الإفريقيّة، إنّ التفلسف باللغات الإفريقيّة مباشرة، والمحادثة بين اللغات الإفريقيّة، ومن ثَمّ عبر اللغات الأخرى من خلال الترجمات، هو السبيل الوحيد الذي يمكن لإفريقيا من خلاله إضافة الأصالة إلى ثروة المعرفة الإنسانيّة، وإثراء العالم كما فعلت في مصر القديمة»[63].

إنّ الترويج للغات الإفريقيّة لا يعني، بالنسبة لنجوجي وا ثيونغو وكواسي وريدو، أنْ يقتصر المرء على نطاقٍ وطني أو حتى عرقي، بل هو وسيلةٌ لإصلاح العلاقات الدوليّة حتى تتمكن جميع الثقافات من الالتقاء والحوار. يمكن أنْ تكون اللغة الإنجليزيّة أداةً استراتيجيّةً لجعل المحادثة المثاليّة هذه قابلةً للتحقيق. ونظرًا لوضعها المهيمن اليوم، فهي بمنزلة ناقلٍ قادرٍ على بناء الجسور بين مختلف ثقافات القارة، وإعادة تأسيس المثل الأعلى لعموم إفريقيا[64].

ظلّ المثقّفون من إفريقيا والمغتربون يأملون منذ فترةٍ طويلةٍ ولادة القارة من جديد بعد المآسي التي عاشها سكّانها. وسرعان ما برزت مسألة اللغة التي يجب استخدامها كنقطةٍ عَقَدِيةٍ في التزاماتهم، بحيث بدا استخدام اللغات الاستعماريّة السابقة يعيد إنتاج شكلٍ من أشكال الهيمنة الغربيّة إلى ما لا نهاية. بالنسبة لنجوجي وا ثيونغو وكواسي وريدو، فإنّ النهضة الإفريقيّة، إذا كان لا بدّ من حدوثها، فلا يمكن أنْ تتم دون إنهاء الاستعمار الروحي المسبق، وهو ما يعني بالضرورة إحياء اللغات الإفريقيّة. وبدون ذلك، فإنّ أيّ ولادةٍ جديدةٍ ستكون جزئية؛ لأنّها ستكون دائمًا منقوشةً في نماذج القوى الإمبراطوريّة السابقة[65].
ممّا سبق اتفق وريدو مع وا ثيونغو على ضرورة استخدام اللغات الإفريقيّة، وضرورة تحرّر العقل من الاستعمار الثقافي، كما اتفق معه على أهميّة استخدام اللغات الأجنبيّة وعدم إحداث قطيعةٍ معها، إلّا انّه لم يتحوّل للكتابة باللغة الإفريقيّة كما فعل وا ثيونغو. وعلى الرغم من أهميّة مشروع كواسي وريدو لإنهاء الاستعمار المفاهيمي، حيث طالب وريدو برد المفاهيم والمصطلحات الإفريقيّة لأصولها وعدم تغليف المفاهيم الإفريقية بمقولات الفكر الغربية، وعلى الرغم من محاولة وريدو التوفيق بين التقليد والحداثة وعدم رفض كلّ ما يأتي من الغرب، وعدم إحداث قطيعةٍ معرفيّةٍ مع الثقافات الغربيّة، والحثّ على التواصل مع الثقافات الأخرى، مع ذلك كلّه لم يسلم مشروع وريدو لإنهاء الاستعمار المفاهيمي من النقض.

أشيل مبيمبي وإنهاء استعمار المعرفة
إنّ التعليم في المنافسة الإفريقيّة يتطلّب تجديدًا ليكون أكثر موثوقيّة وإنتاجية. تحتاج المعرفة إلى توليد أشكالٍ جديدةٍ من المواقف حتى تكون وظيفيّةً وذات صلةٍ بموضوع الحياة الإفريقيّة. وهذه الدعوة هي ما تمثّله دعوات إنهاء استعمار المناهج الدراسيّة. وعلى الرغم من أنّ إنهاء استعمار التعليم في إفريقيا لا يمكن تلخيصه بهذه الصورة، إلّا أنّه يشكّل جزءًا من الحاجة إلى إنهاء الاستعمار.

يمكن تفسير إنهاء الاستعمار في مصطلحاتٍ واسعةٍ مثل إنهاء استعمار أساليب التعلم، وإنهاء استعمار هيكل وعناصر التعلم، وإنهاء استعمار المناهج الدراسيّة، وما إلى ذلك. لقد كان السعي الفكري بين المثقّفين الأفارقة يدور حول كيفيّة معالجة هذا الأمر، وآثار هذا الضرر النفسي والثقافي. ويزداد الأمر سوءًا مع استمرار الاستعمار بظلالٍ مختلفةٍ من خلال الاستعمار الجديد، ومن خلال مشروع العولمة[66].

دعا أشيل مبيمبي إلى إنهاء استعمار المعرفة بنحوٍ جذريّ، وذلك من خلال تطوير أساليب تعليميّة وابتكار وسائل مختلفة تدفع بإفريقيا إلى النهوض والحضور في النطاق العالمي الجديد من خلال نبذ المعرفة التقليديّة التي ورثتها إفريقيا من الحقبة الاستعماريّة، والتي لم يبقى مبررٌ لوجودها الآن بعد حصول البلدان الإفريقيّة على استقلالها[67]. يقول مبيمبي: «إنّ الدعوات إلى إنهاء الاستعمار ليست جديدة في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، تحت أسماء مختلفة مثل الإفريقية والتوطين. لقد كانت الفكرة الحاسمة لنظرية فانون حول إنهاء الاستعمار، هي أننا يجب أنْ نبدأ صفحةً بيضاء. وراء كلّ الأساطير الاستعماريّة هو الاعتقاد أنّ السكّان الأصليين أشخاصٌ تم تحديد موقعهم بشكلٍ جذري خارج التاريخ. بالنسبة لفانون كان يجب القضاء على كلّ هذه الأساطير حتى يصبح إنهاء الاستعمار حدثًا حقيقيًّا، وسيؤدي إنهاء الاستعمار إلى إعادة تعريف الكائن البشري بشكلٍ جذري» [68].

يبدأ مبيمبي محاضرته حول إنهاء الاستعمار بالقول إنّه يستلهم أفكاره جزئيًّا من الاحتجاجات الطلابيّة الأخيرة في جنوب إفريقيا. ويقول: «في قلب هذه الأحداث، يكمن الأمل وخاصّة بين جيل الشباب في شيءٍ جديد، والذي لن يكون مجرد تكرارٍ لما اعتقدنا أنّنا تخلّصنا منه». وهذا الأمل هو الذي يفسّر الأمر المتجدد بإنهاء استعمار المؤسسات، أو المعرفة نفسها. ومع ذلك، يحذر مبيمبي من “أنّنا نفتقر إلى فكرةٍ عمّا قد تبدو عليه المعرفة التي تم إنهاء الاستعمار فيها، وأنّ الافتقار إلى نظريّة المعرفة هو ضعفٌ قاتلٌ محتملٌ في مشروع إنهاء الاستعمار». فهو يوضح أنّ إصلاحات المناهج الدراسيّة ومجرد استبدال المواد والأفراد الأوروبيين بأخرى إفريقيّة غير كافٍ، وأنّ الاضطراب الأعمق فيما يتعلّق بما يشكل المعرفة وإنتاج المعرفة أمرٌ ضروري، ويجري بالفعل[69].

عندما يتعلّق الأمر بإنهاء استعمار الجامعة والمعرفة، فهناك عددٌ من القضايا السياسيّة والأخلاقيّة الواضحة. ويَرى أنّ إنهاء استعمار الجامعة يبدأ بإلغاء الخصخصة، وإعادة تعريف ما هو عام كما تحدّث عنه فانون، فالأمر متعلّق بملكية المكان الذي يمثّل منفعةً عامةً ومشتركةً؛ فالأمر يتعلق بإحساسٍ واسعٍ بالمواطنة بحدّ ذاتها لا غنى عنها لمشروع الديمقراطيّة، ويرى أنّه يتعيّن على الطلّاب السود والموظفين ابتكار مجموعةٍ من الممارسات الإبداعيّة التي تجعل من المستحيل في نهاية المطاف على الهياكل الرسميّة تجاهلها وعدم التعرّف عليها، والتظاهر بأنّها غير موجودة، أوالتظاهر بأنّهم لا يرونهم أو التظاهر بأنّ صوتهم لا يحسب.

ويتضمن إنهاء الاستعمار للمباني والأماكن العامة تغيير تلك الأسماء الاستعماريّة والرموز؛ إذ لا علاقة لهذه الأسماء والصور والرموز بأيّ شيءٍ على جدران حرم جامعي بعد أكثر من 20 عامًا من الفصل العنصري، فمنذ نهاية زمن البيض في عام 1994م، لم تتغير الأسماء الرسميّة للأنهار والجبال والوديان والقرى والمدن، والشيء نفسه ينطبق على الساحات العامّة والشوارع والطرق، أي ما زالت بأسمائها التي أطلقها عليها المستعمِر.
موقع آخر لإنهاء الاستعمار المعرفي هو الدراسة الجامعيّة، فلا يمكن الاستمرار في التدريس بالطريقة التي علمنا بها دائمًا، فإنّ عددًا من مؤسّساتنا تقوم بتدريس أشكالٍ قديمةٍ من المعرفة بأساليب تربويّةٍ عفا عليها الزمن، ومن أجل وضع مؤسساتنا بثباتٍ على طريق المعارف المستقبليّة، لا بدّ من نظامٍ تعليميٍّ مغايرٍ يتطلّب إعادة ابتكار فصلٍ دراسيّ بلا جدران، وجامعةٍ قادرةٍ على حشد جماهير مختلفةٍ في أشكالٍ جديدةٍ من التجمّعات التي تصبح نقطة التقاء، ومنصّات لإعادة توزيع أنواعٍ مختلفةٍ من المعارف[70].

يعتقد مبيمبي أنّ إنهاء الاستعمار في السياق الإفريقي يعني، على سبيل المثال؛ تغيير المنهج أو المحتوى (وهذا ينطبق في الغالب على العلوم الإنسانيّة)، وتغيير معايير تحديد النصوص المضمّنة أو المستبعدة من القانون، وتغيير التركيبة السكانيّة للطلّاب مع توظيف المزيد من الموظّفين السود، وتحويل الهيئات الأكاديميّة والإداريّة، وإعادة معايرة أنشطة التدريس والتعلّم بطريقةٍ تؤدّي إلى إقامة علاقة قوّةٍ مختلفةٍ بين المعلِّم والمتعلِّم[71].
إنّ الفكر النقدي الإفريقي بشأن إنهاء استعمار الجامعات يحتاج إلى السعي لمعالجة مسائل التحوّل الحقيقي، مثل كيفيّة الإصلاح الجذري لمناهج التعليم على المستويات الأكاديميّة والثقافيّة والنفسيّة. التحدي الذي يواجه الأوساط الأكاديميّة الإفريقية هو تعلّم كيفيّة التدريس بما يتجاوز الخيال الثقافي أو التاريخي المشوّه، والذاتيّة الفقيرة لأفق الفكر الحديث حيث يتم ترتيب كلّ شيءٍ بشكلٍ هرميّ وفقًا للمفاهيم والمعايير والأطر المعرفيّة الأوروبيّة. يؤكد إنهاء الاستعمار الطريقة التي يجب أنْ يكون بها المحتوى الإفريقي أحد المراكز العالميّة المتعدّدة ذات الأصول المعرفيّة وأسس إعادة البناء الاجتماعي للواقع ونشره[72].

أيضًا نحن بحاجةٍ إلى إنهاء استعمار الأنظمة الإداريّة بقدر ما حوّل التعليم العالي إلى منتجٍ قابلٍ للتسويق تشتريه وتبيعه الوحدات القياسيّة، فيتعين علينا إنشاء أنظمةٍ إداريّةٍ بديلةٍ؛ لأنّ الأنظمة الحاليّة التي يهيمن عليها الطابع الإحصائي وهوس التقييم، تمنع الطلّاب والمعلِّمين من السعي الحرّ للمعرفة. ويرى مبيمبي خطأ أنْ تظلّ المناهج الدراسيّة مصممةً لتلبية احتياجات الاستعمار والفصل العنصري، في حقبة ما بعد الفصل العنصري[73].

هناك اعترافٌ لدى الأفارقة باستنفاد النموذج الأكاديمي الحالي بأصوله في عالميّة التنوير، لقد أوضحوا أنّه في نهاية عملية إنهاء الاستعمار، لن تكون لدينا جامعةٌ بعد الآن، سيكون لدينا فقط ما يسمونه بالتعدّديّة، والتعدّديّة ليست مجرد امتدادٍ في جميع أنحاء العالم لنموذج مركزيّةٍ أوروبيّةٍ يفترض إنّه عالميّ، وتتم إعادة إنتاجه الآن في كلّ مكان، بل التعدّدية تفهم كعمليّة إنتاج المعرفة المنفتحة على التنوّع المعرفي. فالهدف النهائي ليس التخلّي عن فكرة المعرفة العالميّة للبشريّة، ولكن تبنّي استراتيجيّة الانفتاح على الحوار بين التقاليد المعرفيّة المختلفة، ضمن هذا المنظور، فإنّ إنهاء استعمار الجامعة يعني إصلاحها بهدف خلق تعدّديةٍ عالميّةٍ انتقاديّةٍ، مع إعادة تأسيس لطرق تفكيرنا[74].

في عصر التحوّل الرقميّ لقد أصبح التيسير التكنولوجي للمعرفة، من خلال الفصول الدراسيّة المجهزة وأعمال المشاريع المبتكرة والكتابة التعاونية، هو القاعدة والأصل بنحوٍ متزايد. يتميّز العصر بتسارع هائل. إنّ دور المعلِّم في شكله القديم قد لا يستمر لفترة أطول. لم تعد الدورات التدريبيّة المفتوحة الضخمة عبر الإنترنت أمرًا نادرًا. ويجري الآن ــ بشكلٍ متزايدٍ ــ استبدال العلاقة العموديّة القديمة بين المعلِّم والطالب بفكرة مجتمع التعلّم الذي يتخلّى فيه المعلم عن السيطرة، والتعلّم يشمل التجربة الاجتماعيّة الإجماليّة للطلّاب. يحدث ذلك داخل الفصل الدراسي وخارجه، ويأخذ على محمل الجد المعرفة التي يمتلكها الطلّاب بالفعل[75].
وفقًا لمبيمبي، لا توجد حدودٌ لأيّ معرفة اليوم، المعرفة خارج المؤسّسات غير محدودة، ولا يمكن احتواؤها، ويمكن البحث فيها بسهولة، ولم يعد من السهل تقييدها بوساطة الأجهزة التنظيميّة، وتتطلب المعرفة في الوقت الحاضر تطوير مجموعةٍ من مهارات القراءة والكتابة الجديدة المطلوبة، عن طريق التغييرات في الكتابة، والقراءة، وأشكال العرض العام، والقدرة على تفسير الصور. إنّ علم البيئة المعرفي ليس هو فقط الذي يتغيّر بسرعة، لقد غيّر الحساب الطرق التي يتم بها تأطير بعض المفاهيم الأساسيّة في جميع العلوم.

يعدّ المزج بين العقل/ الدماغ والكمبيوتر أكبر حدثٍ فكريّ في عصرنا، إنّه إعادة التشكيل الحالية لما يعدّ معرفة، ففي سبعينيّات القرن الماضي، تم توحيد التطوّرات المبكّرة لأجهزة الكمبيوتر الإلكترونيّة، والبرمجة، وأصبح عصرًا فكريًّا جديدًا تمامًا ممكنًا بوساطة الكمبيوتر، وفي القرن الحادي والعشرين؛ فإن أشكال المعرفة سيتم تعريفها بوساطة الكمبيوتر الرقمي تمامًا، ونتيجة لذلك، ستصبح العلوم الطبيعيّة أو البشريّة، علوم بياناتٍ أو معلومات[76].

ولأنّ إفريقيا تمرّ الآن بثورةٍ تقنيّةٍ حاسوبيّةٍ صامتة، حيث توجد البصمات الإلكترونيّة والرقميّة في كلّ مكان، ترتّب على ذلك توسيع حدود الإدراك، وأكثر ما يتمّ الحديث عنه لتلك الثورة التكنولوجيا المستمرة هو الهاتف المحمول، والذي يعدّ دخوله إلى القارة حدثًا تقنيًّا فريدًا. فالهاتف المحمول ليس مجرد أداةٍ للاستخدام؛ بل أصبح مخزنًا لجميع أنواع المعارف، ومن وجهة النظر الفلسفيّة، كان التأثير الأكبر للهاتف المحمول والتقنيات الرقميّة على نطاقٍ أوسع، هو زيادة التفاعل بين البشر والشاشات. وبالانتقال إلى المعرفة على هذا النحو، يجب أنْ يقال إنّ طرق المعرفة الإفريقيّة ما قبل الاستعمار كان من الصعب أنْ تتناسب مع المفردات التحليليّة الغربيّة[77].

يلاحظ مبيمبي الأهميّة الحيويّة للوسائط الرقميّة، حيث لم يعدْ من الممكن «تقييد المعرفة بسهولة بوساطة الأجهزة التنظيمية». ويشير إلى أنّ «المعرفة خارج المؤسّسات غير محدودة، ولا يمكن احتواؤها، ويمكن البحث فيها بسهولة». يقصد مبيمبي المواقع الإلكترونيّة، لكن فيما يبدو، أنّ خوارزميات جوجل تحدّد نتائج بحث الأشخاص، ويمكن لهذه الخوارزميات أنْ تعكس التحيّزات والافتراضات الثقافيّة للمبرمجين ومجموعات البيانات التي تم تطوير الخوارزميّات عليها[78]. إنّ العمل السريّ للخوارزميّات وهيمنة الشركات الاحتكاريّة مثل جوجل وفيسبوك على دوائر المعلومات العالميّة في بناء العالم الرقمي الذي يواجهه الناس، ويعيشون فيه بدرجةٍ أكبر من أيّ وقتٍ مضى ليس بالأمر الهيّن[79].
تحت عنوان (المعرفة في عصر الحوسبة)، يثير مبيمبي انتقادات للتطوّرات التكنولوجيّة الحاليّة التي تتوافق مع مخاوف بشأن خوارزميّات الشركات. ومع ذلك، فإنّ مبيمبي يترك أصل هذه الأفكار وممارسيها خارج المعادلة، كما لو أنّنا جميعًا نشترك بالتساوي في هذه الثقافة الحسابيّة العالميّة الجديدة. الثقافة الرقمية والتقنيات الرقميّة ليست حرّةً وعالمية، إنّها متجذرة في مراكز قوى وطنيّةٍ معينة، وأبرزها الولايات المتّحدة والصين، وأيضًا في الشركات العملاقة، جوجل، وفيسبوك، وأبل، وأمازون، التي تشكّل في حدّ ذاتها مراكز قوّةٍ جديدةٍ ضخمة. تتمركز هذه الشركات القويّة بشكلٍ أساسي في القوة الإمبراطوريّة في القرنين العشرين والحادي والعشرين، أي الولايات المتّحدة. إنّ التكنولوجيا ليست محايدةً عندما يتم تصميمها وامتلاكها وإدارتها من قبل مجموعةٍ صغيرةٍ من النخب الغربيّة[80].

وبناءً على ما تقدم، يشير مبيمبي في مناقشته لإنهاء الاستعمار المعرفي إلى قضيّةٍ خطيرةٍ جدًا وهي، قضيّة التجسّس العالمي من خلال وسائل التواصل والمنصات العالميّة. إنّ التطوّر التكنولوجي الذي تحظى به إفريقيا الآن على الرغم من أنّه يوسّع من عمليّة الإدراك المعرفي لدى الأفارقة فإنّه أشدّ خطرًا على الأفارقة؛ لأنّه يضعهم دائمًا تحت دائرة التجسّس من شبكات التواصل والشركات العالميّة التي هي بلا شك ذات أهدافٍ سياسيّة، إنّه الاستعمار المعاصر في أبهى صوره.

وفقًا لمبيمبي يجب مواجهة تحدّي (إنهاء الاستعمار) فيما يتعلّق بالتطوّرات العالميّة الجديدة[81]. عدّ مبيمبي إنهاء الاستعمار ممارسةً للدفاع عن النفس وانتفاضة، حيث إنّ تحقيق مجتمعٍ منزوع الاستعمار؛ كان بمنزلة انتفاضةٍ تتكون إلى حدٍّ كبيرٍ من إعادة توزيع اللغات، حيث كان على المستعمَرين على مختلف مستوياتهم الحديث بلغاتٍ مختلفةٍ بدلًا من لغةٍ واحدة؛ لذلك يمثل إنهاء الاستعمار لحظةً مجيدةً لفكّ ارتباط اللغات، وتشعّبها في تاريخ حداثتنا، مع إنهاء الاستعمار يمكن لأيّ شخصٍ التعبير عن نفسه بلغته[82].
وفي إطار مناقشة إنهاء استعمار المعرفة يطرح مبيمبي قضيّةً أخرى ألا وهي جذب الطلّاب إلى الجامعات الإفريقيّة، ويتساءل: إذا كانت الجامعة قد تحوّلت فعليًّا إلى نقطة انطلاقٍ للأسواق العالميّة، فماذا قد تعني مصطلحات مثل (إنهاء استعمار المعرفة)؟ هل يمكننا التنافس مع الصين في جذب الطلّاب الأفارقة إلى شواطئنا؟ وكانت الإجابة بنعم، إذا احتضنا بالكامل موقعنا في القارة الإفريقيّة، إذا قمنا بإعادة تصميم مناهجنا وأنظمة التعليم لدينا بالكامل، وجددّنا سياسة الهجرة لدينا، وفتحنا مساراتٍ جديدةً للمواطنة لأولئك الذين هم على استعدادٍ لربط مصيرهم بمصيرنا. ومن بين جميع الدول الإفريقيّة، نحن في أفضل وضعٍ يسمح لنا بإنشاء شبكاتٍ معرفيّةٍ للمغتربين من شأنها أنْ تمكّن العلماء المنحدرين من أصلٍ أفريقيّ في بقيّة أنحاء العالم من نقل مهاراتهم وخبراتهم إلى طلابنا دون الاستقرار هنا بنحوٍ دائمٍ بالضرورة. نحن أيضًا في أفضل وضعٍ يسمح لنا بإعداد برامج الدراسة في إفريقيا لطلّابنا، وتعزيز الشبكات الأكاديميّة الجديدة داخل القارة من خلال خطط الاتصال المختلفة[83].

بالنسبة لمبيمبي فإنّ إنهاء استعمار الجامعة له علاقة بخلق مجموعةٍ من الاستعدادات العقليّة. إنّ الاستعدادات العقليّة التي تحتاج إلى تعزيز تتماشى مع ما يُسمّى (إنهاء استعمار العقل). ويتعيّن على الأكاديميين والطلّاب، وخاصّة السود، أنْ يجعلوا أصواتهم ووجهات نظرهم حاضرةً في الجامعة، وبالتالي في المشهد الفكري، من أجل التغلب على التحيز الغربي الأبيض الذي تعمل في ظلّه حاليًّا[84].

يعتقد مبيمبي أنّ مشروع إنهاء الاستعمار (تمامًا مثل نظريّة ما بعد الاستعمار والنظريّة النسويّة)، إذا فهُم بشكلٍ صحيح (وعلى الرغم من حدوده الواضحة)، يهدف إلى توسيع مخيلتنا المفاهيميّة والمنهجيّة والنظريّة. وفي معظم الحالات، قاومت الروايات الموحّدة للإنسان. ومن خلال التقليل من أهميّة أنظمة المعرفة التي شكّلت الإنسان أو حتى العالم كواحد، أو صاغت الإنسانيّة ككّلٍ غير متمايز، فقد سعت بدلًا من ذلك إلى رسم خريطة للاختلافات الاجتماعيّة والثقافيّة والتاريخيّة وعلاقات القوة غير المتكافئة. وبهذا المعنى، فإنّ مشروع إنهاء الاستعمار هو مشروعٌ معرفيّ يقوم على فكرة أنّ العوالم الاجتماعيّة متعددةٌ وممزقةٌ ومتنازعٌ عليها. ومن هنا تنبثق ضرورة اتخاذ تعدّد الأصوات وسيلةً لوقف استمراريّة عدم التناسق المعرفي[85].
في بعض الحالات يمكن اختزال إنهاء الاستعمار بسهولةٍ في مسألة الأصول والهويّة والعِرق والموقع. لكن إنّ ما يمنح السلطة هو المكان الذي يأتي منه المرء، والمجتمع المفترض الذي ينتمي إليه. علاوة على ذلك، فإنّ مفهوم إفريقيا الذي يتم الاستشهاد به في معظم الخطابات حول إنهاء الاستعمار يتم نشره كما لو كان هناك إجماعٌ داخل إفريقيا نفسها حول ما هو أفريقي، وما هو ليس كذلك. في معظم الأحيان، يتم مساواة الإفريقي بالأصلي، والإثني، بالمواطن الأصلي، كما لو أنّه لا توجد أسسٌ أخرى للهويّة الإفريقية غير الأصلي والإثني. لا تشكّل هذه الملاحظات أرضيّةً كافيةً للرفض الصريح لمشروع إنهاء الاستعمار. ففي نهاية المطاف، لا يزال النقد الصارم للنموذج الأكاديمي الأوروبي المهيمن الكفاح ضدّ ما يسمّيه أهل أميركا اللاتينيّة على وجه الخصوص (الاستعمار المعرفي)، أي الإنتاج اللامتناهي للنظريات التي تستند إلى التقاليد الأوروبية، لا يزال النقد الصارم لذلك أمرًا ضروريًّا[86].

لقد كان الهدف من مناهضة الاستعمار هو خلق شكلٍ جديد للواقع، والتحرّر ممّا كان لا يطاق في الاستعمار. كما أنّه يعدّ التجربة الاستعماريّة تعني إنكار الإنسانيّة، وبالتالي فإنّ إنهاء الاستعمار يعني انفتاح العالم واستعادة الإنسانيّة، وبالتالي استعادة مكانة المرء في العالم، وهي فكرةٌ في صميم العديد من المفكّرين السود حول مناهضة الاستعمار والمطالبة بإنهائه سواء كانت في مرحلة الاستعمار أم مرحلة ما بعد الاستقلال السياسي [87].
ممّا سبق يتمثّل موقف مبيمبي في إنهاء استعمار المعرفة بشكلٍ جذري، وذلك من خلال تطوير أساليب تعليميّة، وابتكار وسائل مختلفة تدفع بإفريقيا إلى النهوض والحضور في النطاق العالمي الجديد من خلال نبذ المعرفة التقليديّة التي ورثتها إفريقيا من الحقبة الاستعماريّة، والتي لم يعد لوجودها مبررٌ الآن بعد حصول البلدان الإفريقيّة على استقلالها متبعًا في ذلك آراء كلٍّ من فرانز فانون، ونجوجي، وعلى وجه الخصوص نظريّة فانون للعنصريّة، وإصراره على ظهور عالمٍ جديد. يرى مبيمبي أنّه من الضرورة في مشروع إنهاء الاستعمار إجراء نقدٍ لا تهاون فيه للنموذج الأكاديمي الأوروبي المركزي السائد. كما يرى أنّ إنهاء استعمار الجامعة يعني إصلاحها بهدف خلق تعدديّةٍ عالميّةٍ انتقاديّة، مع إعادة تأسيس لطرق تفكيرنا. عدّ مبيمبي إنهاء الاستعمار ممارسةً للدفاع عن النفس؛ لأنّ تحقيق مجتمعٍ منزوع الاستعمار بمنزلة انتفاضةٍ تتكون إلى حدٍّ كبيرٍ من إعادة توزيع اللغات؛ لذلك يمثل إنهاء الاستعمار لحظةً حاسمةً لفكّ ارتباط اللغات وتشعّبها في تاريخ حداثتنا، ومع إنهاء الاستعمار يمكن لأيّ شخصٍ التعبير عن نفسه بلغته.

بالنظر لآراء الفلاسفة المناهضين للاستعمار الثقافي بكلّ أشكاله يتضح أنّ كلًّا من أنتا ديوب، ونجوجي وا ثيونغو، وكواسي وريدو، وأشيل مبيمبي وغيرهم من الفلاسفة الأفارقة اتّفقوا على ضرورة إنهاء استعمار العقل بوصفه تمهيدًا للتحرّر الحقيقي. وبالتالي فإنّ استجوابهم للغات الإفريقيّة يهدف إلى تعزيز طرقٍ أخرى لخلق عالمٍ جديدٍ بشكلٍ جماعي، ومن ثَمّ الحدّ من تأثير المركزيّة الأوروبيّة. ومع ذلك، فإنّ مشروعهم يواجه قيود النظام العالمي. إنّ العولمة بكلّ ما تنطوي عليه من آثار على التبادلات والتأثيرات الثقافيّة، هي جزءٌ من العالم الذي خلقه الاستعمار[88].

العولمة والاستعمار الثقافي
تواجه إفريقيا العديد من المشاكل التي تفاقمت بسبب الاستعمار، ولا تزال هذه المشاكل قائمة، وقد أصبحت أكثر تعقيدًا مع العولمة، التي ينُظر إليها بوصفها شكلًا من أشكال الاستعمار الجديد المعُاد تشكيله، والمغلّف بالمبادئ الاجتماعيّة والأخلاقيّة لجعله جذّابًا بهويّته المقنعة. تبدو هذه المشاكل الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة في إفريقيا دائمة دون وجود حلولٍ ملموسةٍ لها[89].

فعلى المستوى السياسي أدّت العولمة إلى تهميش القارة الإفريقيّة. وعلى المستوى التاريخي تعدّ العولمة استعمارًا ثقافيًّا جديدًا، يهدف إلى إحداث خللٍ في الهويّات الثقافيّة للشعوب، وبنشر العولمة الثقافية أحاديّة القطب بهدف الاستيلاء على حضارة الشعوب الفقيرة؛ لذا فهي امتدادٌ للاستعمار التقليدي الثقافي القديم. وعلى المستوى الروحي تهدف العولمة إلى نزع الجانب الروحي من الجسد مع إبقاء الجانب المادي فقط، حيث تنتج العولمة الإنسان المادي الحيواني بالقضاء على الجانب الروحي والنفسي والفكري[90].

إنّ العولمة بالنسبة لنا اليوم هي ما كان عليه الاستعمار نفسه بالنسبة للعالم قبل خمسين أو ستين عامًا. تظهر العولمة، الممتلئة بالنزعة الغربيّة، مظهرًا خارجيًّا لعالمٍ يتجمع معًا سياسيًّا واقتصاديًّا ولغويًّا، لكن طموحها الحقيقي هو عدم السماح للآخرين بالتحكّم في مصائرهم[91]. للعولمة عدّة آثارٍ سلبيّةٍ على المستوى الثقافي أهمّها اختراق البنية الثقافيّة المحليّة، وتفاقم مخاطر الاستلاب، والغزو والاستعمار الثقافي، ممّا يؤدّي إلى محو الهويّة الحضاريّة الثقافيّة، ونزع الخصوصيّة الشخصيّة للشعوب الإفريقيّة والمتمثّلة في اللغة والدين والأخلاق والتاريخ والعادات والتقاليد. أيضًا الهيمنة والاستتباع الحضاري، والاستسلام لتلك العمليّة يأتي بفقدان الشعور بالانتماء للوطن، وبالتالي إفراغ الهويّة الثقافيّة من كلّ محتوى. أيضًا التقليل من قيمة الثقافات المختلفة وفرض هيمنة الثقافة الواحدة. وأخيرًا حرمان الشعوب المتخلفة من اللحاق بركب التقدّم؛ نظرًا لانتشار الأمية بها، والعولمة تقوم على تقنياتٍ عاليةٍ لا تمتلكها تلك الشعوب[92].
لقد بذل الفلاسفة الأفارقة الجهود الكثيرة من أجل عمليّة إنهاء الاستعمار الثقافي إلّا أنّ الأمر ليس بهذه السهولة، فمن المؤكد أنّ اللغة ستكون العقبة الأولى أمام التنفيذ الناجح لإنهاء الاستعمار المفاهيمي بصفةٍ خاصةٍ، والاستعمار الثقافي بصفةٍ عامة. أوّل هذه العقبة اللغويّة هو اختيار اللغة الإفريقيّة المحدّدة التي ستنال إعجاب جميع الأفارقة، والتي تتمتّع بكلّ الخصائص والطبيعة اللازمة للتدويل. كما يجب أنْ تكون هذه اللغة الإفريقيّة غنيّةً بما يكفي لتتمكن من احتواء الكلمات أو الأفكار التي يتم تداولها بشكل عام. لن يكون هذا الاختيار سهلًا. إنّ اللغة حجر الأساس للتعليم والتواصل في كلّ جانبٍ من جوانب المساعي الإنسانيّة. وتلعب الثقافة دورًا رئيسًا في تطور اللغة؛ لأنّها مخزن الهويّة الجماعيّة للناس وذاكرتهم وتطوّرهم. وإدراكًا لذلك، يتعيّن على المستعمِرين أولًا تدمير التراث الثقافي والدين واللغة الإفريقيّة قبل فرض لغتهم وثقافتهم ودينهم وتعليمهم. هذا النهج جعل سجن الأفارقة ممكنًا بعدّة طرقٍ متنوعةٍ فكريًّا؛ ولذلك سيكون من الصعب للغاية إنهاء استعمار عقول الأفارقة، وخاصّة المتعلمين منهم. فمن الضرورة القصوى تغيير الحروف الهجائيّة الإنجليزيّة إلى ما يعادلها في إفريقيا حتى تبدأ عمليّة إنهاء الاستعمار المفاهيمي[93].

بالنسبة لمعظم بلدان إفريقيا على وجه الخصوص، ونظرًا لتاريخ العبوديّة والاستعمار والفصل العنصري والتنمية الاقتصاديّة غير العادلة، فإنّ تقرير المصير الفكري الحقيقي هو خيارٌ سياسي واقتصادي وثقافي إلزامي[94].

أخيرًا يمكن القول إنّ هدف المشاريع في الفلسفة الإفريقيّة هو استعادة الحياة الطبيعيّة الإفريقيّة التي طمسها التراث الاستعماري بالقمع والاستغلال العنيف. ينبغي للفلسفة أنْ تلقي ضوءًا جديدًا على القضايا القديمة المنتشرة في هذه القارة، والمشاكل التي تنشأ وهي من آثار القارة التي انفصلت عن ماضيها عندما قام المشروع الاستعماري بعنفٍ شديد، ولكن بشكلٍ غير مبالٍ، بتقسيم القارة إلى أجزاء من كعكةٍ مخصّصةٍ للاستهلاك الأوروبي[95].
ممّا سبق وبناءً على ما تقدّم يبدو وجود جهودٍ مبذولةٍ من قبل الفلاسفة الأفارقة من أجل مناهضة الاستعمار الثقافي للقارة السوداء ومن أجل استعادة الهويّة الثقافيّة للشعوب الإفريقيّة من خلال تبنّي وجهة نظرٍ مشتركةٍ بضرورة إحياء اللغات الإفريقيّة القديمة، وضرورة تطوير المناهج التعليميّة التي تتفق مع الثقافة الإفريقيّة، وعلى الرغم من هذا الإجماع إلا أنّ هناك اختلافًا بين وجهات النظر الإفريقيّة حول الآلية التي يتم من خلالها إنهاء الاستعمار الثقافي. فقد ذهب البعض إلى ضرورة القطيعة المعرفيّة مع الغرب، والمتمثّلة في وجهة نظر الشيخ أنتا ديوب، وكذلك فرانز فانون من خلال وجهة النظر القائلة بضرورة استخدام اللغات المحليّة، والتخلّي عن اللغات الغربيّة، بينما ذهب فريقٌ أخر إلى ضرورة عدم القطيعة المعرفيّة مع الغرب، بل الدخول في حوارٍ بين الثقافات، مثلما فعل نجوجي، ووريدو، ومبيمبي، وكذلك اتشيبي، فلا يوجد ما يمنع من استخدام اللغات الأجنبيّة بوصفها لغاتٍ ذات قاعدةٍ جماهيريّةٍ كبيرةٍ، بالإضافة إلى كونها أكثر انتشارًا، وأسهل الطرق للتواصل بين الشعوب.

في الواقع إنّ عمليّة إنهاء الاستعمار الثقافي عمليّةٌ معقّدةٌ للغاية، فقد تجذّرت الثقافات الغربيّة في نفوس الشعوب الإفريقيّة، وأصبحت متغلغلةً في شتى الجوانب الحياتيّة، وبالتالي فإنّ أيّ محاولةٍ لقطع الجذور الأوروبيّة تكون أمرًا صعبًا للغاية، ويحتاج جهودًا كبيرةً على المستويات كافة، العلمية والفلسفية الاجتماعية والسياسية والتربوية والاقتصادية، فالأمر ليس باليسير، ولا يمكن التخلّص من براثن الثقافات الاستعماريّة في فترةٍ وجيزةٍ، فقد يتطلّب الأمر عقودًا من الزمان لإصلاح وتغيير النظم التعليميّة، وتطوير آليةٍ لإحياء الثقافات الإفريقيّة المندثرة، ولإحياء الوعي الذاتي لدى الأفارقة، لكن جهود الفلاسفة الأفارقة تعدّ خطوةً إيجابيةً نحو التحرّر الثقافي، لكنّها بحاجةٍ إلى تضافر القوى الإفريقية كافة، لأجل جني ثمار المشاريع الفكريّة الداعمة لإنهاء الاستعمار الثقافي.

خاتمة
إنّ مناهضة الاستعمار الثقافي لا يقلّ أهميّةً عن الاستعمار العسكري أو الاستعمار السياسي أو الاستعمار الاقتصادي، بل إنّ آثر الاستعمار الثقافي أشدّ خطرًا من الاستعمار العسكري الذي سينتهي حتمًا يومًا ما. إنّ استعمار العقل يمحي هويّة الشعوب المستعمَرة ويهمش ثقافتها، ويدمر عاداتها وتقاليدها؛ فتصبح شعوبًا بلا هوية، وبلا تاريخ ولا حضارة. أدرك الفلاسفة والمفكّرون الأفارقة أهميّة إنهاء الاستعمار الثقافي من خلال الإلمام بالتاريخ الإفريقي وقراءته إفريقيًّا، وكذلك بالاهتمام باللغات المحليّة والعمل على إحيائها مرةً أخرى.

وعلى الرغم من أنّ عملية إنهاء الاستعمار الثقافي ذات أهميّةٍ قصوى لإفريقيا بعد الاستعمار فإنّها تواجه تحدّياتٍ عديدة، منها تأثير العولمة، وتدفق الثقافات الغربيّة من خلال الإعلام والاقتصاد العالمي، ممّا يتطلّب جهودًا مضاعفةً للحفاظ على الخصوصيّة الثقافيّة الإفريقيّة في مواجهة هذه التحدّيات. ومع ذلك، فإّن هذه العمليّة تعدّ ركيزةً أساسيةً لتحقيق التنمية المستدامة في إفريقيا، حيث تسهم في تعزيز الثقة بالنفس لدى الشعوب الإفريقيّة، وإعادة تشكيل الهويّة الثقافيّة بطرقٍ تدعم الوحدة الوطنيّة، والتقدّم الاجتماعي.
يمثّل إنهاء الاستعمار الثقافي خطوةً أساسيّةً نحو تحقيق التحرّر الكامل، ليس من السيطرة الاستعماريّة المباشرة فقط، بل أيضًا من التأثيرات الثقافيّة المستمرة التي لا تزال تشكّل تحدّيًا أمام النهضة الإفريقيّة. يجب أنْ يكون إنهاء الاستعمار الثقافي خاليًا تماما من براثن المركزيّة الأوروبيّة، وأنْ يقف على أرضٍ صلبةٍ تضمن له التحقّق والاستمرار. يجب على الأفارقة تمجيد ثقافتهم وحضارتهم والتمسّك بها، والدفاع عنها في مواجهة الهمجيّة الغربيّة، وفرض الهيمنة والسيطرة بشتى الطرق. يجب على الأفارقة الاعتزاز بماضيهم، والعمل على النهضة والتقدّم المستقبلي. ينبغي على الأفارقة التخلّي عن عقدة النقص والتبعيّة، والتخلّي عن التشبّه بالثقافات الغربيّة، بل ينبغي التعامل معها بندّيّة.

وأخيرًا ينبغي علينا القول إنّ عمليّة إنهاء الاستعمار الثقافي يجب ألّا تقتصر على الشعوب الإفريقيّة فقط، بل تمتدّ لتشمل الشعوب العربيّة أيضًا، فينبغي على الثقافة العربيّة التخلّي عن الإرث الاستعماري، والتوقّف عن التوفيق بين التقليد والحداثة، والعمل على تحرير اللغة والثقافة العربيّة من خلطها بالمفاهيم الغربيّة. أيضًا يجب على الشعوب العربيّة الفخر والاعتزاز بلغتهم القوميّة وعدم خلطها بالمفاهيم الأجنبيّة في أثناء التحدّث مع أشخاصٍ ينتمون إلى ثقافتهم نفسها، ينبغي التوقّف عن إعطاء قيمةٍ أعلى للغات الأجنبيّة على حساب اللغة العربيّة أو اللغات الإفريقيّة بصفةٍ عامّة؛ تكمن قيمة القوم في هويّتهم، وتكمن هويّتهم في ثقافتهم، وتكمن ثقافتهم في لغتهم.


قائمة المصادر والمراجع
علي، يسن إبراهيم بشير، الخطاب ما بعد الاستعماري في النقد الإفريقي: قراءة في كتاب تصفية استعمار العقل - لنغوجي واثينغو، دراسات أفريقية، عدد (54)، مركز البحوث والدراسات الإفريقية، (2015).
فانون، فرانز، بشرة سوداء أقنعة بيضاء، (ط1)، ترجمة: خليل، أحمد خليل، لبنان: دار الفارابي، (2005).
جابر، محمد، آثر العولمة على أنماط الهوية الإفريقية بين الواقع والمأمول، مجلة الدراسات الإفريقية وحوض النيل- المركز الديمقراطي العربي، ج1، العدد4، (2018).
عبد الوهاب، رانية محمد طاهر، مشكلات الهوية الثقافية في إفريقيا، (2015).
مبيتي، جون، الأديان الإفريقية والفلسفة، ترجمة: طه، إيناس، القاهرة: المركز القومي للترجمة، (2023).
Wa Thiong’o, Ngũgĩ, Globalectics: theory and the politics of knowing. New York: Columbia University Press, (2012).
8. Kgatla, Selaelo T., The decolonisation of the mind. Missionalia Volume 46, Issue 1., (2018). http://journals.co.za/doi/abs/10.7832/46-1-270
Ugwuanyi, Lawrence Ogbo, Exploring the Options for a Decolonised Knowledge Paradigm for African Education through a Critical Contrast of Afrikology, Ubuntology and Conceptual Decolonisation, Africa Knows, 17/3/2025; https://nomadit.co.uk/conference/africaknows/paper/57618/paper-
Minga, Katunga Joseph, Between Linguicide and Lingua- atred: A Provisional Linguistic Performativity Model for Africa, Africology: The Journal of Pan African Studies, (2017).
Oelofsen, Rianna, Decolonisation of the African Mind and Intellectual Landscape, Unisa Press, (2015).
Mazrui, Ali A. & Ajaya, J.F. Ade, (TREND IN PHILOSOPHY AND SCIENCE IN AFRICA) General History of Africa. Africa since 1935, Heinemann. California, first published, VIII, (1993).
Mbembe, Achille, Decolonizing Knowledge and the Question of the Archive, Africa is a Country, (2015); https://wiser.wits.ac.za/system/files/Achille%20Mbembe%20-
Mbembe, Achille, out of the dark night, Columbia University Press, New York, (2021).
Mbembe, Achille, Fragile Freedom (Experiences of Freedom in postcolonial literatures and cultures), Routledge Taylor& Francis Group, London and New York, first published, (2011).
Mbembe, Achille, Decolonizing Knowledge and question of the Archive, (2015).
Mbembe, Achille, Future knowledges, African Studies Association Annual Meeting Abiola Lecture, (2016).
Achille Mbembe, “Future Knowledges and Their Implication for the Decolonisation Project”, in: Jonathan Jansen, Decolonisation in Universities, Wits University Press, 2019.
Wa Thiong’o, Ngũgĩ, Globalectics: theory and the politics of knowing, New York: Columbia University Press, (2012).

Wa Thiong’o, Ngũgĩ, Writers in Politics, Nairobi: Heinemann, (1981).
wa Thiongo, Ngugi, Decolonising the Mind, Nairobi: E.A.E, (1986).
Boizette, Pierre, Défense et Illustration des Langues Africaines: Linguistic Commitment and Critical Thought in Ngugi wa Thiong’o’s and Kwasi Wiredu’s Works, Itinéraires, 2019-1 | 2019.
Onyenuru, Okechukwu, Mudimbe on the nature of knowledge of african culture: a r eview of the self and the other, (2014).
Isife, Evaristus Emeka, & Arinze Agbanusi, “Decolonization of the African Mind through Indigenous Education: A Philosophical Proposal”. Nnamdi Azikiwe Journal of Philosophy, (2022).
Ankomah, Baffour, The African fact Book, Published by the book of African records, first published, (2020).
Maruma, Phemelo Olifile, Mbeki on African Renaissance: A Vehicle for Africa Development, African Renaissance, (2018).
Asante, Molefi K, Meeting Cheikh Anta Diop on the road to Africa, International journal of African Renaissance Studies, (2018).
Osha, S. & Kwasi Wiredu: Theorist of Conceptual Decolonization, Journal of World Philosophies, 2023, 8(1). Retrieved from https://scholarworks.iu.edu/iupjournals/index.php/jwp/article/view/6330
Osha, Sanya &Mammo Muchie, Innovation in Cultural Theory- Ngugi Wa Thiongo.
Fayemi, Ademola Kazeem.,The problem of language in contemporary African philosophy: some comments, Inkanyiso, Jnl Hum & Soc Sci, (2013).
Wiredu, K, Toward Decolonizing African Philosophy and Religion, African Studies Quarterly, (1998).
Wiredu, K, Conceptual Decolonisation in African Philosophy, Four Essays by Kwasi Wiredu, arranged and introduced by Olusegun Oladipo (Ibadan: Hope Publications, (1995).
Futter, Dylan B, Wiredu on Conceptual Decolonisation, (2023).
Okolisah, Chinenye Precious, Assessing the Impacts of Globalization on Kwasi Wiredu’s Conceptual Decolonization in African Philosophy, Mediterranean Journal of Social Sciences, (2020).
Gadeke, Dorothea, How to think the world? Achille Mbembe on race, democracy and the African rolein global thought, Wiley constellation, (2018).
Bernal, Victoria, Digitality and Decolonization: A Response to Achille Mbembe, Cambridge University Press on behalf of African Studies Association, (2021).
Shewadeg, Biruk, A Quest for Decolonizing the African Universities, International Journal of Multidisciplinary Perspectives in Higher Education, (2022).
Oelofsen, Rianna, Decolonisation of the African Mind and Intellectual Landscape, (2015).


-------------------------------------
[1]. دكتوراه في الفلسفة الأفريقية الحديثة والمعاصرة، كليّة الآداب جامعة القاهرة، جمهوريّة مصر العربيّة.
[2]. اقتباسات ذكرها الروائي والفيلسوف الكيني نجواجي وا ثيونغو في كتاب (إنهاء استعمار العقل)، كتاب في السياسة.
[3]. Wa Thiong’o, Globalectics: theory and the politics of knowing, 41.
[4]. Kgatla, The decolonisation of the mind. Missionalia, 147, 148.
[5]. Ugwuanyi, Exploring the Options for a Decolonised Knowledge Paradigm for African Education through a Critical Contrast of Afrikology, Ubuntology and Conceptual Decolonisation, 4.
[6]. Minga, Between Linguicide and Lingua- atred: A Provisional Linguistic Performativity Model for Africa, 10: 198, n 3.
[7]. Oelofsen, Decolonisation of the African Mind and Intellectual Landscape, 16: 131, n 2.
[8]. Minga, Between Linguicide and Lingua- atred: A Provisional Linguistic Performativity Model for Africa, 197.
[9]. Mazrui, & Ajaya, General History of Africa. Africa since, 340 - 343.
[10]. علي، الخطاب ما بعد الاستعماري في النقد الإفريقي: قراءة في كتاب تصفية استعمار العقل - لنغوجي واثينغو، 186.
[11]. Mbembe, Decolonizing Knowledge and the Question of the Archive.
[12]. Wa Thiong’o, Globalectics: theory and the politics of knowing, 45.
[13]. Boizette, Défense et Illustration des Langues Africaines: Linguistic Commitment and Critical Thought in Ngugi wa Thiong’o’s and Kwasi Wiredu’s Works.
[14]. Onyenuru, Mudimbe on the nature of knowledge of african culture: a r eview of the self and the other, 6.
[15]. Ibid, 6.
[16]. Osha and Wiredu, Theorist of Conceptual Decolonization, 175.
[17]. Mbembe, Future knowledges. African Studies Association Annual Meeting Abiola Lecture. P.3.
[18]. مبيتي، جون. (2023). الأديان الإفريقية والفلسفة. ترجمة: طه، إيناس. القاهرة: المركز القومي للترجمة. ص 36.
[19]. Boizette, Défense et Illustration des Langues Africaines: Linguistic Commitment and Critical Thought in Ngugi wa Thiong’o’s and Kwasi Wiredu’s Works, 3, 5.
[20]. Isife & Agbanusi, «Decolonization of the African Mind through Indigenous Education: A Philosophical Proposal», 13(1): 111.
[21]. Mbembe, Decolonizing Knowledge and question of the Archive, Africa is a Country, 13
[22]. Mbembe, Fragile Freedom (Experiences of Freedom in postcolonial literatures and cultures), 20.
[23]. فانون، بشرة سوداء أقنعة بيضاء، 20.
[24]. م. ن، 27، 28.
[25]. م. ن، 42.
[26]. Ankomah, The African fact Book, 6.
[27]. Maruma, «Mbeki on African Renaissance: A Vehicle for Africa Development, African Renaissance», 180, 181.
[28]. Asante, Meeting Cheikh Anta Diop on the road to Africa, 9- 10. .
[29]. Minga, Between Linguicide and Lingua- atred: A Provisional Linguistic Performativity Model for Africa, 199.
[30]. Ibid, 202.
[31]. Ibid.
[32]. Ibid, 208.
[33]. Osha, & Wiredu: Theorist of Conceptual Decolonization, 177.
[34]. wa, Thiongo, Writers in Politics, 5
[35].Ibid, 11.
[36]. Ibid, 12.
[37]. Wa Thiong’o, Globalectics: theory and the politics of knowing, 46.
[38]. Mbembe, out of the dark night, 57.
[39]. Osha, & Muchie, Innovation in Cultural Theory- Ngugi Wa Thiongo, 14.
[40]. wa Thiongo, Decolonising the Mind, 9:18.
[41]. Osha & Muchie, Innovation in Cultural Theory- Ngugi Wa Thiongo, 17.
[42]. Fayemi, The problem of language in contemporary African philosophy: some comments. Inkanyiso, 6.
[43]. Ibid.
[44]. Mbembe. Decolonizing Knowledge and the Question of the Archive, 17.
[45]. Osha, Kwasi Wiredu: Theorist of Conceptual Decolonization. 174. http://scholarworks.iu.edu/iupjournals/index.php/jwp
[46]. Wa Thiongo, Writers in Politics, 125.
[47]. Ibid. 31.
[48]. Wiredu, Toward Decolonizing African Philosophy and Religion, 17.
[49]. Ibid, 19.
[50]. Fayemi, The problem of language in contemporary African philosophy: some comments, 4.
[51]. Wiredu, Conceptual Decolonisation in African Philosophy, 35.
[52]. Osha, Kwasi Wiredu: Theorist of Conceptual Decolonization, 176.
[53]. Futter, Wiredu on Conceptual Decolonisation, 30.
[54]. Osha, Kwasi Wiredu: Theorist of Conceptual Decolonization, 176.
[55]. Ibid, 176.
[56]. Boizette, Défense et Illustration des Langues Africaines: Linguistic Commitment and Critical Thought in Ngugi wa Thiong’o’s and Kwasi Wiredu’s Works, 8.
[57]. Fayemi, The problem of language in contemporary African philosophy: some comments, 5.
[58]. Wiredu, Toward Decolonizing African Philosophy and Religion, 2.3
[59]. Ibid, 26.
[60]. Ibid, 27.
[61]. Okolisah, Assessing the Impacts of Globalization on Kwasi Wiredu’s Conceptual Decolonization in African Philosophy, 49.
[62]. Boizette, Défense et Illustration des Langues Africaines: Linguistic Commitment and Critical Thought in Ngugi wa Thiong’o’s and Kwasi Wiredu’s Works, 8.
[63]. Ibid, 8.
[64]. Ibid, 10.
[65]. Ibid, 9.
[66]. Ugwuanyi, Exploring the Options for a Decolonised Knowledge Paradigm for African Education through a Critical Contrast of Afrikology, 2,3.
[67]. Gadeke, How to think the world? Achille Mbembe on race, democracy and the African rolein global thought, 498
[68]. Mbembe, Out of the Dark Night, 56.
[69]. Bernal, Digitality and Decolonization: A Response to Achille Mbembe, 42.
[70]. Mbembe, Decolonizing Knowledge and question of the Archive, 6.
[71]. Mbembe, Future Knowledges and Their Implication for the Decolonisation Project.
[72]. Shewadeg, «A Quest for Decolonizing the African Universities», 10.
[73]. Mbembe, Decolonizing Knowledge and question of the Archive, 7.
[74]. Mbembe, Future knowledges, 16.
[75]. Mbembe, Future Knowledges and Their Implication for the Decolonisation Project.
[76]. Ibid, 10.
[77]. Ibid, 14.
[78]. Bernal, Digitality and Decolonization: A Response to Achille Mbembe, 48.
[79]. Ibid.
[80]. Bernal, Digitality and Decolonization: A Response to Achille Mbembe. 49.
[81]. Mbembe, Out of the Dark Night, 88.
[82]. Ibid, 224.
[83]. Mbembe, Decolonizing Knowledge and the Question of the Archive, 23.
[84]. Oelofsen, Decolonisation of the African Mind and Intellectual Landscape, 144.
[85]. Mbembe, Future Knowledges and Their Implication for the Decolonisation Project.
[86]. Ibid.
[87]. Gadeke, How to think the world? Achille Mbembe on race, democracy and the African rolein global thought, 498.
[88]. Boizette, Défense et Illustration des Langues Africaines: Linguistic Commitment and Critical Thought in Ngugi wa Thiong’o’s and Kwasi Wiredu’s Works, 7.
[89]. Okolisah, Assessing the Impacts of Globalization on Kwasi Wiredu’s Conceptual Decolonization in African Philosophy, 49.
[90]. جابر، آثر العولمة على أنماط الهوية الإفريقية بين الواقع والمأمول.
[91]. Minga, Between Linguicide and Lingua- atred: A Provisional Linguistic Performativity Model for Africa, 212.
[92]. عبد الوهاب، مشكلات الهوية الثقافية في إفريقيا، 13، 14.
[93]. Okolisah, Assessing the Impacts of Globalization on Kwasi Wiredu’s Conceptual Decolonization in African Philosophy, 51.
[94]. Shewadeg, A Quest for Decolonizing the African Universities, 14.
[95]. Ibid, 13.