الباحث : الشيخ الدكتور يوسف محمد عمرو
اسم المجلة : الاستعمار
العدد : 3
السنة : ربيع _ 2025 م
تاريخ إضافة البحث : April / 13 / 2025
عدد زيارات البحث : 156
تحتلّ النجف الأشرف مكانةً مهمّةً في العراق خاصّة وفي العالم الإسلامي عامّة؛ إذ تضمّ أعظم شخصيّةٍ بعد الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله)، ألا وهو أمير المؤمنين (عليه السلام)، وتضمّ الحوزة العلميّة المباركة، الحاضرة العلميّة الكبيرة في الوسط الإسلامي، التي خرّجت الكثير من العلماء المجتهدين الكبار، وقد أسهمت في الدفاع عن الوطن والعرض عبر إصدار فتاوى الجهاد، وتحشيد الجماهير لطرد الاحتلال الغاشم، والمشاركة الفعليّة مع المجاهدين، فكان لها كلّ التأثير في مقارعة الاحتلال البريطاني 1920م، وغيرها من المواقف المشرّفة.
تعرّض هذا البحث إلى عدّة محاور، أوّلها: موقع النجف الأشرف، وثانيها: موقف النجف من الغزو البريطاني لولاية البصرة، وثالثها: تأسيس جمعيّة النهضة الإسلاميّة في النجف، ورابعها: قيادة النجف الأشرف للثورة العراقيّة الكبرى سنة ١٩٢٠م.
الكلمات المفتاحيّة:
الاستعمار، الحبوبي، اليزدي، النجف الأشرف، الحوزة العلميّة، الغزو البريطاني.
أ - موقع النجف الأشرف
يقول بیير جان لوزيرارد في كتابه تشكيل العراق المعاصر معينًا موقع مدينة النجف: «تحتلّ النجف الموقع الرابع في ترتيب المدن الإسلاميّة المقدّسة، وتأتي بعد مكة والمدينة والقدس. إنّها مركز كلاسيكي للثقافة الإسلاميّة والتعليم الديني بالنسبة للعالم الإسلامي بأسره، فهي بمنزلة جامع الأزهر في القاهرة أو الزيتونة في تونس أو القيروان في فاس. تقع النجف الأشرف على بعد عشرة كيلو مترات من غرب الكوفة و٨٠ كيلوا مترًا من جنوب كربلاء، إنّ أصل كلمة النجف عربي، وتعني المرتفع الذي يستخدم كسدٍ منيعٍ للماء، إنّ هذا الارتفاع على شكل هضبة هو الذي أعطى اسم النجف، وتسمّى النجف أيضًا مشهد علِيّ، أي المكان الذي دُفن فيه الإمام الأول»[2].
وقد أسهمت قضايا كثيرةٌ في تعزيز مركزيّة النجف الأشرف الدينيّة في نفوس المسلمين، ولعلّ أهمّها:
أولًا: وجود القبر الشريف لمولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، المستشهد في الكوفة في شهر رمضان سنة ٤٠ هـ، الموافق لعام ٦٦١م، وأوّل من أظهر القبر الشريف وعرّفه للمؤمنين حفيده الإمام جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن أبي طالب (عليهم السلام)، والمتوفّى سنة ١٤٨هـ الموافق لعام ٧٦٥م، وأوّل من بنى قبة على القبر الشريف كان الخليفة هارون الرشيد في سنة ١٧٠هـ الموافق لسنة ٧٦٨م، ثم توالت العمارات بعد ذلك عبر تأريخ النجف.
ثانيًا: تأسيس الحوزة العلميّة في النجف الأشرف على يدي شيخ فقهاء الشيعة الإماميّة الشيخ محمد بن الحسن الطوسي في سنة ٤٤٨هـ الموافق لعام ١٠٥٦م، واستمرار هذه الحوزة خلال ألف عامٍ تقريبًا برفد العالم الإسلامي بمئات من الفقهاء المجتهدين، والفلاسفة المتكلّمين، والأدباء والمؤرّخين.
ثالثًا: استقلاليّة هذه الحوزة في الشؤون الماليّة، والسياسيّة عن الحكومات المتعاقبة خلال ألف عامٍ في العراق وإيران، وحملها الراية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين المسلمين، والدعوة إلى الله تعالى بالكلمة والموعظة الحسنة، والجهاد ضدّ الكافرين والمستعمرين دفاعًا عن حياض الإسلام والمسلمين[3].
ب - موقف النجف من الغزو البريطاني لولاية البصرة.
«اضطلعت مدينة النجف الأشرف بدورٍ بارزٍ سياسيًّا في بداية هذا القرن، بقيادة علمائها ومراجعها الشيعيّة العليا، سواء في مقاومة السياسة الطائفية التي كانت تطبقها الدولة العثمانية بحق سكان ولايات البصرة وبغداد والموصل من المذهب الشيعي، أو في الدفاع عن بيضة الإسلام ضدّ القوات البريطانيّة الغازية التي نزلت في الفاو في عام ١٩١٤م، لاحتلال الولايات الثلاثة، ملبية في قتالها للبريطانيين، نداء الجهاد الذي أعلنه شيخ الإسلام في استانبول في اليوم السابع من تشرين الثاني عام ١٩١٤م، ثم مقاومة الاحتلال البريطاني ونشاطها الفعال في التهيئة والتوعية لثورة العشرين التي عرفت بالثورة العراقيّة الكبرى ومشاركتها في أحداثها، تلك الثورة التي رغم فشلها في طرد البريطانيين من العراق، إلّا أنّها جعلتهم يغيّرون خططهم حول طريقة حكمهم للعراق وتأسيسهم لدولة العراق الحديثة بعد جلبهم فيصل الأول ليتبوّأ عرشها، وينتدبونه على مقدراتها»[4].
بعد إقدام الجيوش البريطانيّة الغازيّة على إحلال مدينة الفاو وتوجهها نحو البصرة في 1 تشرين الثاني ١٩١٤م، استغاث أهالي البصرة بعلماء الدين، ومراجع المسلمين في العتبات المقدّمة (النجف، وكربلاء، الكاظمية)، ومختلف البلدان العراقيّة، ببرقيات يطلبون فيها منهم أنْ ينهضوا بالأمر، ويعلنوا الجهاد المقدّس والنفير العام، ورد في بعضها ما نصّه: «ثغر البصرة، الكفّار محيطون به، الجميع تحت السلاح، نخشى على باقي بلاد الإسلام، ساعدونا بأمر العشائر بالدفاع».
وقد تليت هذه البرقيّة وأمثالها علنًا في المساجد، ونادى المنادي بها في الأسواق، وأخذ الوعّاظ والخطباء يلهبون مشاعر الناس بخطبهم الحماسيّة، ويؤكّدون خطر الإنكليز على الإسلام والمسلمين، كما أتى وفدٌ من بعض الشخصيّات المحترمة من السُنّة والشيعة في بغداد إلى النجف الأشرف، ولدى وصولهم استقبلوا بحفاوةٍ بالغة، ثم عُقد اجتماعٌ حافلٌ في جامع الهندي وهو من أكبر مساجد النجف الأشرف القديمة، حضره كبار المجتهدين والعلماء ورؤساء العشائر العراقية، حيث خطب فيهم آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحبوبي، وآية الله الشيخ عبد الكريم الجزائري، وآية الله الشيخ محمد جواد الجواهري. وممّا اتفق عليه الخطباء هو وجوب مساعدة أهالي البصرة في طرد الأعداء من بلادنا بعد ذلك ذهب الشيخ حميد الكليدار إلى الكوفة لمقابلة المرجع الديني الأعلى الإمام السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، وعرض أمر الجهاد عليه، فوافق السيد اليزدي على إرسال ولده السيد محمد لينوب عنه في استنهاض العشائر للجهاد، وفي ١٦ كانون الأول ١٩١٦م، صعد اليزدي المنبر في الباحة الكبرى لمقام أمير المؤمنين (عليه السلام) في النجف الأشرف، وخطب في الناس خطبةً حثّهم فيها على الدفاع عن البلاد الإسلاميّة، وأوجب على الغني العاجز بدنًا، أنْ يجهز من ماله الفقير القوي. فكان لكلامه أثرٌ طيب رددته الأطراف.
وقد توجّه على أثر ذلك من النجف إلى ساحة الحرب عن طريق الفرات عددٌ من الفقهاء المجتهدين مع أتباعهم، وصاروا ينزلون في المدن والعشائر الواقعة في طريقهم بغية تحريضهم على الجهاد، وكان أعظم أولئك المجاهدين تأثيرًا في الناس هو آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحبوبي، فقد خرج من النجف مع جماعةٍ من أصحابه الكرام، ومن أبرزهم كان أمين سره آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم، وذلك عصر يوم ١٥ تشرين الثاني ١٩١٤م، حيث تقلّد سيفه، وكانت الطبول تقرع أمامه إيذانا بالنفير العام. وبعد نزوله (رحمه الله تعالى) في كثيرٍ من المدن والعشائر وصل الناصريّة في منتصف كانون الثاني ١٩١٥م، وكان فيها أثناء مكوثه دائب الحركة، حيث كان يتجول بين العشائر المجاورة، ويرسل أعوانه من شبان الطلبة كالشيخ باقر الشبيبي وعلي الشرقي إلى العشائر البعيدة لحثّهم على الانضمام إلى حركة الجهاد.
كما ذهب وفدٌ من كبار علماء النجف الأشرف أيضًا في ٢٩ تشرين الثاني سنة ١٩١٤م، إلى بغداد لحثّ الناس على الجهاد برئاسة المرجع الديني الكبير آية الله العظمى الشيخ فتح الله المعروف بشيخ الشريعة الأصفهاني، ومندوبون عن الإمام السيد اليزدي كان أبرزهم: آية الله الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، وآية الله السيّد علي الداماد التبريزي، وآية الله السيّد مصطفى الكاشاني، والسيّد محمد نجل الإمام السيّد محمد كاظم اليزدي وغيرهم من الأعلام.
وعند وصولهم إلى الكاظميّة كان أهالي بغداد والكاظمية في استقبالهم، وعلى رأسهم كان آية الله السيد مهدي الحيدري، وآية الله الشيخ مهدي الخالصي.
وبعد تلك اللقاءات التأريخيّة في بغداد قام آية الله السيد مهدي الحيدري - وكان شيخًا كبيرًا قد قارب الثمانين من عمره الشريف - بقيادة قوافل المجاهدين والمتطوّعين من أهالي بغداد والكاظميّة إلى مدينة القرنة القريبة من البصرة في جنوب العراق.
وفي معركة الشعيبة ــ وهي تقع على تسعة أميالٍ جنوب البصرة ــ ما بين الأتراك والمجاهدين من جهة، والإنكليز والجيش الهندي والإنكليزي من جهةٍ أخرى، وبعد معارك دامية بين الفريقين استمرت أيامًا أشاع الإنكليز خبرًا أنّ القائد التركي سليمان عسكري بك قد استشهد ممّا أثر على معنويات الأتراك والمجاهدين فانهزموا، وقد تبيّن أنّ ذلك القائد التركي لا زال على قيد الحياة، وعندما علم بانهزام جيشه مع المجاهدين أطلق النار على نفسه ومات منتحرًا.
لقد كان لنتائج معركة الشعيبة الأثر العميق والحزين في نفوس المجاهدين، وقد تسبّب بوفاة آية الله السيّد محمد سعيد الحبوبي حزنًا وكمدًا؛ لما شاهده من هزيمة للمعسكر الإسلامي في الوقت الذي كان بالإمكان تحقيق النصر على الإنكليز، لولا سوء تقدير وإدارة القيادة العثمانية للعمليات الحربية! وقد صنّف جاويد باشا وهو أحد كبار القادة الأتراك في العراق آنذاك سنة ١٩١٦م، كتابًا بالتركية تحت عنوان (حرب العراق)، أظهر فيه الأخطاء الفظيعة التي اقترفتها القيادة التركيّة العليا في العراق، وأسهب في ذكر معايبها، وطيش المسؤولين الكبار فيها[5].
والشيء الذي نقرأه ونلمسه في جميع فصول الجهاد التي قام بها مراجع النجف، وكربلاء، والكاظمية الأعلام تحت راية الخلافة العثمانيّة، وفي تلك السنوات العجاف من حياة الأمة الإسلاميّة منذ احتلال الفاو في: 7/11/1917م، ولغاية سقوط بغداد في 11/3/1917م، هو رفضهم لقبض ليرةٍ واحدةٍ من أموال الدولة العثمانية، واكتفاؤهم بتزويد الدولة للمجاهدين بالسلاح، وببعض السفن الشراعيّة، وبقليلٍ من المُؤن. حيث كان فقهاء النجف الأشرف وكربلاء والكاظمية يساعدون المجاهدين من أموال الزكاة، والخمس، والتبرعات، ومن أموالهم الخاصة: فلقد كان آية الله السيد محمد سعيد الحبوبي غنيًّا وله أملاك خاصة، قام برهنها وصرفها على المجاهدين.
كما جاء في سيرة آية الله السيد مهدي الحيدري كبير علماء الكاظميّة وبغداد ما يلي: «أمّا المجاهدون، فبعد أنْ تكاملت جموعهم في العمارة، وعُبّئت القبائل تعبئةً كاملة، تحرّك السيّد مهدي الحيدري (مرة ثانية) إلى ساحة الحرب- وكانت قريبةً من القرنة - قبل بقية العلماء. ونزل في مقر القيادة العسكريّة. وبعد نزول السيد جاء القائد نفسه لزيارته والسلام عليه، ثم عرض عليه أنّه يريد أنْ يقدّم للمجاهدين ما يحتاجون إليه من المؤن والأموال، فرفض السيّد ذلك رفضًا باتًا، وقال: إنّنا مستغنون عن مساعدتكم، ولو تمكّنا نحن على مدكم بالمال والطعام لفعلنا، فشكر القائد له هذا الشمم العربي والإباء الكريم، ثم استأذنه وقبل يديه وخرج»[6].
ج - تأسيس جمعيّة النهضة الإسلاميّة في النجف
بعد سقوط بغداد بأيدي الإنكليز في ۱۱ آذار ۱۹۱۷م، ذلك السقوط الذي وصفه أحد كبار المجاهدين آية الله السيد مهدي الحيدري بأنّه (سقوط الإسلام من السماء إلى الأرض)؛ وذلك لما تمثّله بغداد للإسلام والمسلمين عبر تأريخها الحضاري القديم والحديث، من حملها لراية الإسلام، والدفاع عن المسلمين .فبعد ذلك الحدث الكبير اتّفق قادة المجاهدين من العلماء الأعلام، ورؤساء العشائر في النجف الأشرف على تأسيس حزبٍ إسلاميّ لمواجهة الاحتلال البريطاني في العراق، ومن خلال مشروعٍ إسلاميّ يسعى لإقامة حكومةٍ إسلاميّةٍ، ودعم الجهود الرامية إلى الوحدة العربيّة المستقلة تمامًا عن النفوذ الأجنبي. وقد وضع المشروع علماء مجتهدون منهم: عبد الكريم الجزائري، ومحمد علي بحر العلوم، محمد علي الدمشقي، وعباس الخليلي، وقد اتخذت هذه الجمعيّة النجف الأشرف مركزًا لها، كما انضمّ إليها معظم رؤساء القبائل العربيّة في النجف الأشرف.
قادت هذه الجمعيّة ثورة النجف في آذار ۱۹۱۸، التي صادفت بتوقيتها الذكرى الأولى الاحتلال بغداد من قبل الإنكليز، حيث قام الحاج نجم البقّال، وهو عضو في الجناح العسكري للجمعية، بقتل الحاكم البريطاني للنجف الكابتن مارشال وجرح مساعده، وهما من الجنسيّة البريطانيّة، بعد ذلك حُوصرت النجف من جميع جهاتها لمدة ٤٥ يومًا من قبل ثمانية الآف جندي بريطاني. وقد انتهت تلك الانتفاضة المباركة بإعدام قادة الجناح العسكري للجمعيّة، ونجاة سكرتير الجمعية الذي حُكم عليه بالإعدام، واستطاع الهرب من المعتقل، ونُفي تسعون عضوًا من أعضائها منهم تسعة إلى الهند، وقد قدرت خسائر البريطانيين في هذه الانتفاضة بسبعمائة قتيل.
ويمكن اعتبار نهضة النجف وانتفاضتها تلك أنّها كانت أول ثورةٍ لمدينةٍ عربيةٍ إسلاميّةٍ ضدّ الاحتلال البريطاني في العالم الإسلامي. كما شُنق من أبناء هذه المدينة أحد عشر شخصًا، وهم بهذا أوّل عراقيين يشنقون من قبل الإنكليز، كما أعطت تلك الثورة أول مجموعةٍ عراقيةٍ تجاوز عددها المائة شخص، يُساق قسمٌ منها إلى المنفى خارج العراق، والقسم الباقي إلى سجن بغداد[7]. وبهذا تكون النجف الأشرف في عام ۱۹۱۸م، أول مدينةٍ إسلاميّةٍ في القرن العشرين تكتب بدماء أبنائها ومجاهديها ملحمة الحريّة والاستقلال للمدن وللشعوب الإسلاميّة، وللجامعات والحوزات العلميّة في العالم الإسلامي، رافعةً راية تنظيم مقاومة الاستعمار من خلال إنشاء الأحزاب والجمعيّات الإسلاميّة.
د - قيادة النجف الأشرف للثورة العراقية الكبرى سنة ١٩٢٠م.
بعد انتكاسة مشروع جمعيّة النهضة الإسلاميّة في النجف، وقيام الإنكليز بانتهاك حقوق الإنسان المسلم في العراق، وبمئات التعديات على العراقيين، أفتى الإمام الشيخ الميرزا محمد تقي الشيرازي بما يلي: «مطالبة الحقوق واجبة على العراقيين، ويجب عليهم ضمن مطالبتهم، ورعاية السلم والأمن، ويجوز لهم التوسّل بالقوة الدفاعية، إذا امتنع الإنكليزي عن قبول مطالبهم»[8].
كان لهذه الفتوى الأثر البالغ سواء في إثارة مشاعر قبائل الفرات الأوسط، أم المدن المقدّسة، ممّا ألهب لهيب الثورة وزاد من اتساعها وظروفها، فشملت مناطق عديدة مثل المشخاب والشاميّة وغيرها. على أثر ذلك انسحب الإنكليز من النجف في ليلة ٢٨ شوال ۱۳۳۸هـ الموافق ١٥ تموز ۱۹۲۰م، وذلك على أثر إحساسهم بغليان الثورة في الفرات الأوسط. وقد قام أهالي النجف بنهب السراي والاستيلاء على مائتي بندقية وزعت على أحياء النجف الأربعة وصارت النجف، بعد إعلان الثورة فيها، تحكم نفسها بنفسها على الطريقة العشائرية العامّة، كما تم إنشاء حكومةٍ مؤقتةٍ من قبل النجفيين للنظر في الشؤون العامّة التي تتعلّق بشؤون الثورة.
وفي أثناء قيام تلك الثورة المباركة فقد العراق والعالم الإسلامي الإمام الميرزا الشيخ محمد تقي الشيرازي بانتقاله إلى رحمة الله تعالى. وقد استقرّ الرأي في النجف على مبايعة آية الله العظمى الشيخ فتح الله المعروف الشيخ الشريفة الأصفهاني مرجعًا أعلى، وقائدًا عامًّا للثورة وللثوار. وقد انتهز حاكم العراق البريطاني (ويسلون) هذه الفرصة بمحاولة عرض الصلح على شيخ الشريعة الأصفهاني من خلال رسالةٍ مؤرخةٍ في ۲۷ آب ۱۹۲۰م، طبعت منها القيادة البريطانيّة في العراق آلاف النسخ جرى توزيع بعضها بواسطة الطائرات، كما نشرتها في الصحف التابعة لها في بغداد والموصل، والبصرة.
وقد استدعى الشيخ الأصفهاني حاشيته ومستشاريه للمداولة في هذا الأمر، فانقسموا إلى فريقين، فريق يستحسن المفاوضة مع الإنكليز؛ لأنّ الثوار قد نفد ما لديهم من ذخيرة، وأنّ الإيمان وحده لا يكفي لمقاومة الجيوش البريطانية الجرارة. والفريق الثاني كان يرى أنّ مفاوضة الإنكليز لا فائدة منها، ومن الأفضل أنْ يحارب الثوار الإنكليز حتى آخر طلقةٍ نارية، وحتى يعلم الناس أنّ الثورة أخفقت بسبب نفاد السلاح والذخيرة وهذا خيرٌ من الرضوخ والاستسلام للإنكليز، ولتسمع الدول والشعوب الحرّة في العالم احتجاجات الثوار.
وكانت الغلبة في هذه المشاورات للفريق الثاني، واستقرّ الرأي على أنْ يكون الردّ على ويلسون بأسلوبين: أحدهما بشكل رسالةٍ موجّهةٍ إلى ويلسون من الإمام آية الله شيخ الشريعة الأصفهاني، وهي تعلن الرفض بأسلوبٍ معتدلٍ يناسب مقام الأصفهاني، والثاني بشكل بيانٍ عامٍّ مكتوبٍ بأسلوبٍ شديد اللهجة.
وكان خلاصة تلك المشاورات تنظيم عريضةٍ موجّهةٍ إلى عصبة الأمم وإلى الدول والشعوب الحرّة في العالم، وقّع عليها جميع زعماء المعارضة للحكم البريطاني في العراق، يضعون فيها النقاط على الحروف، ويوضحون فيها تعدّيات الجيش الإنكليزي على حقوق الإنسان في العراق، ويطالبون فيها بالاستقلال والحريّة طالبين من الدول والشعوب الحرّة في العالم مساعدتهم في ذلك.
قال السيّد محمد صادق بحر العلوم ملخّصًا ومؤرّخًا لتلك الثورة المجيدة: «لثورة العشرين أهميّةٌ خاصّة، حيث إنّ ١٣٠ ألف ثائرٍ من الفلاحين والبدو وسكّان المدن، شهروا السلاح في وجه أقوى دولةٍ إمبرياليّةٍ في ذلك الحين، وقاتلوا قواتها المتفوّقة عددًا وعدةً لأكثر من خمسة أشهرٍ بشجاعةٍ لم يسبق لها مثيل.
وإنّ الانتفاضات التي قام بها الشعب العراقي، والتي انطلقت من المدن المقدّسة ابتداءً من النجف الأشرف، دفعت بسريانها ضدّ الاستعمار البريطاني خلال ۱۹۲۰، و۱۹۲٤، و۱۹۲۷ و۱۹۲۸م. والانتفاضة الجبّارة التي حدثت خلال الأعوام ۱۹۳٥ و۱۹۳۸م، سجّلت أحداثًا مجيدةً في تاريخ النضال التحرري للشعب العراقي. الحدث العظيم الذي حدث في ميثاق النجف ۲۳ آذار ۱۹۳٥م الموجّه من الشعب العراقي إلى مرجع المسلمين الشيعة آنذاك الإمام الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء.
واستمر العراق بعطائه حتى كانت اتفاقية بورتسموت ١٩٤٨م حيث أحبطها الشعب بثورته، ومزّق اتفاقيتها، وامتدت أعوام الجهاد حتى عام ١٩٥٦م عندما قام العدوان الثلاثي البريطاني والفرنسي والإسرائيلي على الشقيقة مصر، فكان الشعب العراقي يقف بالمرصاد الحكومة العراق فتظاهر مستنكرًا، وسقط الضحايا برصاص نوري السعيد.... »[9].
وبعد النهاية المأساويّة لتلك الثورة المجيدة، فُجع العراق والعالم الإسلامي بوفاة كبير علماء النجف الأشرف الإمام شيخ الشريعة الأصفهاني (قده)، وهو صاحب مدرسة كبرى في الجهاد، وفي مقاومة الاستعمار البريطاني في العالم الإسلامي بظروفٍ مريبةٍ تدعو للتساؤل عن سبب وفاته!
هـ - عودٌ على ذي بدء
وبعد فإنّ مدينة النجف الأشرف وما تمثّل لكلّ مسلمٍ ومسلمةٍ من معانٍ وقيم، ومُثُلٍ عليا للقيادة العلمائيّة الحكيمة قامت عبر تاريخها القديم منذ أيام الشيخ الطوسي (قده) في سنة ٤٤٨هـ الموافق لعام ١٠٥٦م، ولغاية سنة ١٣٣٢هـ الموافق لعام ١٩١٤م، بحمل الرسالة الإسلاميّة خير قيام بفتحها لأبواب الاجتهاد في الشريعة الإسلاميّة، وفي آداب اللغة العربيّة، وفي الفلسفة والحكمة، والمعارف الإسلاميّة، ومن أمرٍ بالمعروف ونهيٍ عن المنكر. وما هذا وذاك إلّا الاقتداء بسيّد النجف وإمامها أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الذي قال: «العِلمُ مَقرونٌ إلَى العَمَلِ، فمَن عَلِمَ عَمِلَ، ومَن عَمِلَ عَلِمَ، والعِلمُ يَهتِفُ بِالعَمَلِ، فإن أجابَهُ وإلّا ارتَحَلَ عنه» [10].
وأمّا دور النجف الأشرف ومراجعها الأعلام في القرن العشرين منذ سنة ١٩١٤م الموافق العام ١٣٣٢هـ، ولغاية أيامنا هذه في نهاية العام ۲۰۰۲م الموافق لعام ١٤٢٣هـ ، فكان هو حمل رسالتها القديمة في فتح أبواب الاجتهاد في المعارف الإنسانيّة والإسلاميّة مع رسالة الجهاد في سبيل الله تعالى، ومقاومة الاستعمار ونفوذه في العراق وخارجه، بالكلمة والموعظة الحسنة، وبالمقاومة للاستعمار والنفوذ البريطاني والأمريكي في العراق، وإيران ، وأفغانستان ، وكشمير، ولبنان، وفلسطين، وتفصيل الكلام حول هذا يستدعي تصنيف عدة مصنفات في هذا الباب .
ومن أسباب هذا التوفيق الإلهي لعلماء النجف الأشرف ومراجعها الأعلام زهدهم بالدنيا، ورفضهم لأموال السلطات الرسميّة ووزارة الأوقاف وإيمانهم أنّ الإسلام هو دين التوحيد وتوحيد الكلمة. وأنّ الله تعالى لا يقبل إسلامنا دون إيماننا بالوحدة الإسلامية بين أبناء الأمة الإسلامية الواحدة، ودون رفعنا لراية الجهاد في سبيل الله تعالى، مصداقا لقول الله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[11].
المصادر والمراجع
القرآن الكريم
البهادلي، علي، الحوزة العلميّة في النجف، دار الزهراء للطباعة والنشر، لبنان- بيروت، 1993م.
الحسني، عبد الرزاق، الثورة العراقيّة الكبرى، مؤسّسة المحبين، إيران- قم المقدسة، الطبعة الأولى، 1426هـ
الجبوري، سلمان، حركة الجهاد وموقف النجف ضد الغزو الأجنبي، مؤسّسة العارف للمطبوعات، لبنان- بيروت، الطبعة الأولى، 2002م.
الشريف الرضي، محمد، نهج البلاغة لأمير المؤمنين (عليه السلام)، تحقيق: قيس بهجت العطار، مؤسسة الرافد للمطبوعات، إيران- قم المقدسة، 2010م.
عبده، محمد، شرح نهج البلاغة، دار الجيل للطباعة والنشر، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى. 1996م.
مركز كربلاء للدراسات والبحوث، النجف الأشرف إسهامات في الحضارة الإنسانيّة، لندن، الطبعة الأولى، 2000م.
----------------------------
[1]. عالم واديب لبناني – بيروت.
مصدر البحث: مجلة آفاق نجفيّة، العدد 2، 1427هـ
[2]1. مركز كربلاء للدراسات والبحوث، النجف الأشرف إسهامات في الحضارة الإنسانيّة،1: ٢٨٩، نقلا عن كتاب: تشكيل العراق المعاصر والدور للعلماء الشيعة في نهاية السيطرة العثمانيّة، 143.
[3]. راجع كتاب الحوزة العلمية في النجف للأستاذ علي أحمد البهادلي.
[4]. خان، دور الثورة العراقيّة الكبرى، 2: 269.
[5]. الجبوري، حركة الجهاد وموقف النجف ضد الغزو الأجنبي، 295-318.
[6]. م. ن، 308.
[7]. م. ن، 277، 278.
[8]. م. ن، 289.
[9]. م. ن، 253، 254.
[10]. الشريف الرضي، نهج البلاغة لأمير المؤمنين (عليه السلام)، 4: 747، 748.
[11]. ال عمران: 103، 104، 105.