البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

جيوبولتيك سورية وأهميّتها من منظار الاستعمار الفرنسي

الباحث :  د. إبراهيم أحمد سعيد
اسم المجلة :  الاستعمار
العدد :  2
السنة :  شتاء _ 2025 م
تاريخ إضافة البحث :  January / 13 / 2025
عدد زيارات البحث :  68
تحميل  ( 1.103 MB )
الملخص
نظرًا لموقع سورية المتميز في إقليم المشرق العربي وشرقي البحر المتوسط وقربها من عاصمة السلطنة العثمانية، ولغناها بالآثار التاريخية ولوقوعها المتوسط بين البحر المتوسط وبلاد ما بين النهرين وشرقها، فقد أولت فرنسا أهميةً كبيرةً لسورية فعدّتها أساس ومرتكز اهتمامها بالسلطنة وبمستقبل المنطقة.
يهدف البحث إلى التركيز على الوضع الجيوسياسي لسورية الكبرى وللمتغيرات الجيوبولتيكية خلال فترة ما قبل الاستعمار الفرنسي والبريطاني خلال تراجع سلطة الدولة العثمانية، وتنامي الوعي القومي العربي في بلاد العرب عمومًا، وفي سورية خصوصًا، وركّز البحث على المؤامرات التي حيكت بين الدول الاستعمارية، خصوصًا فرنسا وبريطانيا، كاتفاقية سايكس – بيكو، وتلاها كذلك وعد بلفور. وقد تم إظهار موقع سورية الفلكي والجغرافي والاقتصادي والحضاري.
تطرّق البحث للعوامل التي دفعت بالأحداث في سورية نحو التفجّر والتغير الجيوسياسي في فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى كتنحية السلطان عبد الحميد الثاني، ووصول الاتحاديين إلى السلطة، وتلاه التطرف والتعصب التركي ضد العرب، ثم الصراع المحتدم بين الاتحاديين أنفسهم (طلعت وأنور وجمال)، وما فعلوه في سياسة تتريك الدولة العثمانية، وإعدام القوميين العرب في عام 1916 م.

الكلمات المفتاحية: اتفاقية سايكس – بيكو، وعد بلفور، جمال باشا، الشريف حسين، الاستعمار الفرنسي والبريطاني.

مقدمة
تُشكل سورية الكبرى (الطبيعية) وحدةً سياسيةً متميزةً في إقليم شرق البحر المتوسط وفي جنوب غرب آسيا، أو ما يُعرف بإقليم الشرق الأوسط، فهي تمتد، كمصطلحٍ جيوسياسي قديم، من العريش على حدود سيناء إلى مرسين في جنوب تركيا حاليًا، ونظرًا لما تحتويه من عناصر جغرافية مهمة لأيّة دولةٍ أو امبراطوريةٍ تهيمن على الإقليم الكبير، فقد احتلت مكانةً متفردةً في السلطنة العثمانية للأسباب الآتية:

قربها الجغرافي من مقر عاصمة السلطنة (الأستانة)، وبالتالي تأثيرها في إدارة الدولة.
تداخلها في مناطق متعددة مع التوزع والتركز الجغرافي التاريخي للقبائل التركية الأساسية التي أسست السلطة السياسية التركية التي عُرفت فيما بعد بالسلطنة العثمانية.
احتوائها على مراكز حضاريةٍ ذات مكانةٍ روحيةٍ جذريةٍ بالنسبة للديانات السماوية، الإسلام والمسيحية واليهودية.
الغنى الكبير في الآثار والأوابد التاريخية، بحيث تُشكل جذرًا حضاريًا للثقافة الإنسانية كما قال عالم الآثار الفرنسي شارل فيرلو: (لكل إنسان وطنان وطنه الأم وسورية).
الغنى بثرواتها الطبيعية الكبيرة، خصوصًا الزراعية منها، حيث كانت تطعم امبراطوريات كبيرة (الإمبراطورية الرومانية)، وتؤمن احتياجات الجيوش القديمة.

موقعها الجغرافي المتوسّط بين البحر المتوسط وبلاد ما بين النهرين وفارس، وآسيا الصغرى ومصر وشبه جزيرة العرب، وبالتالي فهي حلقة وصلٍ ذات قيمةٍ إستراتيجيةٍ في كلّ الجهات، وفي مناطق التوسع والحركة والربط والانتهاء، وطرق القوافل التجارية والحركة الاقتصادية الحيوية في الحضارات القديمة، بين أوروبا وآسيا وأفريقيا ضمن الخطوط البرية والبحرية على حد سواء.
يهدف هذا البحث إلى التركيز على الوضع الجيوسياسي لسورية الكبرى والمتغيرات الجيوبوليتيكية خلال فترة ما قبل الاستعمار الفرنسي والبريطاني، خصوصًا في فترة تداعي وتراجع السلطنة العثمانية وما تخللها من تقدّم في الوعي القومي وظهور الأحزاب السياسية العربية والتركية وغيرهما وبداية الحرب العالمية الأولى، وما عُرف بالثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين بن علي، ثم اتفاقية سايكس بيكو وتقسيم المنطقة العربية الآسيوية، ووعد بلفور وخروج الأتراك العثمانيين من سورية في تشرين الأول من عام 1918م ، حيث بدأ العهد الوطني بقيادة الأمير فيصل بن الحسين، الذي امتد حتى 26/7/ 1920م عندما دخل الجنرال غورو مدينة دمشق، بعد معركة ميسلون، معلنًا بداية الاستعمار (الانتداب) الفرنسي على سورية، وتقسيمها إلى خمس دول بالإضافة لسيطرة بريطانيا على الجزء الجنوبي منها، وهي فلسطين والأردن.

سيتم استخدام المنهج التاريخي ومنهج التحليل العاملي في إنجاز هذا البحث بالإضافة للأسلوب الكارتوغرافي لرصد وإظهار المتغيرات الجيوبوليتيكية في المنطقة.

أولًا: موقع سورية وأهميته الاستراتيجية
تشكّل دراسة الموقع فاتحة كلّ دراسةٍ مهما كان مستواها ونوعها؛ لأنّ كثيرًا من المتغيّرات والظواهر الطبيعية والبشرية والاقتصادية والسياسية يمثّل الموقع مفتاح فهمها وحسن تحليلها وتطوير مهامها ووظائفها وفي هذه الدراسة سنتطرق إلى أبعاد وأنواع وأهمية موقع سورية في الجغرافية السياسية وفي الجيوبوليتيك. وأهم أشكال الموقع الآتي:

1. الموقع الفلكي:
يُقصد بالموقع الفلكي المكان الذي تشغله أيّة بقعةٍ على سطح الأرض، دولة أو كانت أو إقليمًا، وأقلّ من ذلك أو أكثر، بالنسبة لشبكة الإحداثيات العالمية المتبعة، وهي دوائر العرض وخطوط الطول.
إنّ لموقع سورية الفلكي أهميةً كبيرةً من خلال وقوعها في منتصف الخريطة العالمية في العروض المعتدلة وسطًا بين خط الاستواء والدائرة القطبية، وما يتفتق عنه من نتائج متعددة مهمة كالموازنة الحرارية والمناخ المناسب للزراعة واعتداله، وعدم تطرفه، ووقوعه بين حضارات الشمال والجنوب والشرق والغرب.

2. الموقع الجغرافي:
تقع سورية (الطبيعية) في الزاوية الجنوبية الغربية للقارة الآسيوية، وتمثّل غزة نهاية سورية، وهي صلة الوصل بين آسيا وأفريقيا وبوابة غزو مصر، وتواجه القارة الأوروبية، وتُشرف على الشواطئ الشرقية للبحر المتوسط الذي يُعد أهم بحار العالم وأكثرها حيوية وضخًّا في الحضارة الإنسانية. وهي بوابة تركيا إلى الوطن العربي، وتعدّ الظهير الجغرافي للعراق غربًا، وهي تُعد التتمة الطبيعية والاستمرار المجالي لشبه الجزيرة العربية، حيث كان التواصل الحيوي بين اليمن والحجاز ونجد وبلاد الشام.

3. الموقع الاقتصادي:
تمثّل سورية صلة الوصل بين المناطق الجغرافية الآتية:
العراق في الشرق.
البحر المتوسط في الغرب.
تركيا في الشمال.

إنّ هذا الموقع المتوسط يمتلك أهميةً اقتصاديةً كبيرةً في تجارة الترانزيت بين أوروبا (برًا) عن طريق تركيا، وشبه جزيرة العرب (دول مجلس التعاون واليمن). ووقوع سورية في منطقة متوسطة بين المناطق الاقتصادية المحيطة بها يجعلها مكانًا مناسبًا للاستثمارات الاقتصادية وإقامة المشاريع الإنتاجية والخدمية وفقًا لنظرية الموقع، وهذا ما يسمح لتطوير وتنمية الموانئ وجعلها قادرةً على تلبية متطلبات الظهير الجغرافي لها الخليجي والعراقي ووسط آسيا.

4. الموقع الثقافي والحضاري:
تُمثّل سورية الطبيعية (بلاد الشام) عمق العالم المتحضر، لما لها من أهميةٍ كبيرةٍ في الحضارة الإنسانية، فمن هنا نشأت حضارة الكتابة والأبجديات التي تعدّ عملية إبداعية في تاريخ البشرية، ومن هنا كانت البدايات لاستخدام الأرقام والترميز والصفقات التجارية، ومن سورية كانت ثقافة البحار والانطلاق نحو العوالم الأخرى، ومنها انتشرت الديانات السماوية (المسيحية واليهودية وكذلك الإسلام)، ولا يوجد في العالم تنوعٌ دينيّ وثقافيٌّ متناغمٌ في العالم كلّه كما هو موجود في سورية. لقد اختصرت سورية التآلف الإنساني.

إنّ لهذا الموقع أهميةً كبيرةً في تاريخ البشرية فالحضارة السورية وسطًا بين الحضارة المصرية وحضارة ما بين النهرين، وكانت وما زالت وسطًا بين الشرق والغرب. ومن سورية مرّت ووصلت حضارة الإغريق والرومان والفرس والفرنجة، وجحافل التتار والمغول والعثمانيين ثم الأوروبيين والصهاينة، ولم تتعرض منطقة في العالم للمؤامرات والتقسيم والتخريب كما تعرّضت له سورية الكبرى، كما حصل في وعد بلفور واتفاقية سايكس بيكو، وزرع دولة معادية للعرب وللحضارة العربية في عام 1948م.

5. موقع سورية في نظريات الجيوبوليتيك العالمية:
تقع سورية في نظرية هالفورد ماكندر (نظرية قلب العالم) في منتصف الجسر الواقع بين القلب الكبير في وسط آسيا وشرق أوروبا، وبين القلب الصغير في وسط أفريقيا والممتد من مصر إلى القفقاز. وبالوقت نفسه في وسط المنطقة المحورية، الهلال الداخلي الممتد من سهول البلطيق في الشمال الغربي إلى كوريا في الشمال الشرقي من الخريطة السياسية، فسورية هي المنطقة الوسطى العالمية في نظرية ماكندر. أما في أفكار سبيكمان التي حاول فيها أنْ يتلافى نواقص نظرية ماكندر، فقد حدّد النطاق الساحلي (Rimi Land) الريميلاند، الذي هو منطقة التصادم بين القوى البرية والتي تمثلها منطقة قلب الأرض عند ماكندر وبين القوى البحرية التي يمثلها الهلال الخارجي عند ماكندر، وسورية تحتلّ أيضًا المنطقة الوسطى في الريميلاند والممتدة من هولندا وحتى شبه جزيرة كامتشاتكا الروسية، ومن يسيطر على هذه المنطقة يسيطر على العالم كلّه في النهاية، ممّا يُعطي لسورية أهميةً كبيرةً في الجيواستراتيجيا العالمية.

ثانيًا: العوامل التي دفعت بالاستعمار الفرنسي والبريطاني للاهتمام بسورية واحتلالها
توجد جملةٌ من العوامل التي دفعت بالاستعمار الفرنسي والبريطاني للاهتمام بسورية واحتلالها، ويمكن تحديدها بالآتي:
أهمية موقع سورية في المشرق العربي وشرقي المتوسط عمومًا، وبوابة الانتقال إلى أفريقيا، وما تمتلكه من مراكز روحية مهمة.
الاندفاع الشديد من بريطانيا وفرنسا للتوسع والهيمنة على مناطق واسعة من العالم عمومًا، وفي حوض المتوسط خصوصًا.

التنافس الشديد بين الدولتين الأوروبيتين للاحتلال والسيطرة على أراضي وبلدان الدولة العثمانية، الرجل المريض، التي بدت وكأنّها تلفظ أنفاسها الأخيرة مع استلام الاتحاديين للسلطة وتنحية السلطان عبد الحميد الثاني في عام 1908م، وتحوّل الدولة إلى دولةٍ طورانيةٍ تركيةٍ قوميةٍ شوفونيةٍ ضد العرب.
شعور شعوب مكونات الدولة العثمانية أنّهم مظلومون ومضطهدون، وفي مقدمتهم السكّان العرب السوريون والعراقيون وفي الحجاز ونجد، ممّا يُشكل عامل نبذ وتدمير للدولة (الطرد المركزي) من جهة، وعامل جذبٍ وتدخّلٍ من الدول الأوروبية الطامعة في احتلال هذه البلدان.

وجود أسرةٍ حاكمةٍ طموحةٍ في مصر، محمد علي باشا، حاولت ونجحت بداية في منتصف القرن التاسع عشر، بالتوسع إلى الحجاز وسورية والوصول إلى الحدود الطبيعية لسورية في سفوح جبال طوروس، وعادت العقيدة الاستراتيجية القديمة بأنّ أمن مصر هو من سورية، وأنّ مصر تشكّل الحضن الآمن لسورية، فهما يشكّلان وحدةً جغرافيةً سياسيةً يكملان بعضهما البعض؛ ولهذا كان التدخل الإنكليزي والفرنسي لمنع محمد علي باشا (ابنه إبراهيم باشا) من ضم سورية والحجاز إلى مصر؛ لأنّه سيصبح قوةً عظيمةً تهدّد مصالح الغرب، ويُشكل وحدةً سياسيةً (دولة) مانعةً بين الشرق المتمثل بإيران والهند، والغرب المتمثل بأوروبا بكلّ ما تملكه من مصالح في ذلك الشرق .

التنافس على سورية بهدف تنفيذ المشروع الصهيوني فيها من قبل بريطانيا، حيث توضعت أسسه الاستراتيجية خلال مؤتمر كامبل بنرمان في عام 1907م، بوظيفة فصل شمال أفريقيا العربي عن المشرق العربي، وإقامة الدولة الصهيونية كوطن قومي لليهود، ولتكون قاعدةً متقدمةً للغرب في المشرق، أمّا من الجانب الفرنسي فقد فشل مشروع نابليون 1798- 1803م، أمام أسوار عكا وجرّت فرنسا ذيول هزيمتها من المنطقة، ولكن من خلال الجمعيات التبشيرية، خصوصًا في لبنان، استطاعت أنْ تعود مرةً ثانيةً خلال أحداث عام 1860م ، حيث دعمت فريقًا من اللبنانيين (المسيحيين) الناقمين على السلطة العثمانية والطامحين بالوقت ذاته بإقامة دولةٍ مستقلةٍ في سورية عمومًا وفي لبنان خصوصًا. وكان أساس هذا التدخّل المباشر بإقامة الجمعيات الخيرية، بالظاهر، والساعية لأهداف سياسيةٍ واضحةٍ ومعلنةٍ بإنشاء كيانٍ سياسيّ تحت حمايةٍ فرنسيةٍ، وبالوقت ذاته تنصير المسلمين الفقراء بتقديم المساعدات الغذائية المشروطة مستغلةً حالة الفقر الشديد والظلم والقهر التي أوجدتها السلطات العثمانية.

لقد كان لبريطانيا الدور الكبير المدمّر، خلال تنافسها بالاستيلاء على سورية خصوصًا على المنطقة العربية عمومًا، حيث ركبت موجةً مغايرةً لما ركبته فرنسا التي استخدمت واستغلّت العامل الطائفي كما لاحظنا، فاستخدمت العامل القومي، الذي كان قد وصل إلى درجةٍ متقدمةٍ متأثرًا بالحركة القومية في أوروبا. فقد قدّمت بريطانيا الدعم للقوميين العرب بإنشاء جمعياتٍ عربية، مقابلة للجمعيات التركية القومية المتطرّفة كجمعية تركيا الفتاة، وقد كانت في البداية كفكرةٍ متطورةٍ من التيار الإسلامي العربي كحركة الجامعة الإسلامية المتأثرة بكتاب أم القرى لعبد الرحمن الكواكبي (1852-1902)، ولكن منذ عام 1906 م بدأت بالتشكل جمعياتٌ سياسيةٌ تدعو إلى التعصّب القومي، ونشر وتعليم اللغة العربية بين أبناء الوطن في كلّ البلدان العربية الواقعة تحت الاستعمار العثماني، وقد تألّفت جمعية النهضة العربية، التي أسّسها طاهر الجزائري وجمال الدين القاسمي. وفي عام 1909م، تأسست الجمعية القحطانية، والمنتدى الأدبي بجهود عبد الرحمن الزهراوي، وعبد الكريم الخليل.
وكانت أكبر هذه الجمعيات جمعية العربية الفتاة التي استمرت حتى الاستعمار الفرنسي، واستقرت في باريس. خطورة التدخل البريطاني في هذه الجمعيات هو دفع روادها القوميين إلى حد إشهار أسمائهم وإيصالها إلى جمال باشا السفّاح؛ ليقتلهم ويريح الإنكليز منهم عندما تبدأ اللحظة المناسبة للاستيلاء على ديار العرب وبالوقت ذاته تدفع بالعرب، خصوصًا القوميين منهم، إلى التمرد المباشر وحمل السلاح مع الإنكليز والفرنسيين عندما يُقررا ذلك، قد ظهر هذا واضحًا مع بداية الحرب العالمية الأولى وحاجة الحلفاء لأن يقف العرب بقادتهم القوميين إلى جانب الحلفاء من جهة، والتمرد على العثمانيين وإخراجهم من ديار العرب.

وإذا أضفنا اتفاقية سايكس – بيكو ، التي عقدت في 16/5/1916م ، تبيّن لنا درجة التنافس بين الدولتين على اقتسام ديار العرب ومؤامرة إقامة الوطن القومي اليهودي، نجد بأنّ الاتفاق بحد ذاته هو بلورة للتنافس الاستعماري والتنسيق بينهما في الهيمنة وسرقة خيرات الشعوب ومواردها، وإذا دخلنا بالتفاصيل وجدنا تعبير الدول الاستعمارية عن مصالحها بالوقاحة وعدم احترام حقوق الآخرين، فقد روّجت فرنسا عبر قناصلها في المنطقة العربية بوجود قضيةٍ سوريةٍ محتواها أنّ السوريين يريدون الاستقلال والحماية من فرنسا، وقد أدخلوا روسيا القيصرية على خط التنافس معهما، ولكن الشيء المثير للاستغراب وقوف هذه الدول مجتمعةً ضد ألمانيا ، التي كان لها مصالح في الاسكندرون وسورية الشمالية، ودخلت إيطاليا كذلك على خط الابتزاز فكانت تريد مقابل موافقتها لفرنسا باحتلالها سورية وبعض الجزر في شرق المتوسط ، وفي بحر إيجة. في مجلس الشيوخ في 24/12/1912م بأنّه لا مصالح لإنكلترا في سورية، وأنّه يجب المحافظة على أراضي تركيا في آسيا (يقصد المشرق العربي)، وأنّ فرنسا لن تتنازل عن مصالحها في سورية، ولن ندعها عرضة لأيّ خطر. وقد كتب سفير فرنسا في ألمانيا إلى حكومته بألّا تدع الصحف الفرنسية تكتب عن الدولة العثمانية؛ لأنّ لألمانيا مصالح في سورية وفلسطين، وكذلك لإيطاليا وروسيا مصالح فيها أيضًا، وقال: يجب انتظار موت الرجل المريض، الذي طال مرضه، ومن ثم يتم كلّ شيءٍ بعد ذلك. أمّا الروس فقد كانوا متعقلين باهتمامهم في سورية ولكن بطريقةٍ مختلفةٍ بعض الشيء، فهذا قنصلها في بيروت يقول: بأنّه لا يُعطي الأحداث في سورية أهميةً بالغةً، حيث يجب أنْ يكون السوريون وحدهم المهتمين بأمورهم.

وكانت فرنسا تطمح بالحصول على حق مد سكة حديد اسكندرون – بغداد حتى تقطع على ألمانيا أطماعها في المكان ذاته، وإذا لم تتمكن من ذلك فقد وضعت بديلًا لهذا وهو العمل على مد خط حلب – رياق ومنها إلى الرملة في فلسطين وطلبت كذلك حتى تتمكن من سورية كلّها إعطاءها امتيازات إنشاء مرفأين في طرابلس ويافا، وقد وافق الباب العالي على ذلك .

لقد نسّقت كلٌّ من فرنسا وألمانيا اقتسام المصالح في سورية والابتعاد، على الأقل ظاهريًا، عن التناقض في المواقف والمصالح، وفق اقترحت فرنسا على ألمانيا بمدّ سكة حديد بين حلب واسكندرون مع ربطه بخط بغداد، بالمقابل تقوم فرنسا بمد خط حديد حماه – طرابلس وحماه دير الزور، ثم ربطه بسكة بغداد.

وقد أُغلق هذا الاتفاق باقتسام المصالح المرتبطة بكلتا الدولتين بمسافة لا تزيد عن 60 كم شمال وجنوب كلّ خط من الخطين السابقين. ولكن بريطانيا لم تقف صامتةً وخصوصًا بالنسبة لجنوب سورية حيث عارضت بشدة قيام فرنسا بمد سكة حديد الرملة فالحدود المصرية متذرعةً بأنّ حركة الموانئ في هذه المناطق تحقق الفائدة المرجوة، وأنّ حركة التجارة بين البلدين ليست كبيرة، والأهم من ذلك هو وضع بريطانيا حجة أن السوريين سيتدخلون في الشأن المصري، ويؤثرون على أمن مصر، ولكن الأمر ليس كذلك، بل في الواقع كانت بريطانيا لا تريد أنْ ترى بفلسطين جزءًا من سورية خصوصًا أنّها ستصبح تحت الحماية الفرنسية.

لقد ظهرت مكانة سورية بالنسبة لفرنسا، خصوصًا لبنان، في السياسة الدولية بعد أنْ تم تعيين جورج بيكو سفيرًا لها في بيروت؛ لأنّ شعاره المعلن للدبلوماسيين الأجانب بأنّ « لبنان لنا، ولا حياة له دوننا». ولعل قولته عند مغادرته بيروت، بعد أنْ بدأت الحرب العالمية الأولى ودخول تركيا الحرب لجانب ألمانيا، تُظهر موقف وسياسة فرنسا تجاه سورية: إلى اللقاء القريب، إنّها مسألة أيام معدودة، وسأعود إليكم على رأس جيشنا المنتصر .

وقبل بداية الحرب العالمية الأولى تزاحمت الأساطيل الحربية الأوروبية، المتنافسة على سورية، مقابل الشواطئ السورية وفي المياه الإقليمية أمام يافا وحيفا وبيروت واسكندرون، من الجنسيات البريطانية والفرنسية والألمانية والروسية.
لقد ازدادت أهمية سورية مع بداية الحرب العالمية الأولى ودخول تركيا الحرب مع ألمانيا وحصار الحلفاء للمياه الإقليمية السورية؛ لأنّها صلة الوصل مع العراق والشرق ومع شبه جزيرة العرب، وبروز ضرورة القيام بحربٍ قويةٍ وكبيرةٍ على قناة السويس الممر الحيوي الاستراتيجي، الذي تسعى كلّ الدول للهيمنة عليه حصوصًا في أوقات الحروب الكبيرة كالحرب العالمية الأولى.

ثالثًا: العوامل التي دفعت بالأحداث في سورية نحو التفجر والتغير الجيوسياسي في فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى
لقد دفعت جملة من العوامل الأحداث في سورية جاءت نتائجها سريعةً وفاصلةً على مستقبل سورية والمنطقة العربية، وأهمها الآتي:
تنحية السلطان عبد الحميد الثاني، وتسليم أخيه محمد رشاد في عام 1909م، وما تبعه من نقمةٍ على العرب؛ لأنّ الاتحاديين الذين انقلبوا على السلطان عبد الحميد يرون أنّه كان يُقرّب العرب، وكانوا حرّاسه الشخصيين.

على الرغم من أنّ شعار الاتحاديين، كان شعار الثورة الفرنسية في الحرية والعدالة والمساواة، وعلى الرغم من أنّهم أطلقوا سلطة الدستور، ممّا سمح للعرب تكيل جمعياتهم ونشر ثقافتهم ولغتهم ومشاعرهم القومية ، إلا أنّهم انقضّوا بعد أسابيع على الدستور ذاته وعلى العرب، وأسّسوا جمعية (حزب الاتحاد والترقي)، التي يُشكّل الماسونيون وغير المتدينين فيها نسبة 30% . وحاولوا خلالها، مؤيدة من الأجهزة الأمنية تتريك الدولة العثمانية، وفرض اللغة التركية على الجميع، ولأجل التتريك تم تأسيس الاتحاد الطوراني، الذي اتبع خطوات عدة فاعلة: كترجمة القرآن إلى التركية، وعلمنة التعليم والقضاء وفرض اللغة التركية فيهما، وإحياء التاريخ التركي السابق للإسلام، وإعادة الأسماء التركية القديمة.
لقد دفع التطرّف التركي العرب للردّ باتباع إجراءاتٍ تُغلّب الهُوية العربية والانتماء للعروبة كالاهتمام بالتراث العربي والإسلامي، والقرآن الكريم، واللغة العربية، والاهتمام بالقومية العربية والانتماء العربي والهُوية العربية.

تلاقي الصراع بين الانقلابيين الاتحاديين (أنور وطلعت وجمال)، وبين السلطان عبد الحميد المخلوع على الأراضي السورية؛ لوجود مناصرين لعودة السلطان، وقد سموا بالارتجاعيين، أي الذين يريدون عودته إلى الحكم وأسسوا حزبًا باسم الحزب المحمدي، وقد دُعم هذا الحزب بالمال الكثير ووصل عدد الذين انتسبوا إليه لـــ 70 ألفًا، وكان له تأثير عظيم . يبدو أنّ السلطان عبد الحميد كان يريد إشغال الاتحاديين بإيجاد اضطراباتٍ داخليةٍ ليندفع الغرب بالتخل ممّا يساعده بإقامة ثورةٍ تعيده للحكم.
لم تكن أركان الحكم الاتحادي متجانسة، حيث يحدّد تقرير للمخابرات الفرنسية في الفترة ذاتها (1909-1910 م) بأنّهم يحكمون السلطنة بدكتاتوريةٍ مطلقةٍ وأنّهم مغامرون، والسلطان لا يعمل شيئًا، وكلّهم شركاء في جرائم كثيرة، ويقتسمون الأدوار، فطلعت صديق للروس، وجمال صديق للفرنسيين، وأنور صديق الألمان، وجاويد يهودي أصبح مسلمًا.

مع بداية تفكك أطراف الدولة العثمانية في أوروبا بدأت هيبتها بالتراجع؛ فانتشر قطّاع الطرق في مختلف أقاليمها، فتراجع الأمن الغذائي، ونُهبت مخازن ومستودعات الأغذية، حتى العسكرية منها، وزادت غزوات البدو على الأرياف والمدن. ولعلّ من الأحداث التي غيرت حالة الاستقرار في سورية، حدوث ثورات عدة في عام 1910م، واحدة في الكرك والأخرى في حوران، وقد تم قمعهما بشدة، وأسباب هاتين الثورتين اجتماعية بالدرجة الأولى، وإدارية (سياسية) بالدرجة الثانية لزيادة الضرائب (ضريبة الالتزام) ، وإجراء إحصاء في المنطقة، وهذا يعني أنّ أولادهم ستأخذهم الدولة للحرب، وقطع العطاء عن مشايخ الكرك، وعدم الالتزام بنتائج الانتخابات المحلية. أمّا الثالثة فكانت في جبل العرب للأسباب السابقة مع وجود أسبابٍ أخرى، عدم حيادية الدولة في خلاف نشب بين آل أطرش وآل المقداد في حوران، ولجوء كثيرٍ من أحرار المجتمع السوري إلى الجبل واحتمائهم فيه، ويقول سلطان باشا في مذكراته: « أصبح الجبل منذ مطلع القرن العشرين حمى الأحرار العرب من كلّ حدب وصوب» ، وقد تدخّل الإنكليز لصالح ثورة الجبل ودعموها بقدوم القنصل الإنكليزي في دمشق إلى الجبل. وانتهت بإعدام والد سلطان باشا وحمة آخرين. ويقول سلطان باشا في مذكراته إنّ التهم التي وجهت لهم هي الخروج على الخلافة، والكفر بالإسلام.

لقد عملت سياسة التتريك والتعصب القومي الطوراني في تطوّر الأحداث في سورية نحو التمرد والثورة على الدولة العثمانية، ولكن تقرّب السلطة الاتحادية من اليهود والصهيونية، والسير بالمشروع الصهيوني، سواء كانوا يعلمون ذلك حقيقة هذا المشروع أم لا، على حساب المصالح الأمريكية، زاد من شدة الموقف العربي ضد الأتراك، وقد تأكّد للعرب عدم مراعاة المصالح والحقوق العربية عندما لم يُعيّن أيّ عربي ممثّلًا لمدينة دمشق في اللجنة المركزية للاتحاد والترقي، وأنهّم كلهم أتراك. وحدّدت مجلة المنار جملة من الإجراءات الواجب تطبيقها لتلافي الخلاف بين العرب والأتراك وتهدئة المتغيرات التي تدفع بالأحداث نحو الانفجار: كالمساواة بينهما، وقطع عروق العصبية، والعناية بتعليم اللغة العربية، والاهتمام بنشر المعارف والعلوم، والعمل على تنفيذ القانون .

اتّهام النوّاب العرب في مجلس المبعوثين بأنّهم يعملون لصالح السلطان المخلوع، وبالتالي فهم عملاء وجواسيس، فكان ردّ النوّاب العرب شديدًا، بل إنّ النائب شفيق المؤيد العظم شتم طلعت بيك وصفعه.
قام العرب بتأسيس الحزب الحر، وهو حزب عثماني تركي عربي، شعاره أنّ الجيش لحماية الدولة في الخارج وحماية النظام، وأنّ يكون الحكم فدراليًا، والإدارة في الولايات مستقلة. وانسحب الكثير من العرب من حزب الاتحاد والترقي، ودخلوا في الحزب الحر المعتدل؛ نتيجة للتعصب الطوراني في حزب الاتحاد، ولمساعدة وزير المالية العثماني (جاويد)، ببيع اليهود ثلاثة ملايين دونم في فلسطين.

لقد كان لإنشاء جمعية ترك أوجاعي، والتي تعني الموقد التركي أو الوطن التركي، دورٌ كبيرٌ في دفع العرب للردّ على التعصّب التركي الجديد، فالبنية الفكرية لهذه الجمعية قامت على أساس الانتماء للعرق والأصل وليس للأفراد؛ ولذلك فعثمان الذي تنتمي إليه السلطنة العثمانية ليس إلّا تركي جاء من التاي (جبال في وسط آسيا). وتبع ذلك نشر كتاب (قوم جديد)، الذي فسّر القرآن بما يتوافق والحاجات الطورانية، ودعا لإغلاق المساجد والزوايا الدينية وإلغاء خطبة الجمعة وترجمة القرآن وتتريك أسماء الخلفاء الأتراك، ووضعهم مكان الخلفاء العرب، وأنّ أسماء الخلفاء الأتراك قد قدّستهم الأحاديث النبوية .

زيادة التدخل الأجنبي في بنية المجتمع السوري وفي النسيج الاجتماعي ذاته؛ فقد أصبحت فرنسا حاميةً للموارنة والكاثوليك، بينما كانت روسيا حاميةً للأرسوذكس، أمّا البروتستانت والدروز فقد أصبحوا تحت الحماية البريطانية، وبقيت سنّة سورية تحت رعاية الدولة العثمانية. وقد كان للبروتستانت حق التنصير والتبشير بين العشائر العلوية . ولعلّ في تمحور السياسة البريطانية والفرنسية في سورية حول السياسة الطائفية الداخلية وإحراج الدولة العثمانية في السياسة الخارجية، الدور المهم في دفع الأحداث، قبيل الحرب العالمية الأولى، نحو التفّجر. وكانت بريطانيا تريد بكلّ وضوح استقلال سورية، وفصلها عن الدولة العثمانية، والعمل لإنزال قواتٍ عسكريةٍ في مينائي اسكندرون في الشمال وحيفا في الجنوب. أمّا من الجانب الفرنسي فقد رفعت تقارير إلى الخارجية في ت2 من عام 1912م، ترى بأنّ القضية السورية تنقسم إلى قسمين الأول: متعلق بلبنان والثاني: متعلق بسورية. ويُنظر لسورية وفق ثلاث حالات، وهي إمّا في الاستقلال التام، وإمّا الاستقلال الذاتي بالحماية من قوة أجنبية، وإمّا ربطها بمصر.
وفي حقيقة الأمر كانت فرنسا تريد أنْ تكون سورية تحت حمايتها وفقًا لما أعلنته جمعية الدراسات الاستعمارية والبحرية الفرنسية بأنّه يجب أنْ تكون سورية، في حالة انسلاخها عن الإمبراطورية العثمانية، تحت سلطة فرنسا، وأنّه يجب ألّا يُسمح لأية منطقةٍ أخرى غيرها بأنْ تتمتع بهذا الحق. وكتب سفير فرنسا في إستانبول بأنّ السوريين يريدون الاستقلال الكامل لسورية وجعل الخليفة عربيًا، وهذا لا يتوافق مع ما تقوله بريطانيا بأنّهم يريدون الانضمام إلى مصر، وأنّه من أصل 3.5 مليون سوري لا يؤيد الانضمام لمصر إلا 35 ألفًا، وهم من البروتستانت وطلّاب الجامعة الأمريكية في بيروت وحلب.
خلال عامي 1910-1911م، حصلت مجموعةٌ من الأحداث أدّت إلى تفاقم العلاقة بين العرب والأتراك، مثل تدهور العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، بسبب احتلال إيطاليا لليبيا، وضربها للسواحل السورية، وزيادة التعصب القومي التركي، وازدياد تيار الهجرة إلى الأمريكيتين بسبب الظلم والفقر وانخفاض أجور السفر، بالمقابل ازدياد هجرة اليهود إلى فلسطين، وإعادة العمل بالخط الحديدي الحجازي، ومد خط حديد بيروت – دمشق، وتعبيد الطريق بينهما، وهذا سهّل حركة الناس والسلع والمنتجات، فأسهم بتطوّر المفاهيم القومية، كما كان لبدء العمل بالنقل النهري في الفرات بين سورية والعراق الدور ذاته، ولا يقلّ عن ذلك أهمية افتتاح المدارس الحكومية والأهلية، وتحسين وضع الولايات وإدارتها بتشكيل مجالس أهلية تساعد الولاة في حسن الإدارة .

مع بداية عام 1914م، حصلت تغيراتٌ مهمةٌ أسهمت في زيادة تسارع المتغيّرات في سورية، ولعلّ أهمّها هو هزيمة الاتحاديين، واستلام الائتلافيين والمعتدلين؛ ممّا سهّل العمل على اللامركزية في الحكم، فتشكل حزب اللامركزية ليؤصل لتلك الأفكار والأعمال المساندة لها، وتشكّلت جمعية العلم الأخضر، التي أصدرت جريدة لسان العرب، التي أصبحت فيما بعد لسان حال المنتدى العربي وبقيت حتى الحرب العالمية الأولى. وكان لهزيمة تركيا في حرب البلقان وخسارة مناطق مهمة منها نتائج مهمة فقد حوصرت أدرنة، وهُدّدت العاصمة وتمت عودة الاتحاديين إلى السلطة. لقد تمخضت تلك الأحداث إلى ظهور ثلاثة اتجاهات سياسية أمام العرب أثرت فيما بعد على مستقبلهم السياسي وهي:

اتجاه يرى بأنّ خلاص سورية يكون بالغرب وبمساعدتهم المباشرة.
اتجاه ثانٍ يرى بأنّ الغرب يريد استعمار سورية وتقسيمها، وبالتالي لا بدّ من التعاون مع الأتراك لحمايتها من جشع الغربيين.
اتجاه ثالث يرى بأنّه يجب على العرب الاعتماد على أنفسهم وتحرير أرضهم.

وبناءً على ذلك عملت الاتجاهات الثلاثة بجوار بعضها، متوافقةً أو متعارضة، ففي الاتجاه الثاني تشكّلت في بيروت الجمعية الإصلاحية البيروتية بموافقة الوالي أدهم بك، وطرحت خطة واسعة على أساس اللامركزية في الإدارة بحيث تكون الأمور الخارجية بيد العاصمة استانبول وكذلك الأمور التشريعية والعسكرية، أمّا باقي الأمور الحياتية فتخصّ سلطة الولاية ومجلسها الأهلي، وهذا الاتجاه كان الأكثر رواجًا وقبولًا في تلك الفترة، حيث كان الإصلاح واللامركزية العنوانين الأساسيين المرفوعين، لتكون الدولة عثمانية، لا عربية ولا تركية ، وقد اتضح ذلك في مؤتمر باريس المنعقد في حزيران من عام 1913م، الذي شاركت فيه معظم المؤسسات السورية. وقد خرج ببيان يتضمن الدعوة إلى العثمانية واللامركزية، ولكلّ ولايةٍ إدارة شؤونها، وهذا يعني أنّ العرب لا يريدون الانفصال، وإنّما إصلاح الدولة العثمانية، والنهوض بها، وعدم حرمان فريق من حق من الحقوق، لا بداعي الجنس ولا بداعي الدين . بالوقت ذاته دعا المؤتمر لتكون اللغة العربية معتمدة ًفي مجلس المبعوثين، وأنْ تكون الخدمة العسكرية محليةً في أوقات السلم. في هذا المؤتمر حدّد العرب هدفين واضحين:

الوقوف ضد الأطماع الأوروبية.
الوقوف ضد القوة العثمانية الاتحادية (أي الأتراك المتعصبين).
لكن إستانبول وقفت ضد هذا المؤتمر، على الرغم من أنّه أعلن وقوفه ضد الأطماع الأوروبية المسيحية. ولكن لم يشفع له ذلك بل حرّضت عليه كلّ من استطاعت تحريكه من شخصيات ومؤسسات ورأي عام، على أنّ المشاركين به عملاء ويحملون الجنسية الفرنسية، وأنّهم لا يمثّلون إلّا أنفسهم، وحذّرت فرنسا بانعقاد مؤتمرات مشابهة. لكن بالوقت ذاته قامت بالاتصال معهم وفاوضتهم، ولكنّها قطعت الطريق عليهم بإعطاء فرنسا امتيازات اقتصادية واجتماعية في سورية، وبذلك تراجعت فرنسا عن نصرتهم بعد أنْ وعدتهم بالنصرة. فكانت فرنسا هي المستفيدة من هذا المؤتمر، ولكن ظهر في المؤتمر رأي تبناه المسيحيون بأنّهم لا يريدون استقلال سورية، وإنّما فصلها عن تركيا، ووضعها تحت حماية فرنسا .

بدأت في عام 1913م العلاقة تتحسن بين العرب والأتراك بجهود بعض الشخصيات العربية المتمكنة مثل عبد الكريم الخليل، رئيس المنتدى العربي، فتمت الموافقة على التعليم الابتدائي والإعدادي باللغة العربية في جميع البلاد العربية، وأنْ يخدم العسكريون العرب في وقت السلم داخل بلدانهم، وأن يُعيّن خمسة ولاة وعشرة متصرفين من العرب، واثنين في مجلس الأعيان من العرب عن كلّ ولاية عربية. ولكن ظهر خلافٌ بين العرب أنفسهم بين السوريين والعراقيين البصراويين، حُسم هذا الخلاف بعثمانية الدولة على أساس عربي تركي. أمّا الخلاف الثاني فقد كان شديدًا وهو الجار لبناني يريد الانفصال عن سورية، ويريد بالوقت ذاته التوسّع وإقامة دولة لبنانية بحمايةٍ فرنسيةٍ، وباتجاه لا عروبي أيضًا، بالاعتماد على بعض مؤسسي جمعية النهضة اللبنانية في بيروت، وتشكيل حكومةٍ لبنانيةٍ مستقلّةٍ لتكبير لبنان، وضمّ مناطق مجاورة له .
قبيل الحرب العالمية الأولى تدهورت العلاقة بين العرب والترك نتيجة لاتخاذ الاتحاديين بعض الإجراءات المؤثّرة في البلاد العربية، ومن بينها سورية:

إسقاط النوّاب العرب العروبيين في مجلس المبعوثين، وتزوير الانتخابات، والإتيان بأتباعهم.
انتقال عزيز علي المصري، الضابط العربي المميز، مؤسس جمعية العهد للضباط العرب، بتهم الرشوة وسرقة أموال الجيش والسعي لإقامة دولة عربية في ليبيا وشمال أفريقيا خارج سلطة السلطنة العثمانية.
العودة إلى التعصّب القومي التركي الطوراني، وإنشاء جمعية ترك أوجاني، أو الوطن التركي.

رابعًا: المتغيرات الجيوبولتيكية في الجغرافية السورية ونشوء الدول فيها
كان لاشتعال الحرب العالمية الأولى في 28/7/1914م، وتعيين جمال باشا، الذي لُقب بالسفاح، حاكمًا على سورية في 5/12/1914م، الدور الكبير في مجمل المتغيرات الجيوبولتيكية في سورية خصوصًا وفي البلاد العربية عمومًا، فالحرب غيّرت من الاصطفافات الدولية، فتمايزت مواقف الدول وتحدّدت سياساتها بما يخدم الأهداف الكبيرة لتلك الدول في الصراع حتى الموت للهيمنة والسيطرة على موارد الدول الفقيرة والمستعمرة فانقسمت الدول إلى فريقين : فريق يُدعى بدول الوفاق أو الحلفاء، وكانت تمثّله بريطانيا وفرنسا وروسيا وصربيا أولًا، ثم انضمت إيطاليا واليونان والبرتغال ورومانيا والولايات المتحدة . وفريق آخر يُدعى بدول المحور أو المركز ويتكون من ألمانيا والنمسا – المجر وبلغاريا وتركيا. والذي يهمنا هنا نقطتان فاعلتان أساسيتان في مستقبل سورية، وهما على صعيد الدول: فرنسا وبريطانيا من جهة، وألمانيا وتركيا من جهة ثانية، في حين يهمنا تصارع هذه الدول على سورية، وعلى مستقبلها سواء كان ضمن تحالفهما في الصراع أم في صراعهما ضد بعضهما على الأرض السورية، وعلى المجتمع السوري ومستقبله الجيوسياسي. فكلّ فريق منهما كان مختلفًا في الواقع عن الآخر، ومصالح كلٍّ منها تختلف ضمن الفريق الواحد عن الآخر، فالكلّ ضد الكلّ مجتمعين ومتفرقين، والكلّ مع الكلّ متفقين على تجزئة سورية ونهبها والسيطرة عليها؛ لذلك أقيمت التحالفات والمعاهدات لتحقيق هذا الهدف الاستعماري الإمبريالي الصهيوني.

جاءت نقمة الاتحاديين على العرب ممثّلةً بتعيين جمال باشا حاكمًا على سورية مع احتفاظه بمهمة وزير البحرية في الدولة العثمانية؛ ففي شخصية هذا الرجل تجسّدت العنصرية والوحشية والإجرام، وكان رئيس جمعية أو نادي ترك أوجاني للشباب والشابات الأتراك، وعندما عُين حاكمًا على سورية كان يرى بأنه مثل الإسكندر الأكبر جاء فاتحًا للبلاد العربية. وقد وصفه سفير الولايات المتحدة في إستانبول هنري مورتنغو بأنّه: «كان يعرف بأنّ الإعدام من واجباته اليومية، وهو يجمع القوة والشراسة .... ضحكته ممزوجة بشيءٍ من الوحشية ... وهو يكره كلّ الشعوب كالعرب»، ويقول شكيب أرسلان عنه، وكان صديقًا له: «كان جبارًا قد بطش بالخلق، ورجفت منه القلوب، وتعّود ألا يقف في وجهه أحد، وكان مؤيَّدًا من الحزب التركي الطوراني»، ويقول يوسف الحكيم عنه: «حين جاء سورية كان شرّ خلفٍ لخير سلف، وظهرت على يده نقمة السلطة التركية على العنصر العربي».

من المفيد هنا القول بأنّ التحضيرات التركية لغزو قناة السويس إباّن الحرب العالمية الأولى لم تكن كافية، كما أكّد على ذلك حاكم سورية زكي باشا، بأنّه لا يمكن تحقيق نصر في غزو قناة السويس قبل مدّ سكة حديد إليها، وتأمين مستلزمات الحملة؛ لذلك تدخّل الألمان لعزله فورًا؛ لأنّ ألمانيا كانت تريد فتح جبهةٍ حربيةٍ في قناة السويس لتخفيف الضغط على قواتها المحاربة في أوروبا. لقد تنكّر جمال باشا لما قاله عندما وصل دمشق مرحبًا به وشاكرًا السوريين ومن حبه للعرب ودعوته للتآلف بينهم وبين الأتراك. لقد وجد جمال باشا حجةً في بعض المستجدات التي توصل إليها، كوقوف البطرك إلياس الحويك ضد الدولة العثمانية ومخابرة الفرنسيين، ووصول أنباء عن اتصال الأب شارل عبلا مع القنصل اليوناني ليُخبر الفرنسيين والإنكليز بأنّهم إذا جاؤوا بأساطيلهم لضرب السواحل السورية فسينضم إليهم بخمسة آلاف ماروني من زحلة ضد الأتراك. لم يكن جمال باشا بحاجة لحجج لينقلب على العرب فهو حاقد عليهم، وأنّه طوراني متعصّب ومتوحش. كان استعداد جمال باشا للقيام بحملةٍ على قناة السويس له تأثيره الكبير، وكان يعوّل على ثلاث نقاطٍ أساسيةٍ في هذه الحملة:

الأولى: أنْ يقاتل العرب بقوة ضدّ الإنكليز والفرنسيين تحت العنوان الطائفي.
الثانية: أنّ المصريين سيقومون بثورةٍ ضد الإنكليز عندما يعلموا بوصول الحملة إلى القناة.
الثالثة: ستقوم القوة الليبية التي تم تجهيزها للهجوم من الغرب على الإنكليز.

ولكن حسابات جمال باشا باءت بالفشل، فالعرب كانوا منهكين من الظلم والفقر والتمييز العنصري، وكانوا يعرفون أنّ هذه الحرب ليست حربهم، بل حرب الدول العظمى على أراضيهم ولمصلحتهم، هذا أولًا، أمّا ثانيًا فلم يتمرد المصريون ولم يقوموا بثورةٍ ضدّ الإنكليز تأييدًا لجمال باشا، وثالثًا لم تحقق القوة الليبية شيئًا يذكر. ورابعًا ولهذا دورٌ كبيرٌ وهو أنّ الإنكليز والفرنسيين كانوا يعلمون تفاصيل الحملة وحركتها وتجهيزاتها وكلّ المتناقضات الموجودة فيها، وقد تحضّروا لها في الإسماعيلية، فأسروا كلّ الذين عبروا القناة (400مقاتل)، ولم تستمر الحرب لأكثر من يوم واحد، حيث تراجع جمال باشا إلى بئر السبع في جنوب فلسطين، وفشلت الحملة.

لقد كشفت الحملة حقيقة جمال باشا بعد عودته منها، حيث صب نار غضبه وجنونه وتوحشه على الضباط العرب، عوضًا عن دراسة أسباب الفشل، فنكّل بهم وفصل أغلبهم، وجاء بالأتراك مكانهم، ثم انتقل إلى المثقفين العرب فحبسهم وعذّبهم، واتخذ قرارًا بقتلهم جميعًا، وهذا العمل يتوافق مع المشروع الموكل له عندما جاء إلى سورية في القضاء على العروبة، وتتريك العرب ثم إلغاء الامتيازات الخاصة بلبنان لعام 1860م، وإخضاعه للسلطة العثمانية . ويؤكد شكيب أرسلان في مذكراته: «بأنّ جمال باشا تعهد للاتحاديين بأنّه سيقضي على الروح العربية في سورية».

وقام بإيجاد مدارس حكومية بدلًا من الإرساليات الأجنبية في لبنان، وبها بدأ العمل على تتريك العرب، وإبعاد العناصر المتفرجنة من أبناء لبنان الخطرين على سياسته في المناطق الساحلية والداخلية . واتخذ قرارًا بعدّ الإنكليز في دمشق أسرى، إذا قامت بقتل العثمانيين في اسكندرون. وفي مسألة لبنان كان لجمال باشا رأي غريب وهو: «الشدة خير علاج لتسكين أوجاع اللبنانيين؛ فهم قوة لا تهمهم إلّا القوة، فإذا عرفت كيف تتفوق عليهم عرفت أن تُخضعهم» . لقد توصل جمال باشا إلى قراره بإعدام المفكّرين العرب بناءً على مجموعةٍ من المعطيات بالإضافة لتوحشّه وحقده على العرب وهي:

فشله في حرب السويس، وتحميل العرب مسألة هذا الفشل.
ما تركه جورج بيكو، القنصل الفرنسي في بيروت، من ملفات عن اتصالاته مع بعض المفكّرين العرب، لدى القنصل الأمريكي، ثم ترجمة تلك الملفات من قبل ترجمان القنصلية الفرنسية أمام جمال باشا ذاته. وكانت أسماء الدفعة الثانية، التي أعدمها، قد وردت في تلك الملفات.
توصّل جمال باشا إلى حقيقة أنّ العرب سيثورون ضد تركيا في حال قامت قوات إنكليزية وفرنسية بالنزول على السواحل السورية.

وصول أوامر سرية من إستانبول لقيادة الجيش الرابع في سورية بالعمل على القضاء على التيار العربي، وتمزيق شمله بعد أنْ بدأ الضباط العرب بالهروب من الجيش العثماني.
قام جمال باشا بإعدام المجموعة الأولى من المفكّرين العرب في 2/8/1915م، وكان عددهم 13 مفكرًا في بيروت، وهم من مناطق مختلفة من بلاد الشام، من دمشق وبيروت وبعلبك وحماه وجنين. وفي 6أيار من عام 1916م، قام جمال السفّاح بإعدام الدفعة الثانية من أعلام الحركة القومية العربية، 7 في دمشق، و14 في بيروت. وكان منهم عبد الحميد الزهراوي، الذي لا يجوز إعدامه إلّا بأمرٍ من السلطان كونه عضوًا في مجلس الأعيان. وقد تقرر نفي 300 عائلة إلى الأناضول.

يقول جمال باشا السفاّح في مذكراته: «إنّ مبادرته إلى تنفيذ أحكام الإعدام، كان لها تأثير كبير في المحافظة على سلطة الحكومة وسطوتها ونفوذها في بلاد سمتها الدعاية الفرنسية والإنكليزية سنوات عدة». هل كان هذا صحيحًا أم لا؟ يوجد رأيان متقابلان ومتعارضان بالوقت ذاته: رأي يرى أنّ جزءًا من الذين أُعدموا كانوا على تواصل مع القنصلية الفرنسية في بيروت، وأنّ منهم من كان يريد الانفصال عن الدولة العثمانية، ثم وضع دولتهم تحت الحماية الفرنسية، وأنّ في هذا خدمة للمصالح الفرنسية، ويؤكد هذا إصدار بوانكارية رئيس جمهورية فرنسا مرسومًا في 7/3/1919م، يمنح فيه وسام جوقة الشرف لكلّ السوريين الآتية أسماؤهم، الذين أُعدموا من أجل عدائهم للسلطات التركية، ليبقوا مخلصين ومتعلقين بفرنسا الحامية التقليدية لبلادهم، لمرتبة ضابط عظيم (أحد عشر رجلًا) منهم الزهراوي ، ولمرتبة فارس بقية الأسماء. بالمقابل يرى آخرون بأنّ هؤلاء خدموا شعبهم وأمتهم وسعوا من الاستبداد والظلم والقهر والعنصرية التركية، وأنّهم دفعوا بحياتهم ثمنًا لهذا المشروع، وأنّهم لاقوا أشد ألوان العذاب والتنكيل، ولكن تلاقت مصالح الدول الاستعمارية مع مصالح وأهداف القومية العربية بالتخلص من الدولة العثمانية والسلطة الاتحادية المتجبرة المتعصبة، وبالتالي ليس الأمر بخيانة لأحد، ولا العمل من أجل مصلحة الآخر، بل هي المصالح المشتركة والأهداف المشتركة.

إذا كان الأمر كذلك فكيف إذا علمنا أنّ جمال باشا كان على تواصلٍ مع الفرنسيين والإنكليز والروس، وحتى مع الألمان للعمل على فصل البلاد العربية من الدولة العثمانية ليكون سلطانًا عليها ويؤسس أسرةً مالكةً فيها، ويُصبح حليفًا لهذه الدول ضد دولته، في الوقت الذي كان يقوم بإعدام هؤلاء الرجال .

ومن خلال تواصل جمال باشا مع الحلفاء عن طريق الروس ومصر وضع شروطًا ومطالب خاصة نُقلت إلى الحلفاء ليقوم بالدور اللازم ضد تركيا وألمانيا، وأهمها:
أن يغترف الحلفاء باستقلال الأجزاء الآسيوية من تركيا، وهي سورية، وفلسطين، والعراق، والجزيرة، وكليكيا، وكردستان، وأنْ يكون سلطانًا عليها.

أنْ تؤسس له عائلة حكم، ويكون وراثيًا من بعده.
أنْ يدخل في حربٍ مع تركيا وألمانيا بعد إسقاط حكومة إستانبول.
أنْ يقوم الحلفاء بمده بالسلاح وبالقوى اللازمة، وتقديم المعونات المالية بعد الحرب.
أنْ يتخلّى جمال عن المضائق البحرية وعن العاصمة إستانبول.
ضمان سلامة الأرمن وإمدادهم بالمؤن خلال الحرب .

القضية المهمة هنا أنّ الاتحاديين (أنور وطلعت) كانوا يعلمون بتلك الاتصالات ومدى ميله إلى فرنسا، وكانت ألمانيا تراقب كلّ تحركاته، وقد تم تشكيل جيشٍ سريّ مدرّبٍ بإشراف ألمانيا ليحلّ محلّ الجيش الرابع الذي يقوده جمال باشا. ويبدو أنّ بعض أصدقاء جمال باشا كشكيب أرسلان كانوا يعلمون بهذه الاتصالات فيقول: «يُقال أنّ جمالًا راسل فرنسا على أنْ ينفصل عن الدولة، ويصطلح مع الحلفاء، ويجعلوه أميرًا مستقلًا في الشام وفلسطين، وأنّ الفرنسيين مالوا إلى هذه الفكرة لولا معارضة الإنكليز لها والله أعلم». لم يكتفِ جمال باشا بالاتصال مع الحلفاء بل كان له اتصالاتٌ أخرى مع الصهاينة عن طريق الجاسوسة ناتاليا داودوفيتش بواسطة مندوبه فؤاد بك سليم، الذي عُرض عليه المشروع الصهيوني بإنشاء وطنٍ قوميّ لليهود في فلسطين، وأنْ يبدأ المشروع بقرى يهوديةْ يُطلق عليها الوطن القومي لليهود، لكن مع إخضاع اليهود القادمين للقوانين المحلية، وألّا تعرقل الدولة التركية الهجرة اليهودية، وأنْ تكون المستعمرات اليهودية مستقلةً إداريًا وفي الموازنة، مقابل أنْ تقدم الجمعية الصهيونية قرضًا للدولة العثمانية وتساعدها في مشاريعها السياسية.

اللفات للانتباه أنّ الحكومة الاتحادية قد رفضت المشروع؛ لأنّ أنور باشا رفضه بقوة. مع ذلك بقي جمال باشا صديقًا للصهاينة مدافعًا عن اليهود، وقد عارض الحكومة الاتحادية في قرارها إبعاد اليهود عن السواحل الفلسطينية . إذن اجتمعت في شخصية جمال باشا كلّ صفات التوحش والجبروت بالإضافة للخيانة، التي قتل أعلام الفكر العربي بسببها، وحبّه للصهيونية وسعيه لتدمير الدولة العثمانية وفشله في الحروب التي قادها، وقد دفع بسورية وسكانها إلى حالة اليأس، فتعطّلت الصناعة والتجارة والبنوك، واختفى الذهب والنقود والأقمشة والكاز والسكر والأدوية والثقاب، فساد الفساد والاحتكار والفقر والجوح، وكثر الربا، وساد وباء التيفوس والكوليرا؛ فقُتل الآلاف في حلب وبيروت، وأخذ التيفوس ربع سكان بيروت وجنوب فلسطين، إضافة للحمى والكوليرا .

وخلال عامي 14-1915م سادت في سورية ظروفٌ طبيعيةٌ وبشريةٌ سيئةٌ جدًا بتطور الأحداث نحو الثورة والتمرد مثل: انتشار أسراب الجراد فقضت على معظم المحاصيل الزراعية، وتفشي الأمراض والأوبئة الخطيرة، والبرد الشديد وتراكم الثلوج في الشتاء، والحر الشديد في الصيف، والفقر المُدقع وغنى فاحش. كانت النتيجة أنْ انقسمت دمشق إلى نصفين: نصف كمقبرة، ونصف كمستشفى.
أمام حالةٍ مترديةٍ كهذه وضع الضابط العربي الكبير عزيز علي المصري خطةً لقيام دولةٍ عربيةٍ مستقلةٍ عن تركيا وعن أية قوةٍ أخرى، وقد حدّدها بشبه الجزيرة العربية وسورية والعراق حتى حدود تركيا، وأنّ على بريطانيا أنْ تقدّم المساعدة المالية والعسكرية لها .

1. المقدمات التي سبقت اتفاقية سايكس – بيكو:
وجدت بريطانيا أنّ قادة العرب، كعزيز علي المصري والشريف حسين علي وأعلام الفكر العربي في جمعية العربية الفتاة، يدعون إلى إقامة دولةٍ عربيةٍ مستقلةٍ جغرافيًا وسياسيًا عن تركيا، تتضمن المناطق التي حدّدها عزيز علي المصري؛ لذلك فضّلت أنْ تتفاوض مع الشريف حسين في مكّة والمدينة لعدة أسباب أهمها:

سهولة التفاوض معه؛ لأنّه أكثرهم مرونةً.
قبول العرب به لسمعته، ولأنّ الحركة القومية العربية كانت تتواصل معه.
كانت بريطانيا في تلك الفترة ترى بسورية جزءًا من البلاد العربية.
وأنْ التفاوض معه يخفف الضغط عنها في الهند ومصر.

وبالتالي يساعدها هذا التفاوض في تنفيذ مشروعها؛ كونها لم تدعم الأقليات، كما فعلت فرنسا، وأعلنت بأنّها تحترم المقدسات الإسلامية كي تبقى جاهزةً لاستقبال المسلمين في الهند في موسم الحج، كذلك لم تُظهر نواياها باستعمار البلاد العربية كما فعلت فرنسا وإيطاليا، بل إنّها تريد مساعدة الغرب لتأسيس دولة مستقلة. وقد أكد لويد جورج رئيس الوزراء البريطاني، 1863-1945م، هذا الاحتيال والدهاء الإنكليزي بقوله: «لقد تطلبت سياسة بريطانيا دهاءً كبيرًا وتلونًا وتفسيراتٍ وتبريراتٍ ونقضًا وتناقضًا، حتى تصل إلى هدفها الحقيقي في الاستيلاء على البلاد العربية أو بعضها ولتنال حصتها من بقايا الدولة العثمانية التي حان عقابها لدخولها الحرب إلى جانب ألمانيا».

مراسلات حسين – مكماهون: تراسل الشريف حسين مع مكماهون، المفوض السامي البريطاني بعشر رسائل خلال ثمانية أشهر من 15/6/1915م إلى 2/3/1916م. لقد حدّد حسين في الرسالة الأولى حدود الدولة العربية المستقبلية والممتدة من أضنة وأقدام جبال طوروس شمالًا إلى المحيط الهندي جنوبًا (عدا عدن)، ومن البحر المتوسط والبحر الأحمر غربًا إلى الخليج العربي شرقًا، وهي الخريطة التي أرسلتها له الحركة القومية العربية في سورية، وقد تبنتها بريطانيا مبدئيًا، ولكنها احتجت بأنّ تركيا لا تزال تحتلها وأنّ بعض المناطق في غرب سورية لا يمكن أنْ يُقال عنها أنّها عربيةٌ محضةٌ، ويجب أنْ تستثنى من الحدود التي ذكرتموها (انظر الخريطة المقدمة من الشريف حسين)، ونحن على استعداد للموافقة على تلك الحدود على أساس هذه التعديلات على ألّا تنقص شيئًا من اتفاقاتنا مع الزعماء العرب. وتابع مكماهون في جوابه للحسين، فإنّ إنكلترا مستعدةٌ على أساس تلك التعديلات (أي إخراج المناطق الغربية من سورية) أنْ تعترف باستقلال العرب وتقديم المساعدة لهم في الحدود التي اقترحها الشريف حسين، وهي الأراضي التي تستطيع إنكلترا العمل فيها بملء الحرية ودون أنْ تُقع ضررًا بخليفتها فرنسا، فإنّ لي السلطة التامة باسم صاحب الجلالة أنْ أعطيكم التأمينات جوابًا على كتابكم. لقد استطاع الإنكليز أنْ يُخرجوا اليمن والخليج العربي ونجد وعسير، وبموافقة الشريف حسين، من الدولة العربية المقترحة. ولم يبقَ للحسين إلّا الحجاز ليحكمه.

أما فرنسا فقد اعتمدت في سياستها مع السوريين على النقاط الآتية: السياسة الطائفية المؤيّدة للأقليات، إهمال وتجاهل الأكثرية (السنيّة) المسلمة، والعمل على المنافع الاقتصادية.

2. اتفاقية سايكس – بيكو واقتسام الجغرافية السورية والعراقية:
انتقل التنافس الإنكليزي الفرنسي إلى مرحلةٍ جديدةٍ بالاتفاق على اقتسام الأراضي العربية ووضع استراتيجيةٍ سياسيةٍ تضمن للدولتين تمزيق البلاد العربية، وإقامة كيانات سياسية ذات مرجعيةٍ استعماريةٍ وإقامة دولةٍ يهودية، تكون وطنًا قوميًّا لليهود، تتوافق مع المصالح المستقبلية الاستعمارية وتُبقي المنطقة مجزأةً من جهة ومتصارعةً وغير مستقرةٍ من جهة ثانية.
عيّن الفرنسيون جورج بيكو مفاوضًا للإنكليز على حدود الدولة العربية المقبلة في سورية وامتداداتها الطبيعية إلى مصر وإلى إيران وديار بكر وأضنة، بتدخّل مباشر من الرئيس الفرنسي بوانكاريه، لتكون تحت حماية فرنسا المباشرة فقام بمفاوضة وزير الخارجية الإنكليزي آرثر نيكلسون، فطلب آرثر من بيكو إعلان استقلال البلاد العربية كما أعلنت بريطانيا، لكن بيكو رفض وطالب بحدود سورية كما حددها رئيس الفرنسي بريان، ولكن بيكو وافق على وضع دمشق وحمص وحماه وحلب داخل الدولة العربية التي ستقام حيث يتولى العرب إدارتها تحت نفوذ فرنسا، وأن حكومته قبلت بهذا التنازل والتضحية (أنظر الخريطة المرافقة). وطلب بريان تقسيم فلسطين بين الدولتين ولكن بريطانيا رفضت ذلك واقترحت حيادها.
حددت بريطانيا مارك سايكس مفاوضًا لجورج بيكو، ونقل سايكس لبيكو بأنّه يُمثل العرب في هذه المفاوضات، وبيّن له بأنّ الفكرة المثلى للزعماء العرب تتضمن وضع سواحل العراق وسورية تحت حماية بريطانيا العظمى وفرنسا. وقد انتهت المفاوضات بين سايكس وبيكو بزيارة روسيا لتثبيت مصالحها في هذه الاتفاقية، وقد تم إصدار الاتفاقية في 16/5/1916م بعد أنْ تمت الموافقة عليها من الحكومتين. تتكون الاتفاقية من اثنتي عشرة مادة وهي:
المادة الأولى: إنّ فرنسا وبريطانيا العظمى مستعدتان أنْ تعترفا وتحميا دولةً عربيةً مستقلةً أو حلف دول عربية تحت رئاسة رئيسٍ عربي في المنطقتين (أ) داخلية سورية، و (ب) داخلية العراق المبينتين في الخريطة (رقم) الملحقة بهذا، ويكون لفرنسا في منطقة (أ)، وللإنكليز في منطقة (ب) حق الأولوية في المشروعات والقروض المحلية، تنفرد فرنسا في المنطقة (أ)، وإنكلترا في منطقة (ب) بتقديم المستشارين والموظفين الأجانب، بناءً على طلب الحكومة العربية أو حلف الحكومات العربية.
المادة الثانية: يُباح لفرنسا في المنطقة الزرقاء ولإنكلترا في المنطقة الحمراء إنشاء ما ترغبان فيه من شكل الحكم مباشرة أو بالوساطة أو من المراقبة بعد الاتفاق مع الحكومة أو حلف الدول العربية.
المادة الثالثة: تنشأ إدارة دولية في المنطقة السمراء (فلسطين)، يُعين شكلها بعد روسيا وبالاتفاق مع بقية الحلفاء وممثلي شريف مكة.

المادة الرابعة: تنال إنكلترا الآتي: - ميناء حيفا وميناء عكا – يضمن مقدار محدود من ماء دجلة والفرات في منطقة (أ) للمنطقة (ب)، وتتعهد جلالة الملك من جهتها بألّا تدخل في مفاوضاتٍ ما مع دولةٍ أخرى للتنازل عن قبرص، إلّا بعد موافقة الحكومة الفرنسية مقدمًا. يمكن الاطلاع على بقية مواد الاتفاقية.

نتائج الاتفاقية: لقد جاءت نتائج اتفاقية سايكس – بيكو متفقةً مع تنافس بريطانيا وفرنسا على سورية وبلاد العرب التي كانت جزءًا من أراضي الدولة العثمانية في آسيا وهي:
أ. تجزئة سورية إلى أربع دول، انظر الخريطة رقم، (فلسطين، لبنان، الأردن، وسورية).
ب. تحقيق حلم فرنسا بالسيطرة على سورية منذ حروب الفرنجة (الحروب الصليبية وفشل حملة نابليون).
ج. استطاع مكوّنٌ طائفيّ بتحريض من فرنسا وبريطانيا وروسيا تكوين دولةٍ مستقلةٍ، جبل لبنان، ثم لبنان الكبير.
د. تعرّضت حركة القوميين العرب لضربةٍ كبيرةٍ بتهديم حلمها الكبير بتوحيد العرب في دولةٍ واحدةٍ تكون سورية فيه مركزها وأساسها السياسي.
هـ. استطاعت القوى الاستعمارية بهذا التقسيم أنْ تُحضّر المنطقة، وبعد توقيع وعد بلفور في 2/11/1917م، لإقامة الوطن القومي اليهودي في فلسطين ولينفصل المشرق العربي عن مغربه.
لقد انتهى التنافس الإنكليزي – الفرنسي بتنازلات متبادلة بين الدولتين وخارج اتفاقية سايكس – بيكو حيث تم الآتي:
تنازل فرنسا لبريطانيا عن الموصل الغنية بالنفط، وقد كانت تابعةً لها في اتفاقية سايكس- بيكو.
تخلّي بريطانيا عن الأمير فيصل، والسماح لفرنسا بدخول دمشق والمدن السورية الداخلية والسيطرة عليها، وهذا خروج عن الاتفاقية أيضًا.
قامت بريطانيا بتعديل حدود فلسطين في الجنوب فوصلتها إلى خليج العقبة، تمهيدًا لإقامة الوطن القومي اليهودي وفقًا لوعد بلفور.

الثورة العربية الكبرى ونهاية الوجود التركي في سورية: بدأت الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين في 10/6/1916م، أي بعد توقيع اتفاقية سايكس – بيكو بأقل من شهر وأربعة أيام بعد إعدام الدفعة الثانية من المفكّرين القوميين العرب، وكان قائد الجيوش الضابط الكبير عزيز علي المصري، ولكنّه اختلف مع الشريف حسين فترك القيادة بعد تسعة أشهر من تعيينه، فاستلم أولاد الحسين الأربعة (فيصل، وعبد الله، وزيد، وعلي) الفرق العسكرية العربية الأربعة. وكان في قيادة الجيش بعض الضباط الإنكليز مثل: كلوب ولورنس، وكذلك كانت توجد مفرزة فرنسية بقيادة الضابط بيزاني. أما لورنس فكان ضابط ارتباط مع المخابرات البريطانية. لم يكن لورنس محبوبًا من الشريف حسين وأبنائه، عدا فيصل. ويقول عنه الجنرال أللنبي (بأنه بهلواني)، ووصفه آخرون بأنّه (أحد الدجالين الكبار في الحرب الكبرى)، وكان متعاطفًا مع الحركة الصهيونية. وكتب عن نفسه: «لقد نجحت في إخفاء شخصيتي عن العرب ... كنت مجبرًا على تدريبهم وتوجيههم الاتجاه الذي يتفق مع مصالح بريطانيا».

لقد جرت أحداث الثورة العربية الكبرى ميدانيًا وفقًا لتفاصيل اتفاقية سايكس- بيكو، دون دراية من العرب، في توجيه حركة الجيوش وفي تحرير الأراضي من الجيش العثماني، واستطاع سايكس إقناع الشريف حسين بالتفاوض مع بيكو ليكون لفرنسا في ساحل سورية كما لبريطانيا في البصرة وبغداد.
خلال الحرب قامت الثورة البلشفية في روسيا بنشر مواد اتفاقية سايكس – بيكو موجهة إيّاها إلى العرب والترك، فقام جمال باشا بإرسال مواد الاتفاقية إلى فيصل وأخيه عبد الله وإلى جعفر باشا قائد الجيش عند فيصل مع رسالة يحضّهم فيها للعودة وإلى التعاون ضد الحلفاء وإلى طردهم من فلسطين وأن تنقلب الثورة العربية بأهدافها لتصبح ضد القوى الاستعمارية. أرسل فيصل نصّ الاتفاقية إلى أبيه فتراسل مع الإنكليز الذين أنكروا وجود هذه الاتفاقية، وأنّها افتراءات من قبل جمال باشا.

بعد تحرير العقبة بدأت الخلافات تظهر في الجيوش والفرق العربية حيث بدأ الضبّاط السوريون بالتمرد، يريدون التوجه شمالًا لتحرير دمشق والمدن السورية، وعزّز هذا الموقف وصول ضبّاط سوريين من القاهرة حاملين قسمًا عروبيًا مضمونه: (أقسم بالله ألّا أشتغل إلّا للبلاد العربية وللأمة العربية، وأنْ أقاوم كلّ من يمدّ يده للأجانب، وكلّ سلطةٍ تتعاون مع الأجانب، وكل سلطةٍ استبداديةٍ في البلاد). لقد رفضت عائلة الشريف حسين هذا القسم.
أعلن فيصل أنّه سيكون حاكمًا على سورية، ووعد سكان جبل العرب بإعطائهم حكمًا ذاتيًا ووافق معظم الضبّاط العرب والسوريين على أنْ يكون فيصل ملكًا على سورية. وبالوقت ذاته بدأ الجنود والضبّاط العرب بالفرار من الجيش العثماني والالتحاق بالجيش العربي، مع ذلك فقد انقسم المقاتلون في جيش فيصل إلى قسمين: قسم يرى بسورية جزءًا من القومية العربية ومع الحجاز. وقسم يراها دولةً مستقلةً عن الحجاز، ويجب أنْ يحكمها فيصل ملكًا. ولما عرف الشريف حسين بطموحات فيصل كتب له: (إلى هذا الحد القٍحة يا فيصل) (اللؤم)

اعتبرت الدول الأوروبية، تحرير القدس في 9/2/1917م على أيدي الإنكليز، هو تكملة لحروب الفرنجة في القرون الوسطى. وتم إرسال رسالة إلى الحكومة البريطانية يهنئونها باسترجاع القدس من أيدي الكفار وعلى أيدي أحفاد ريتشارد قلب الأسد، وكذلك احتفل الطليان والفرنسيون وكذلك الروس.
انتهت الثورة العربية الكبرى بدخول القوات العربية والحلفاء مدينة حلب، بعد تحرير حماه وحمص ودمشق، وخروج القوات التركية من سورية في 12/11/1918م، بعد بقائهم أربعة قرون وسنتين.

.1 وعد بلفور واكتمال المؤامرة الاستعمارية على سورية والعرب:
صدر وعد بلفور في 2/11/1917م بالشكل الآتي : “عزيزي اللورد روتشيلد: يسرني جدًا أنْ أبلغكم عن حكومة جلالته، التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عُرض على الوزارة وأقرته : (إنّ حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطنٍ قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أنْ يُفهم جليًا أنّه لن يُؤتَ بعملٍ من شأنه أنْ يُنقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى)، وسأكون ممتنًا إذا أحطتم الاتحاد الصهيوني علمًا بالتصريح . المخلص آرثر بلفور».

ولعلّ أهم الأسباب التي دفعت بريطانيا لاتخاذ هذا القرار أو الوعد هي الآتي:
حماية قناة السويس، وعدم السماح لأية قوةٍ قد تخرج عن السيطرة البريطانية في المستقبل.
تحقيق حلم الغرب جميعًا، وهذا مشروع متخذ في عام 1907م، في مؤتمر كامبل بنرمان، ذلك بفصل المشرق العربي عن المغرب العربي.

جعل الدولة اليهودية المستقبلية قاعدةً غربيةً ترعى المصالح الغربية.
الاستفادة من اليهود كقدراتٍ ماليةٍ كبيرة، وإمكاناتٍ علميةٍ وخصوصًا الأبحاث العلمية التي تفيد في الصناعات الحربية، ولها تأثير في موازين القوى، مثل ابتكارات حاييم وازمن في دور البكتريا والأسيتون لإنتاج الأسلحة.
ومع اتخاذ هذا القرار وإعطاء هذا الوعد، لم يلتزم الإنكليز بتطبيق ومراعاة التفاصيل الموجودة فيه، ولم تراعَ حقوق الآخرين، لا الدينية ولا المدنية فقد انتهكت كلّ الحقوق، ولم يبقَ منها شيء أمام توحش وإجرام العصابات الصهيونية التي تشكلت مع بداية الانتداب. وفي نصّ هذا الوعد توجد رزمةٌ من المغالطات أهمها:

عدّ اليهود المكوّن السكاني الأكثر في فلسطين مع أنّهم لم يشكلوا في وقتها، إلّا 7% من جملة السكّان، يقابل ذلك عدّ الأغلبية العربية أقلية. ولكن ورود كلمة فلسطين في النصّ يجعل من بريطانيا معتديةً على وجود دولة أو مشروع دولة؛ لأنّ المنطقة كلّها كانت تحت الاحتلال العثماني والمتغيرات الميدانية العسكرية والسياسية تساند ذلك.

لقد كانت فرنسا على إطلاع على وثيقة وعد بلفور ولم تحتج عليها، على من أنّها كانت ترى بفلسطين ممتدةً إلى حدود العريش والعقبة. وكان بإمكانها أنْ تفضح هذه الوثيقة وتكسب مواقف العرب. أمّا بريطانيا فلم تُخفِ وعد بلفور، كما فعلت باتفاقية سايكس – بيكو، مع أنّ هذا الوعد هو الأخطر على العرب، ولكن الإنكليز أقنعوا الشريف حسين بأنّ الغرض من الوعد هو إسكان بعض اليهود في فلسطين دون إضرار حقوق العرب، ولم يكن يعلم بخفايا الحركة الصهيونية؛ لأنّه عندما علم ذلك رفضها رفضًا قاطعًا . ولكن بعد فوات الأوان ولم يعمل شيئًا ضد الوعد.

بعد نشر مواد اتفاقية سايكس – بيكو في الجائد الفرنسية اجتمع الرجلان سايكس وبيكو فأرسلا رسالةً إلى الشريف حسين يؤكدان فيها ضمان استقلال البلاد الناطقة بالعربية، سورية والعراق والجزيرة، وقد تنكرا للاتفاقية . وبدأ سايكس يتصرف ومعه بيكو على أنّ فلسطين مفصولةٌ عن سورية، وأنّها موضوعةٌ تحت حمايةٍ دوليةٍ استعدادًا لتطبيق وعد بلفور، وكذلك فصل سورية عن الحجاز، وتم وضع فيصل أميرًا دستوريًا على سورية كدول مستقلة تحت حماية بريطانيا أو أمريكا.
انتهت الحرب العالمية الأولى ولم تعترف بريطانيا وفرنسا باتفاقية سايكس – بيكو، لكن قائد الجيش الإنكليزي قد أوضح لفيصل في دمشق تفاصيل الاتفاقية، وأنّ لبنان لفرنسا، وأنّ إمارته على دمشق وحمص وحماه وحلب فقط، وسيتم تعيين ضابطي ارتباط معه، إنكليزي وفرنسي، أما فلسطين فتحكمها الإدارة البريطانية مباشرة لتطبيق وعد بلفور وإنشاء الوطن القومي اليهودي عليها، ولبنان تقرر أنْ تديره فرنسا .

بدأت الدولتان بالتطبيق الميداني للمخططات التآمرية على العرب عمومًا وعلى سورية خصوصًا، منذ بداية الثورة العربية الكبرى، فتم فصل فلسطين عن سورية، وعندما تم تحرير لبنان تم تسليمه لفرنسا، وتم إقناع الشريف حسين بالخطوط العامة للمخطط وهي:
أ. عدّ المناطق الغربية من سورية، من رأس الناقورة وحتى مرسين في الشمال، ليست سورية وكذلك كلّ المنطقة الزرقاء.
ب. إمكانية إقامة دولةٍ عربيةٍ في المنطقة (أ) تحت الحماية الفرنسية.
ج. أنّ وعد بلفور يعني السماح لبعض اليهود بالهجرة والاستقرار في فلسطين.
د. إمكانية إقامة دولةٍ عربيةٍ في المنطقة (ب) تحت الحماية الإنكليزية.
هـ. وضع فلسطين والمقدسات تحت حماية دولية بقرار بريطاني.

الخاتمة:
في نهاية هذا البحث نجد أنّ رياح القومية قد هبّت على العرب من أوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وأنّ المسلمين العرب كانوا ينظرون للعثمانيين نظرة أخوةٍ في الدين، ولم يكن يوجد تفكيرٌ عنصريّ بين العرب والأتراك، وأنّ المسيحيين العرب، الذين سبقوا المسلمين العرب باستقبال مفاهيم القومية، لم يكونوا يستطيعون الاستمرار دون دخول المسلمين معهم حتى لا يُرى بأنّهم طائفيون وليسوا قوميين، ولعلّ هذا الذي ميّز العرب السوريين عن غيرهم من العرب الآخرين. مع ذلك كانت مطالب السوريين بداية تنحصر في الإصلاح الاجتماعي وتطبيق اللامركزية في إدارة مناطقهم، لكن مطالبهم تطوّرت، خصوصًا الجمعيات المسيحية، نحو الانفصال والحماية من الدولة الفرنسية.

عندما جاء الاتحاديون إلى السلطة، بانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني في عام 1909م، دفعوا بالعرب إلى التميز القومي والسعي للاستقلال؛ لأنّ الاتحاديين مارسوا سياسة الحقد والتتريك والظلم والإفقار للعرب، وقتلوا زعماء الحركة القومية العربية، ونفوا عائلات كثيرة إلى الأناضول، على يد جمال باشا السفّاح، فبدأ الجنود والضباط العرب في الجيش الرابع المرابط في سورية يشعرون بأنّهم من المرتبة الثانية؛ لذلك تحوّلت الدولة العثمانية من دولةٍ إسلاميةٍ يدعمها العرب إلى دولةٍ طورانيةٍ تركيةٍ تنبذ العرب. فالأتراك بسياستهم العنصرية هم الذين أسقطوا الدولة العثمانية وليس العرب.

ومع قيام الحرب العالمية الأولى في 28/7/1914م ازداد التنافس المسعور بين الدول الاستعمارية الأوروبية لاقتسام أراضي الدولة العثمانية (الرجل المريض)، ودفعت كذلك لزيادة الخلافات بين المكونات الاجتماعية والعرقية للدولة العثمانية، ودخول تركيا الحرب فيها مع ألمانيا، وبقية دول المركز (المحور).
لقد تآمر الحلفاء الفرنجة على العرب عمومًا وعلى سورية خصوصًا بإقامة اتفاقية سايكس - بيكو ووعد بلفور لإقامة الدولة اليهودية، وتآمروا على العرب بإيجاد تناقضٍ بين القومية العربية والطائفية، كما فعلت فرنسا، بينما تآمرت بريطانيا على الوعي القومي العربي ذاته لتمزيقه من الداخل دون التطرق للعنصر الطائفي مبدئيًا وعلانية ، فقد أقنعت الشريف حسين، الذي وثق به القوميون العرب ونسّقوا معه، بقيام أجزاء عربية متناثرة مستقلة بخلاف ما كان يسعى إليه القوميون العرب، وقد استطاعت بريطانيا استخدام بعض الزعماء العرب، خصوصًا الموجودين في مصر من السوريين، لتحقيق أهدافها والكذب عليهم وعدم الوفاء بوعودها وكذلك تآمرها باتفاقية سايكس – بيكو ووعد بلفور.

ولعل الأخطر من ذلك هو تدعيم اتجاهات تقسيم البلاد العربية في عقول زعماء الحركة القومية العربية، لتصبح سورية ومصرية وعراقية وحجازية، فأوجدت القطرية وأوجدت لها تاريخًا تستند إليه، وهكذا نستطيع القول إنّ الجميع قد تآمر، الأوروبيين والأتراك على حدّ سواء، على مستقبل العرب السياسي وعلى أرضهم بتجزئتها واحتلالها، فالأتراك أعدموا زعماء العرب وحاولوا تتريكهم، ونفوا عائلاتهم، ومارسوا كلّ أنواع التنكيل والتجويع والفقر، والفرنسيين لعبوا على الجانب الطائفي وقسّموها لدولٍ طائفيةٍ عندما استعمروها، وبريطانيا على الجانب القومي لتديره وتبعده عن جوهر أهدافه في وحدة العرب وإقامة دولة عربية واحدة .

لقد جاءت نتيجة تلك المتغيرات خلال الثلاث عشرة سنة، من مؤتمر كامبل بنرمان في عام 1907م، وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى، ونهاية الحكم العربي في سورية، متوافقة مع تلك المتغيرات، فلا حرية للعرب ولا استقلال، ولا دولة عربية واحدة، بل احتلت أرضهم وجزأتها، وتم العمل بخطواتٍ سريعةٍ ومدروسةٍ لإقامة الوطن القومي لليهود، وزرعوا في عقول السوريين أنّهم غير قادرين على إقامة دولة بأنفسهم، كأنّهم قاصرون بحاجة لرعاية لذلك يجب وضعهم تحت الانتداب ليصبحوا قادرين على إقامة دولة متقدمة. وقد تم تجزئة سورية إلى أربعة كياناتٍ سياسيةٍ: سورية، ولبنان، وفلسطين، والأردن، بناءً على اتفاقية سايكس بيكو. (انظر الخريطة الموضحة لذلك).

من التناقض مع أصول المنطق السياسي، أنْ ينتصر العرب في الحرب العالمية الأولى إلى جوار المنتصرين فيها من الأوروبيين، أنْ يؤدي هذا النصر إلى خسران العرب لأرضهم وتجزئتها، وفقدانهم لحريتهم، واستعبادهم من الدول التي ناصروها في الحرب، والأخطر من ذلك إقامة الوطن القومي لليهود في أرض العرب؛ فشكّل هذا عامل تفجّر، وعدم استقرار للعرب حتى وقتنا الحاضر.

قائمة المراجع:
أرسلان، شكيب، سيرة ذاتية، ط1، دار الطليعة، بيروت، 1969م.
باشا، سلطان، مجلة المساء، ع 97، ك 1، 1975م.
بك، عزيز، الاستخبارات الجاسوسية في الدولة العثمانية، تعريب فؤاد الميداني، ط1، جريدة الاحرار بيروت، 1993م.
بيشون، جاك، بواعث الحرب العالمية الأولى في الشرق الأدنى، ترجمة عزة دروزة، ط1، مطبعة الكشاف، بيروت، 1964م.
ت. أ. لورنس، أعمدة الحكمة السبعة، ترجمة رشيد كرم، مكتبة التجاري للطباعة والتوزيع، ط1، بيروت .1950.
الحصري، ساطع، البلاد العربية والدولة العثمانية، دار العلم للملايين، ط1، بيروت، 1965م.
الحكيم، يوسف، بيروت ولبنان في عهد العثمانيين، المطبعة الكاثوليكية، ط1، بيروت، 1966م.
خضور، أديب، الصحافة في سورية، دار البعث، ط1، دمشق، 1973م.
الخوري، بشار، حقائق لبنانية، مطبعة أوراق لبنانية، ط1، حريصا، 1960م.
الزين، سميح، 6 أيار قصة شهداء الوطن، النهضة العربية، ط1، بيروت، 1966م.
سعيد، إبراهيم، الجيوبولتيك السوري، وزارة الثقافة، ط1، دمشق، 2016م.
سعيد، أمين. أسرار الثورة العربية الكبرى ومأساة الشريف حسين، دار الكاتب العربي، ط1، بيروت، 1965م.
سلطان، علي، تاريخ سورية، أواخر الحكم التركي،1908-1918 م، ط2، دار طلاس، دمشق، 1996م.
الطنطاوي، علي، دمشق صور من جمالها وعبر من نضالها، دار الفكر، ط1، بيروت، 1959م.
قاسمية، خيرية، النشاط الصهيوني في الشرق العربي 1908-1918م، منظمة التحرير الفلسطينية، ط1، بيروت، 1973م.
كرد علي، محمد، خطط الشام، مطبعة الترقي، ط1، دمشق، 1948م.
كليب، سامي، تدمير العالم العربي، نوفل للطباعة والنشر، ط1، بيروت، 2023.
مورغنتو، هنري، مذكرات، تعريب فؤاد صروف، مطبعة المقطم، ط1، القاهرة،1923م.
المؤتمر العربي، العربي الأول في باريس، إعداد حزب اللامركزية الإدارية العثماني، القاهرة، مطبعة البوسفور، ط1، 1913م.
موسى، سليمان، الحركة العربية 1908-1924م، دار النهار، ط1، بيروت، 1950م.
مجلة المشرق، بيروت، 1909- 1923م.
مجلة المنار، م16، ج2، 6/2/ 1914.
F.O. Great Britain. Foreign Office. Public Record Office Turkey.