البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

مصاديق الجهاد ضدّ الاستعمار وفق رؤية السيّد هبة الدين الشهرستاني

الباحث :  د.محمد باقر البهادلي
اسم المجلة :  الاستعمار
العدد :  2
السنة :  شتاء _ 2025 م
تاريخ إضافة البحث :  January / 13 / 2025
عدد زيارات البحث :  91
تحميل  ( 523.314 KB )
الملخص
شهد العراق في مطلع القرن العشرين تحوّلاتٍ جذريةً بمستوياتٍ متعدّدةٍ، منها السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ وذلك نتيجة تنامي نفوذ القوى الاستعمارية الأوروبية، وعلى رأسها بريطانيا، وتراجع سلطة الدولة العثمانية. في خضمّ هذه التحوّلات التاريخية، برزت شخصياتٌ سعت إلى الحفاظ على الهوية الوطنية والدينية، والتصدّي لمحاولات الهيمنة الاستعمارية، وكان من أبرزها السيّد هبة الدين الشهرستاني (1884-1967م)، الذي مثّل انموذجًا متميزًا للعالم والمفكّر والسياسي والمصلح.
يعدّ السيّد هبة الدين أحد أهمّ أعلام العراق في النصف الأول من القرن العشرين، إذ يوصف بالعالم الديني الموسوعي، فلم يكتفِ بالتبحّر في العلوم الشرعية والتقليدية، بل انفتح على المعارف الحديثة والعلوم العقلية والرياضيات والفلك. وقد شكّلت آراؤه الفقهية والفكرية والاجتماعية ركيزةً أساسيةً في جهود مقاومة الاستعمار الثقافي والاقتصادي، كما أدّى دورًا مؤثّرًا في سياق الحراك الوطني الذي انتهى بثورة العشرين تبعه النضال والدعوة للاستقلال. وفي هذا البحث سنحاول تقديم صورةٍ عن حياة هذا العالم الجليل، وقابليّاته العلمية، وموقفه من مفاهيم الجهاد والمقاومة، ورؤيته تجاه بدايات التغلغل الأوروبي في العراق، وموقفه من دخول القوات البريطانية، وصولًا إلى دوره في الإعداد لثورة العشرين ودعمه لها، وانتهاءً الى دوره المحوري في إرساء قواعد النهضة الفكرية، ودوره في وزارة المعارف الذي يمثّل جهاده ضدّ الاستعمار البريطاني من بوابة الفكر والمعرفة، مع الاستناد إلى الوثائق والمصادر التاريخية ذات الصلة.

الكلمات المفتاحية: هبة الدين الشيرازي، الاستعمار، الشيخ مبدر آل فرعون، عجمي السعدون، الاحتلال البريطاني. السيّد هبة الدين : نبذةٌ عن حياته

السيّد هبة الدين الحسيني الشهرستاني (1884-1967م) هو أحد أبرز علماء العراق في القرن العشرين، وشخصية تركت آثارًا عديدةً في الفكر الإسلامي والإصلاح الاجتماعي. وُلد في مدينة سامراء يوم الثلاثاء 24 رجب 1301 هـ، الموافق 3 مايو 1884م [2]، في عائلةٍ عُرفت بالتقوى والعلم، ممّا كان له أثرٌ عميقٌ في تكوين شخصيته منذ صغره ، أظهر السيّد هبة الدين منذ صغره ذكاءً وقّادًا وحبًّا للمعرفة، فتعلّم القراءة والكتابة في سنٍّ مبكرة، وبدأ بدراسة العلوم الشرعية كالفقه والأصول على أيدي علماء مرموقين في سامراء وكربلاء والنجف. لم تقتصر اهتماماته على العلوم الدينية فحسب، بل تجاوزتها إلى العلوم الحديثة والفكر الإصلاحي، ممّا ساعده على تطوير رؤيته الفكرية التي تمزج بين الأصالة والمعاصرة. كانت هذه النظرة الشمولية من أهمّ سماته، حيث سعى إلى ربط التراث الإسلامي بالعلوم الحديثة لمواجهة التحديات التي يفرضها الاستعمار والتغيّرات الاجتماعية في العراق والعالم الإسلامي.

أدّى السيّد الشهرستاني دورًا بارزًا في النهضة الفكرية والإصلاحية، إذ أسّس مجلة (العِلْم) التي شكّلت منصّةً فكريةً لنشر رؤاه الإصلاحية. تناولت المجلة موضوعاتٍ متنوعةً شملت إصلاح التعليم، وتعزيز الوحدة الإسلامية، ومواجهة الاستعمار، ونشر الوعي الفكري والثقافي.

وعدَّ التعليم أساسًا للنهوض بالمجتمع، فعمل على تطوير المناهج الدراسية لتتوافق مع احتياجات العصر، مع الحفاظ على المبادئ الإسلامية. لم يكن الإصلاح عنده مقتصرًا على الجانب التعليمي فقط، بل شمل أيضًا جوانب اجتماعيةً ودينية، حيث دعا إلى تجديد الفكر الإسلامي بطريقةٍ تحترم الأصول وتواكب العصر.
كان للسيّد العديد من المؤلّفات والكتابات التي عكست رؤيته الفكرية. كتب في التفسير والحديث والفقه، وأسهم في النظر إلى القضايا الاجتماعية والفكرية من منظورٍ إسلاميّ متجدّد. ركّز في مؤلّفاته على أهميّة فهم النصوص الدينية في سياقها التاريخي والاجتماعي، مع مراعاة الظروف المعاصرة. وقد تميّزت كتاباته بالعمق والوضوح، ممّا جعلها مصدرًا مهمًّا للباحثين والمهتمّين بالفكر الإسلامي.

عُرف السيّد الشهرستاني بتواضعه وحرصه على نشر العلم في أوساط مختلفةٍ من المجتمع العراقي. لم يقتصر نشاطه على المدن الكبرى، بل امتدّ إلى المناطق الريفية، حيث عمل على محاربة الأميّة وتشجيع التعليم بين أبناء الفئات المحرومة. كما اهتمّ بتعزيز القيم الأخلاقية والاجتماعية في المجتمع، وشجّع على الحوار بين مختلف الأطياف الفكرية والدينية.

توفّي السيّد هبة الدين الشهرستاني في عام 1967م بعد مسيرةٍ حافلةٍ بالعطاء العلمي والفكري. وترك إرثًا غنيًا من المؤلّفات والمشاريع الإصلاحية التي لا تزال تُعدّ مرجعًا مهمًّا في الفكر الإسلامي الحديث. يمثّل السيد الشهرستاني نموذجًا للعالم المجدّد الذي نجح في الجمع بين تراث الأمّة وضرورات العصر، وظلّ أثره حاضرًا في الفكر والثقافة الإسلامية.

مفهوم الجهاد عند السيّد هبة الدين الشهرستاني
لم يقصر السيّد هبة الدين مفهوم الجهاد على البعد العسكري واستخدام السلاح، بل صاغه بوصفه مفهومًا مركبًا تتداخل فيه الجوانب الدينية والأخلاقية والاجتماعية. وقد أتاح له تكوينه الموسوعي وانفتاحه الفكري ــ الذي جمع بين الاطّلاع الواسع على التراث الإسلامي والمعارف الحديثة ــ أنْ يقدّم رؤيةً متكاملةً للجهاد، تستند إلى نصوص القرآن الكريم والسُنّة النبوية الشريفة وتراث المعصومين (ع)، فضلًا عن أحكام الفقهاء. لم يكن الجهاد في تصوّره مجرد صراعٍ مادي، بل بذل جهدًا متواصلًا في سبيل حماية الدين والأمة، وصون استقلالهما.

بهذا المنظور الشامل الذي تحدّده يقظة ذهنه وتوقّد فكره، تتعدّد أبعاد الجهاد لدى الشهرستاني، ويمكن إجمالها في أربعة محاور رئيسة، وسنأتي عليها بشيءٍ من التفصيل:
الجهاد الفكري والثقافي: يتمثّل في نشر الوعي وتعزيز المعرفة، والتحذير من الاستلاب الثقافي، وتوجيه المجتمع نحو التمسّك بقيمه الدينية والحضارية الأصيلة.
الجهاد الاجتماعي: يقوم على إصلاح المجتمع من الداخل، وترسيخ أواصر التضامن، وتقوية النسيج الأخلاقي، بما يضمن وحدة الصف الداخلي وصلابته.
الجهاد السياسي: يرتكز على مقاومة المحتلّ بالوسائل المتاحة، وإفشال خططه الرامية إلى السيطرة والتحكّم بالقرار الوطني، مستلهمًا مبادئ العدالة والحرية.

الجهاد العسكري: يأتي كخيارٍ أخير في حال تعرّض الأمة لعدوان أو احتلال ظالم، حيث يصبح الدفاع عن الأرض والعرض والدين واجبًا شرعيًا. وقد أكّد الشهرستاني أنّ هذا الجهاد ينبغي أنْ يكون منظّمًا ومدروسًا لتجنّب الانفعال وتحقيق الأهداف المرجوّة.

الموقف من بدايات التغلغل الأوروبي مثل سكّة الحديد وأمثالها
في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، تصاعدت مساعي القوى الأوروبية، وعلى رأسها بريطانيا، للتغلغل في العراق. وقد اتّخذ هذا التغلغل أشكالًا متعددةً، تمثّلت في محاولة بسط النفوذ التجاري وإقامة المشاريع الاقتصادية الكبرى، مثل مدّ خطوط السكك الحديدية وإنشاء الشركات التجارية وفتح الوكالات، فضلًا عن محاولة استغلال العوامل الدينية والاجتماعية من أجل تسهيل تغلغلها. هذه الأنشطة جاءت في إطار السباق الاستعماري الأوروبي لزيادة المكاسب الاقتصادية والسيطرة السياسية، بما في ذلك السعي لتوسيع مناطق النفوذ والتحكم في مقدّرات البلاد وشعبها.

تمثّلت إحدى أبرز صور هذا التغلغل في منح الامتيازات للشركات الأجنبية، ومنها حصول الألمان على امتيازاتٍ صناعيةٍ مهمّةٍ كمشروع سكّة حديد بغداد، حيث وقّع عن الحكومة العثمانية وزير الأشغال والتجارة في الحكومة ذهني باشا عام ١٩٠٢م، فيما مثّل الجانب الألماني ثلاث من شركة سكة حديد الأناضول، وهم الدكتور كورت زندر المدير العام للشركة، وجوينر أرثر رئيس مجلس المديرين بالشركة، وهجيونين ادوارد المدير العام المساعد بالشركة [3].
لم يمرّ هذا التغلغل دون ممانعةٍ أو مقاومة. فقد أدركت النخب الدينية والفكرية حقيقة المخططات الاستعمارية وآثارها بعيدة المدى، ومن أوائل المناهضين لمنح الامتيازات هذه من بين الجمعيات الثقافية كانت الجمعية الإصلاحية في البصرة، التي ضمّنت في منهاجها مادةً صريحةً تتضمّن معارضتها إعطاء الامتيازات للأجانب في البلاد العربية عمومًا [4]. وفي الوقت نفسه برز دور السيّد هبة الدين الشهرستاني، الذي رصد الظواهر الاستعمارية وحلّلها بعمق، مبرزًا الأخطار التي تهدد استقلال العراق وهويته الإسلامية. لم يكتفِ الشهرستاني بتشخيص المشكلة فحسب، بل سعى لتوعية العامة والنخب السياسية والدينية على السواء، محذرًا من خطورة المشاريع الأجنبية التي تُسوّق في ظاهرها كسبًا ماديًا أو عمرانيًا، لكنّها في جوهرها وسائل لإضعاف وحدة المجتمع وتفتيت بناه الداخلية.
في النصوص التي نشرها، أورد الشهرستاني كلامًا صريحًا وواضحًا يبيّن فيه مدى خطورة الاستعمار الأوروبي، مشيرًا إلى أنّ هذه القوى لا تتورع عن استخدام الدين ذريعةً لكسب رضا المسلمين، ومن ثم التسلّل إلى قلوبهم وعقولهم للإسراع في ترسيخ نفوذها. يقول الشهرستاني في هذا السياق متحدّثًا عن الأهداف الحقيقية للمستعمر في جوابه لاستفسار عن دوافع المانيا الحقيقية بالتودد الى المسلمين : «إنّ غاية ما تصوّروه من الدواعي المناسبة لحال الحكومة الالمانية، إنّما هو كسب رضا المسلمين و جلب قلوبهم نحوها». ويضيف: « فلا ريب أنّ الحكومة - من أيّ جنسٍ تكون - إذا ظفرت على اجتلاب قلوب المسلمين واكتساب مرضاتهم فقد سهل عليها تذليل المصاعب في توسعة نطاق الاستعمار» [5].

ولم يكتف السيّد الشهرستاني بما يكتبه، ولكنّه أخذ باستنهاض الهمم والتعريف بمخاطر الاستعمار بطرقٍ شتّى وأساليب مختلفة، كان أهمها خطبته التي عنونها بـ(هذا بلاغ للناس) التي ألقاها في مسجد عمران بن شاهين في عام 1911 حيث يقول: «إنّ أعداءكم الإفرنج يتوسّلون بأخذ الامتيازات التجارية والاقتصادية منكم، وخوض السفن في بطون بحاركم، ومدّ الحديد على متون أراضيكم، تذرّعًا إلى تقوية النفوذ في حكوماتكم، وامتصاص لعابكم، وابتلاع لبابكم». ولم يكتف السيّد الشهرستاني بتبيان أساليب الاستعمار ومخاطره، وما تخفي القوى المختلفة خلف قناع العلاقات الاقتصادية القائمة على منفعة المستعمر فقط، بل ذهب إلى طرح الحلول بضرورة تطوير النظام السياسي والإداري وبناء اقتصادٍ متكاملٍ مبنى على تقوية كفة الصادرات وتنويع الموارد وتمكين الفرد، وكان واعيًا لماهية الحرب الاقتصادية وما يحققه الاكتفاء الذاتي والاقتصاد القوي من عزة ورفعة للبلد حيث يقول في خطبته: «اقنعوا بمنسوجاتكم ومصنوعاتكم، ليكثر منكم الزارعون والصانعون، وتخسر تجارة العدو في أسواقكم، ولتقدروا على نزال الأعداء. نظّموا إداراتكم، وقيّدوا بشورى العقلاء إرادتكم، وقايسوا بين وارداتكم وصادراتكم، وأجروا قوانين الشريعة في البلاد، وساووا في الحكم بين الأفراد». وتتجلّى الرؤية العميقة والقراءة المتكاملة لمخططات الاستعمار فيما يطرحه من شرطٍ لضمان درء خطر الاستعمار من خلال دعوته للوحدة ورفض الانقسام والفرقة بقوله: «اتركوا البغضاء وافتراق الكلمة، وأبدلوا التضاغن بالتضامن، والتعاند بالتعاون، وعوضوا الاختلاف بالائتلاف، والافتراق بالاتفاق، وكونوا يدًا واحدة».

بهذا الطرح الفكري الواعي، قدّم الشهرستاني أنموذجًا للعالم المفكّر المثقّف الذي لا يكتفي بالتعبير عن رفضه للاستعمار، بل يوضح أساليبه الخفية، ويرشد الأمة إلى سبل المواجهة. لقد دعا إلى وحدة الصف، ونبذ الفرقة، واستنهاض الوعي الوطني والقيمي، تحصينًا للمجتمع ضدّ أيّ شكلٍ من أشكال التغلغل الأجنبي. بهذه الرؤية الثاقبة، مثّلت مواقفه صدىً لمشاعر كثيرٍ من أبناء عصره الذين استشعروا الخطر المحدق بوطنهم، وسعوا لبلورة موقفٍ فكريّ وعقائدي رافضٍ للاستغلال والاستلاب، وصولًا إلى قيام وعي جمعي قادرٍ على التصدّي لكلّ محاولات الهيمنة.

الموقف من دخول القوات البريطانية إلى العراق
مع اندلاع الحرب العالمية الأولى (1914-1918م)، وجدت بريطانيا في العراق ساحةً إستراتيجية، فتقدّمت قواتها إلى البصرة بحجة حماية مصالحها، وتواصل وجوه البصرة مع علماء الدين في العتبات المقدّسة ومختلف المدن يطلبون المساعدة حيث ورد في إحدى الرسائل (ثغر البصرة، الكفاّر محيطون به، الجميع تحت السلاح، نخشى على باقي بلاد الإسلام ، ساعدونا بأمر العشائر بالدفاع)[6].

مع احتلال البصرة في تشرين الثاني سنة 1914، لم يعد الأمر مقتصرًا على التحذير الفكري، بل باتت الحاجة ملحّةً للتحرك العملي. وقف علماء الدين والمثقفون الوطنيون موقفًا رافضًا لهذا الاحتلال، وكان الشهرستاني في مقدمة هؤلاء؛ فقد أدان دخـول القـوات البريطانية وعدّه انتهاكًا للسيادة الإسلامية والعراقية، ورأى فيه تهديدًا للهوية العربية والإسلامية.

دعا الشهرستاني إلى عدم القبول بالأمر الواقع، والعمل على تعبئة القوى الوطنية والدينية، وحثّ العلماء وشيوخ العشائر على التوحّد لصدّ الخطر. وقد تكرّست جهوده في التوعية بخطورة الاحتلال، وإقناع الأوساط الشعبية بضرورة عدم الاستكانة. مع توالي الأحداث ومواصلة الإنجليز تقدّمهم نحو القرنة، اضطرت الحكومة العثمانية الى عزل قائد الجيش (جاويد باشا)، وتعيين (سليمان عسكري) بدلًا منه[7].
وأرسلت الحكومة العثمانية وفدًا إلى النجف من بعض الشخصيات لمحادثة المجتهدين الكبار في الأمر. تألّف الوفد في بغداد، وكان يضمّ بعض الشخصيات البغدادية والحكومية ورجال الدين، ومن بينهم محمد فاضل الداغستاني، وشوكت باشا، والشيخ حميد الكليدار سادن حرم الإمامين الكاظميين، ومع تواجد الوفد في النجف عُقد اجتماع في مسجد الهندي حضره العلماء والزعماء وشيوخ العشائر في الفرات الأوسط، وتحدّث في الاجتماع من علماء الدين السيّد هبة الدين الشهرستاني، والسيد محمد سعيد الحبوبي، والشيخ عبد الكريم الجزائري، والشيخ جواد صاحب الجواهر، منوهين بضرورة مشاركة الحكومة المسلمة لدفع الكفّار عن بلاد المسلمين.

ثم تكلّم بعض شيوخ العشائر ومنهم مبدر آل فرعون رئيس عشيرة آل فتله، وممّا قاله: «إنّ الاتراك إخواننا في الدين، وواجب علينا مساعدتهم في طرد الأعداء من بلادنا». وقبل أنْ ينفضّ الاجتماع أعلن علماء الدين الجهاد ووجوب الدفاع عن البلاد الاسلامية [8]. ومن أقوال السيد هبة الدين في هذا الأمر: «بعد توالي برقيات الاستغاثة والاستعانة إلى النجف الاشرف، بالأخص من تجار البصرة وحواليها، ومن علماء البلاد وأكابر أهاليها، بمضامين تصدّع الصخر الأصم… فهيجنا الإيمان، وحرّكنا دافع الوجدان إلى إعلان الجهاد لمحاربة القوات الإنكليزية المحتلّة، وصدّها عن احتلال وطننا العراق ومشاهد أئمتنا المقدسة» [9].

لم يكتفِ العلماء بالفتيا، بل قرروا أنْ يخوضوا الحرب بأنفسهم وشاركوا فيها، ومن الذين شاركوا في هذه الحرب: السيّد محمد سعيد الحبّوبي، والشيخ عبد الكريم الجزائري، والشيخ عبد الرضا الشيخ راضي، والشيخ جواد صاحب الجواهر، والشيخ رحيم الظالمي، والسيد عبد الرزاق الحلو، والسيد محمد رضا الشبيبي، والسيد سعيد كمال الدين، والشيخ علي الشرقي، والسيد هبة الدين الشهرستاني [10]، وقد قام السيّد الشهرستاني برفع العلم الحيدري لاستنهاض المجاهدين فضلًا عن توليه توزيع الأسلحة عليهم [11]
وقد دعا السيّد هبة الدين إلى بذل كلّ الجهد، والسعي في توحيد كلمة العشائر وعقد الأمل في نتائج أعمال المجاهدين [12]، وأوضح أنّ النهضة للدفاع عن بيضة الإسلام وثغور المسلمين، فيجب الاتحاد تحت لواء القرآن[13].

تشير الوثائق المتوفرة إلى أنّ عددًا كبيرًا من شيوخ العشائر قد أظهروا استجابةً إيجابيةً ودعمًا كبيرًا لدعوات السيّد هبة الدين الشهرستاني المتعلّقة بتوحيد الصفوف والدعوة إلى الجهاد. ومن بين هؤلاء الشيوخ، الشيخ مبدر آل فرعون الذي عبّر في رسالته عن استعداده الكامل للتضحية في سبيل الدين وحماية بيضة الإسلام. كما أكد التزامه بوصايا السيد الشهرستاني وأهداف النهضة، مشيرًا إلى جاهزية عشيرته وأفراد قبيلته للانضمام تحت لواء المجاهدين، وأنّ لديه أكثر من ٥٠٠ مقاتل جاهز لمواجهة الإنكليز [14].

هذا التجاوب يعكس مدى الثقة الكبيرة التي منحها شيوخ العشائر للسيّد الشهرستاني، ودورهم البارز في دعم الحركة الجهادية الهادفة إلى صيانة الأراضي الإسلامية من أيّ تهديد. وما يذكره السيد هبة الدين الشهرستاني في مذكراته يوضح مدى صعوبة وخطورة الأوضاع التي كانت تمرّ بها البلاد نتيجة احتلال البصرة من قبل الإنجليز، وفاعليته في ساحة الجهاد بين كتابة الرسائل إلى العشائر لاستنهاضهم، وزيارتهم في أماكن عدة حيث يكتب في إحدى المخطوطات: «لقد أدركنا مبلغ خطورة الحال علينا بعد احتلال الإنكليز للبصرة، فقمنا زرافاتٍ ووحدانًا نتجوّل بين قبائل الفرات وعشائره، نكاتب ونخاطب ونهيب بأبناء البلاد، ونستنهض الهمم من أبناء العروبة، حتى وفّقنا الله إلى جمع آلافٍ مؤلّفةٍ من أبناء القبائل، وحشدنا منهم جيوشًا مختلفة المشارب بجندٍ رهيبٍ مهيب، واتّجهنا إلى غربي المنتفك، اختيرت هذه المنطقة الجرداء، رغم ملوحة مائها ورداءة مناخها دارًا للحرب؛ بسبب قربها إلى البصرة واتصالها بها، وتقدّم العدو فيها. فنزلنا فيها، وكان معنا ثلاثة آلاف عسكري ما بين جنديّ وضابطٍ من قوات الدولة العثمانية، ومعهم ستة مدافع وثلاثون ألف مجاهد من أبناء العشائر العربية القاطنة حول نهر الفرات ببنادقهم وخيولهم» [15].

وقد بذل رجال الدين في النجف وكربلاء وسامراء والكاظمية كلّ ما بوسعهم لإثارة المقاومة بوجه البريطانيين، ولم تكن قبائل الفرات وحدها التي شاركت في تلك الحملة، وإنّما كان للقبائل القاطنة على شواطئ دجلة أيضًا الدور الفاعل في تهيئة المجاهدين والمشاركة في الأموال[16]. وعندما توجّه المجاهدون إلى الشعيبة أخذ السيّد هبة الدين يدعو للجهاد ومحاربة الغزاة كلّما نزل مكانًا في الطريق، متجوّلًا بين العشائر يتحدّث فيهم عن الدين وفرائضه، وعن الوطن وحرّمته، وعن العرض وقدسيته، ويؤكد على أنّ خروجه للجهاد لا لنصرة العثمانيين، بل للدفاع عن الدين والوطن[17]. وقد وصلت ألوية السيّد محمد سعيد الحبوبي إلى النخيلة في 13 ربيع الأول سنة 1333هـ-22 كانون الثاني سنة 1915م، وضربوا خيامهم هناك بينما وصل السيّد هبة الدين ومن معه في 12 شباط لينضموا إلى ألوية الحبوبي [18].

وقد كانت خطة القائد العسكري العثماني (سليمان) هجومية يهجم فيها الجيش العثماني والمجاهدون من الجناحين: الجناح الأيمن، يقوم بالهجوم من اتجاه الزبير متجهًا نحو الشمال الغربي، ويكون هدفه القاطع الجنوبي الشرقي من موضع الشعيبة، وكانت القوات في هذا الجناح مؤلّفةً من مجاهدي المنتفك بمعية السيّد هبة الدين وقيادة عجمي السعدون [19].

والجناح الأيسر، يقوم بالهجوم من اتجاه مزار الإمام أنس، متجهًا نحو الجنوب الشرقي ويكون هدفه القاطع الشمالي الغربي من موضع الشعيبة، وكانت القوات في هذا الجناح مؤلّفةً من المجاهدين بقيادة السيد محمد سعيد الحبوبي، وعبد الله الفالح السعدون، وخيون العبيد. أمّا المركز فيتألّف من القوات النظامية التي تهاجم جهة الشيعبة زاحفةً نحو الغرب [20].

وبدأ السيّد هبة الدين باستمالة بعض الهنود المسلمين الذين جنّدهم البريطانيون باسم الحرب ضد ألمانيا، فبدأ يرسل إليهم نصائحه ويعرفهم بأنّهم يحاربون إخوان المسلمين بقوله: «هل تعلمون أنّنا بحمد الله نقاتل في سبيل الحق، وأنتم تقاتلون في سبيل الكفر الباطل، كما قال الله سبحانه في القرآن الكريم: ﴿ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقَٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱلطَّٰغُوتِ﴾[21]. يا إخواننا المسلمين نحن في هذه الحرب نأسف عليكم كثيرًا؛ لأنّ البارود أو السيف يقتل منكم ألوفًا ويقتل منا، لكنّ المقتولين من عندنا يدخلون الجنة يقينًا؛ لأنّهم يجاهدون تحت راية القرآن لنصرة الدين. أمّا المقتولون منكم فإنّهم يدخلون نار جهنم خالدين فيها قد خسروا الدنيا والآخرة. يا إخواننا المسلمين إذا كان الموت اليوم أمرًا لا بدّ منه فلنكن في نصرة الدين. إذا كان القتل أمرًا لا بدّ منه ففوزوا بأسلحتكم على كفّار عسكركم... هذه نصيحتنا نهديها إليكم إتمامًا للحجة عليكم فإنّكم إخواننا في الدين...الخ»[22]. والتحق عددٌ كبيرٌ من الجنود الهنود بتأثير العواطف الدينية وقاسوا في سبيل الوصول إلى صفوف المجاهدين مختلف المتاعب.

كانت معركة الشعيبة إحدى المحطّات البارزة في مقاومة الاحتلال البريطاني للعراق في بداياته، ورغم الحشد الكبير بجهود علماء الدين وشيوخ العشائر إلا أنّها شهدت نهايةً مأساويةً تمثّلت بانهيار القوات العثمانية والمجاهدين، فإنّ نقص التخطيط وسوء الإدارة العسكرية، إلى جانب الظروف الميدانية الصعبة، قادت إلى فشل المعركة.
فبعد تزايد الضغط البريطاني وتراجع القوات العثمانية، انسحب سليمان عسكري بك مع قواته إلى وادي كويبدة الواقع بين منطقتي النخيلة والشعيبة. كان الوادي بمنزلة الملاذ الأخير بعد فقدان الأمل في تحقيق النصر. إلا أنّ الانسحاب لم يكن منظمًا، حيث تبعثر الجنود، وانخفضت معنوياتهم بشكلٍ كبير، ما زاد من حدّة الفوضى في صفوف القوات [23].

في لحظةٍ حاسمةٍ ومأساوية، وبعد إدراكه للهزيمة المحقّقة وعجزه عن مواجهة الظروف المتدهورة، قرر سليمان عسكري بك إنهاء حياته. أقدم على الانتحار في وادي كويبدة، محاولًا بذلك التهرّب من تحمل مسؤولية الهزيمة ، بعد انتحار سليمان عسكري بك، تراجعت القوات العثمانية بالكامل، وسيطر البريطانيون على المنطقة. تركت هذه المعركة أثرًا بالغًا على سير الحرب في العراق، إذ عزّزت من هيمنة الاحتلال البريطاني وأضعفت المقاومة العثمانية والمجاهدين.
وثّقت مذكرات السيّد هبة الدين الشهرستاني الأسباب التي أدّت إلى الهزيمة، التي كان أبرزها:
سوء التخطيط العسكري: غياب خطة استراتيجية واضحة لإدارة المعركة أدّى إلى تراجع التنظيم بين القوات.
نقص الإمدادات: أدّى ضعف تجهيز القوات بالسلاح والذخائر والمؤن إلى إنهاك الجنود وعدم قدرتهم على الصمود.
فقدان القيادة: كان لانتحار سليمان عسكري بك دورٌ كبيرٌ في تفاقم الانهيار، إذ غابت القيادة العسكرية الفعّالة للقوات النظامية في لحظةٍ حرجة.

الثورة العراقية الكبرى (ثورة العشرين 1920)
بعد دخول القوات البريطانية بغداد في 11 آذار سنة 1917م، انتقل السيّد هبة الدين إلى كربلاء، ليبدأ من هناك مرحلةً جديدةً من النشاط الجهادي ضد الاحتلال. واتّفق ذلك مع انتقال الشيخ محمد تقي الشيرازي من سامراء إلى كربلاء من أجل قيادة حركة المقاومة والإعداد للثورة [24]. ولما استشعر الشيرازي في منتصف سنة 1919م ضرورة تأسيس مجلسٍ استشاريّ يستعين به على إدارة الأمور، بادر إلى ذلك، وتم تشكيل المجلس بعضوية عددٍ من العلماء الكبار، كان السيّد هبة الدين في مقدمتهم، فضلًا عن كونه رئيسًا لكتّاب الثورة في كربلاء [25].

ولم تكن الثورة حدثًا عفويًا ولد ساعته وظرفه، بل كانت لا تخلو من جذور الحركة القومية التي أدرك فيها القوميون العراقيون في المدن الكبرى ضرورة توثيق الصلة بالمشاعر العراقية، التي ترافقت مع الظروف الاجتماعية والسياسية والانتشار النسبي للتعليم الذي جعل من زعماء العشائر يدركون أنّ مشاكلهم الزراعية قد أصبحت جزءًا من الحياة السياسية الوطنية العامة [26].
ورجع السيد هبة الدين في بدايات الحركة القومية إلى المطالبة بحكمٍ دستوريّ في الدولة العثمانية إذ يقول: «عندما بدأ الأتراك يضطهدون العرب، كان علينا أنْ ندافع عن الحقوق العربية» [27]. وذكر السيّد كاطع العوادي والسيّد كمال الدين (وهما من القادة في ثورة العشرين) أنّ ثورة العشرين هي استمرارٌ للحركة القومية. ولهذا قلنا: إنّ تضامن الحركة القومية مع الشعور الديني فضلًا عن العوامل الأخرى من أهم مسببات الثورة. وبهذا تكون هذه الطروحات مختلفةً عمّا طرحه الكُتّاب الغربيون من عوامل تحرّك العشائر لمصالح ذاتيةٍ وأمورٍ أخرى قصدًا منها التقليل من قيمة المقاومة المسلحة التي جُوبه بها المحتلِّون من قبل الشعب العراقي.

وبينما كان العراقيون ينتظرون تحقيق الوعود التي أعلنها الجيش البريطاني من أنّه جاء إلى العراق منتدبًا محرِّرًا، لا فاتحًا مُستعبِدًا [28]، صدرت بلاغاتٌ رسميةٌ من سلطات الحلفاء المدنية والعسكرية، أهمها التصريح الفرنسي البريطاني، الصادر في 8 تشرين الثاني 1918 م، الذي جاء فيه: «إنّ الحكومتين الفرنسية والبريطانية اتفقتا على تأسيس حكوماتٍ وطنيةٍ للشعوب الحرّة التي هضم الترك حقوقها وتركت لها الخيار في تأسيسها حسب رغائبها» [29]. بعد ذلك جاء مؤتمر (سان ريمو) ليحطم تلك الوعود والآمال معًا في قرار مؤتمر الحلفاء في 25 نيسان سنة 1920م، الذي يفضي إلى وضع العراق وفلسطين تحت الانتداب البريطاني، وسورية ولبنان تحت الانتداب الفرنسي. إثر ذلك تضاعفت جهود العراقيين في المطالبة بحقوقهم المشروعة، وطفقوا يعقدون الاجتماعات السرية والعلنية في بغداد والنجف والموصل وكربلاء وغيرها من المدن العراقية لتُعلن شرارة الثورة العراقية الكبرى أو ما تعرف بثورة العشرين. التي كانت استمرارًا لنشاطات بدأت في التحالف القومي الديني الفلاحي أو العشائري، كتلك في التعاون بين جمعية النهضة الإسلامية [30]، التي كانت ترمي إلى مقاومة الاحتلال البريطاني، وحزب حرس الاستقلال الذي أسّسه مجموعةٌ من الشباب والذي كان من أهدافه الاستقلال المطلق للعراق، وبذل الجهود في إدخال العراق ضمن الوحدة العربية، وتوحيد العراقيين كافة بصرف النظر عن طوائفهم ومللهم، وبذل الجهود في إنهاء كافة الخلافات الناشئة عن اختلاف الأديان والطوائف. وفريق من العلماء، المعادين للنفوذ البريطاني الذي كونه الشيخ الشيرازي وابنه الشيخ محمد رضا في كربلاء، أمثال عبد الكريم الجزائري، وهبة الدين الشهرستاني، وصاحب الجواهر، ومحمد علي بحر العلوم، وأقامت هذه التكتلات علاقاتٍ نوعيةً مع جماعة الحرس من خلال اتصالاتٍ مستمرةٍ بوساطة محمد رضا وجعفر أبو التمن [31].

وقد تألفّت في كربلاء جمعيةٌ سريّةٌ في محلّة باب النجف، غايتها العمل ضد بريطانيا، سُمّيت (الجمعية الوطنية الإسلامية)، وكانت تحت إشراف محمد تقي الشيرازي، وبرئاسة سليله الشيخ محمد رضا، وعضوية السيد هبة الدين الشهرستاني، والسيد عبد الوهاب آل وهب، وعبد الكريم آل عواد، والسيد حسن القزويني، وعمر الحاج علوان وأخوته، عثمان، وطلعت الخيون، وعبد الهادي التبر، ومحمد علي أبو الحب، والشيخ محمد حسن أبو المحاسن. وأخذ أفراد هذه الجمعية يروّجون الاجتماعات، ويبثّون الدعاية الوطنية، ويعقدون لقاءاتٍ بين رؤساء العشائر وزعماء الفرات لإزالة ما أحدثته سياسة الاستعمار من ضغائن، فتوسّع نطاق الحركة الوطنية [32]. وكانت الجمعية تهدف إلى رفض الحكم الإنجليزي والمطالبة باستقلال العراق واختيار ملك مسلم له، وقد أصدر الإمام الشيرازي فتواه المشهورة بهذا الخصوص التي نصها: (ليس لأحدٍ من المسلمين أنْ ينتخب ويختار غير المسلم للإمارة والسلطة على المسلمين). وبعد أنْ أيّدت الفتوى من علماء كربلاء، أرسلت نسخ منها إلى مدن وعشائر الفرات الأوسط بهدف تحريضهم وتشجيعهم للانضمام والالتفاف حول الجمعية وأهدافها. وكانت هذه الفتوى من العوامل التي طورت وأثارت الوعي السياسي في العراق [33].
وبداية الأمر كان الشيرازي ينصح من حوله - ومنهم السيّد هبة الدين - بوجوب الإخلاد إلى الهدوء والسكينة، وعدم القيام بأيّةٍ حركةٍ تؤدّي إلى الإخلال بالأمن أو انتشار الفوضى. فلمّا أقدمت الحكومة على ما أقدمت عليه من قصف دواوين شيوخ العشائر وبيوت رؤساء العشائر المنتفضة، و أحرقت ديارهم، أصدر الشيرازي فتواه التي نصها: «مطالبتهم بالحقوق واجبة على العراقيين، ويجب عليهم ضمن مطالبهم رعاية السلم والأمن، ويجوز لهم التوسل بالقوة الدفاعية إذا امتنعت الإنجليز من قبول مطالبهم» [34]. وعند صدور هذه الفتوى أصبح أبناء البلاد في حالةٍ أخرى في طبيعة المطالبة بالحقوق، فتطوّرت إلى ثورةٍ مسلحةٍ امتدت من الرميثة يوم 30 حزيران سنة 1920م، وإلى معظم أنحاء الفرات الأوسط، ثم ديالى، وتلعفر، وأريبل، والرمادي[35].

وقد كان للسيّد هبة الدين دورٌ كبيرٌ في إعلان الجهاد في كربلاء في 6 آب سنة 1920م، والاتصال بشيوخ العشائر والتحرّك لطرد البريطانيين منها، والمساهمة في تشكيل إدارةٍ عربيةٍ بتوجيهٍ من الشيخ محمد تقي الشيرازي للنظر في شؤون المدينة. وكانت هذه الإدارة على شكل مجلسين: المجلس الحربي الأعلى الذي تألّف من رئيسٍ وأربعة أعضاء: السيد هبة الدين - وكان في مقدّمتهم - والسيّد أبو القاسم الكاشاني، والشيخ أحمد الكربلائي، ومحسن أبو طبيخ [36]، ونجل الشيخ محمد تقي الشيخ عبد الحسين. وانتخب هذا المجلس مجلسًا شعبيًا آخر عرف بالمجلس الملي، وكان ينظر في شؤون كربلاء، وما حولها من المناطق الإدارية، ويعمل على تنفيذ متطلّبات المجلس الحربي الأعلى، وكانوا يجتمعون كلّ يومٍ في بناية البلدية في كربلاء للنظر في شؤون الثورة.
كان هذا التنظيم للعلماء بمعية السيد هبة الدين الشهرستاني مهمًّا معنويًا وتجربةً متميزةً تبعتها باقي المدن كالنجف، حيث أسّس مجموعةٌ من العلماء مجلسًا بالتشكيل عينه لإدارة شؤون النجف، كما تشكّلت إدارةٌ مدنيةٌ من قادة حزب حرس الاستقلال في بعقوبة، وقامت برفع علم الثورة العربية [37].
عمل السيد هبة الدين خلال تلك المدّة على التواصل المباشر والتراسل مع الوجهاء والزعماء وقادة الحراك الثوري ضد الانكليز، وتوضّح الوثائق التي ينقلها لنا التاريخ تواصل السيد مع القادة كعبد الواحد سكر، ومحسن أبو طبيخ، وسيد نور السيد عزيز، والسيد علوان الياسري، وعلوان الشلال [38].
ممّا تقدّم، يتّضح الدور المحوري الذي كان يؤديه السيد هبة الدين الشهرستاني في التحضير للثورة العراقية الكبرى وتنظيمها، إذ لم يقتصر جهده على الدعوة إلى الجهاد ومواجهة الاحتلال البريطاني، بل تجاوز ذلك إلى العمل على توحيد الصفوف بين مختلف فئات المجتمع العراقي. اعتمد الشهرستاني نهجًا استراتيجيًا تمثّل في إشراك العلماء والوجهاء من المدن الدينية، ككربلاء والنجف، في مناقشة الأوضاع الراهنة ووضع خططٍ لمواجهة التحدّيات السياسية والاجتماعية.

كان الشهرستاني من أبرز الداعمين لفكرة تأسيس مجالس استشارية ولجان تنظيمية تعنى بقضايا الأمة، حيث قدّم رؤيةً شاملةً لنظامٍ دستوريّ يضمن الحقوق الوطنية ويحمي الهوية العراقية. كما حذّر من مخاطر الرضوخ للانتداب البريطاني، عادًّا الثورة مشروعًا يتطلب إعدادًا فكريًا وتنظيميًا لضمان نجاحها، وليست مجرد انفجارٍ شعبي.
وفي سياق تعزيز السيادة الوطنية، ساند فكرة الإدارة الذاتية المؤقّتة عبر المجالس المحلية، إيمانًا منه بقدرة العراقيين على إدارة شؤونهم بعيدًا عن تدخلات المحتلّ. هذا النهج الذي جمع بين الفكر والتنظيم يعكس بصيرة الشهرستاني وحرصه على تأسيس أرضيةٍ متينةٍ لبناء عراقٍ مستقلٍّ وموحَّد.
مع تصاعد الأحداث واندلاع ثورة العشرين، تحرّكت السلطات البريطانية لقمع الحركة الوطنية، فشنّت حملات اعتقالٍ ضدّ الرموز التي حرّكت الرأي العام. كان السيّد هبة الدين الشهرستاني أحد هؤلاء الرموز. وتشير الوثائق إلى أنّه في ليلة 19 تشرين الأول 1920م، أُلقي القبض عليه من قِبل البريطانيين في مرقد الحر بن يزيد الرياحي ، وحكم عليه بالإعدام، ولكن الحكم لم يثنه بالتخلّي عن رسالته؛ إذ عمل على إلقاء الدروس والمحاضرات على من كان معه فحوّل السجن إلى مسجدٍ حسب ما يذكره الخليلي في كتابه [39].

وقد أُطلق سراحه بعد إعلان العفو العام الذي صدر 30 أيار سنة 1921م، فذهب إلى كربلاء، وكان باستقباله جموعٌ من أهلها مرحّبين بعودة الثائرين سالمين، على وفق ما ينقله السيّد في مذكراته [40]. وذكر السيد هبة الدين أسماء من كان معه من رجال الثورة العراقية في سجن الحلّة المركزي بإرجوزةٍ نظمها اثناء تواجده في السجن [41]

العمل السياسي وجهاده في وزارة المعارف
مع تحوّلات العراق نحو الحكم الوطني ، برزت الحاجة الماسّة إلى بناء مؤسساتٍ وطنيّةٍ فاعلةٍ تسهم في إرساء الاستقلال الحقيقي وترسيخ الهوية الوطنية، ومن هذه المؤسسات التي كانت النخبة واعيةً لأهميتها هي قطاع التعليم. عند تشكيل أوّل وزارةٍ في العراق في 25 تشرين الأول سنة 1920م كانت وزارة المعارف التي تعنى بالتعليم مدمجةً مع وزارة الصحة، ولكن مع تشكيل الوزارة العراقية الثانية انفصلت وزارة المعارف عن الصحة، وكان المطلب الأساس هو إسناد الوزارات إلى شخصياتٍ وطنيةٍ تتمتّع برؤيةٍ ناضجةٍ ووعيّ عميقٍ بمصالح البلاد. وكان السيّد هبة الدين الشهرستاني من بين تلك الشخصيات البارزة، إذ اجتمعت فيه صفتان رئيستان: عمق في الفكر وسعة في العلم، من جهة، وصدق في الوطنية والحرص على مصالح البلاد وهويتها، من جهةٍ أخرى [42].

لقد رأى السيد هبة الدين أنّ قبوله منصب وزير المعارف في الحكومة الوطنية بتاريخ 27 أيلول 1921 سيتيح له «إسداء خدماتٍ جليلةٍ للمجتمع العراقي» [43]، كما سيُبعد الجوانب الفكرية والغربية التي قد تخترق بنيان الوزارة الناشئة ما جعل من تولّيه وزارة المعارف فرصةً لحماية البلاد من المخططات الاستعمارية وفق رؤيته لمفهوم الجهاد الفكري وفق ما تقدم سابقًا ، والارتقاء بالمؤسسة التعليمية إلى مصاف الإرادة الوطنية الصادقة.

الدور الإصلاحي للسيد هبة الدين في الوزارة
ما إنْ قبل السيّد هبة الدين منصبه في وزارة المعارف، حتى شرع بتنفيذ رؤيةٍ إصلاحيةٍ متكاملة. رأى أنّ الوزارة يجب أنْ تكون مثالًا حيًّا للإرادة الوطنية ، وانعكس ذلك في محاور عدة من عمله [44]:

تقليص نفوذ الأجانب وإبراز الصفة الوطنية:
حرص السيد الشهرستاني على الحدّ من وجود الموظفين البريطانيين في وزارة المعارف. ورفض تعيين ناظرٍ وخمسة معاونين بريطانيين، وأصرّ على أنْ يتقلّد العراقيون تلك المواقع. وقد كان يعدّ استمرار عمل الأجانب في الوزارة يعرقل مشاريع النهضة الوطنية، ويطيل أمد الهيمنة الثقافية والفكرية. وكان يرى أنّ وظائف وزارة المعارف الفنية والإدارية لا تحتاج إلى أجانب[45]. بهذه الخطوة، وضع حجر الأساس لتمكين الكوادر العراقية المؤهلة، وجعل الوزارة حاملةً للواء الاستقلال الوطني داخل المؤسسات التعليمية. وكان يرى أنّ استقلال التعليم جزءٌ لا يتجزأ من استقلال الدولة، وأنّه بلا معارف وطنية حرة، لن يكون هناك مجتمعٌ حرٌّ قادرٌ على مواجهة الاستعمار.

إحلال اللغة العربية محل الإنجليزية:
بعد هيمنة الإنجليزية لغةً رسميةً في الدوائر الحكومية، أصدر السيّد هبة الدين أمرًا إداريًا صارمًا وعاجلًا بإلزام موظفي وزارة المعارف باستخدام اللغة العربية حصرًا في المكاتبات والعناوين والوثائق. وأمر بتعريب الآلات الكاتبة، وإخضاع كلّ أشكال المراسلات والمعاملات لهذا القرار [46]. وفي تموز 1922 قدم السيد الشهرستاني طلبًا الى رئيس الوزراء لادخال اللغة العربية مادةً إجباريةً في المدارس الأجنبية وجعل وزارة المعارف هي المسؤولة عن تعليم اللغة العربية فيها [47]. يُظهر هذا الموقف إيمانه بأنّ اللغة العربية ليست مجرد أداة، بل هي حامل الهوية الوطنية وقاعدة النهضة الثقافية، وكان بهذه القرارات قد انتزع زمام المبادرة من نفوذٍ أجنبيّ، واستعاد عنصرًا أساسيًا من عناصر الشخصية العراقية المستقلة.

مقاومة تأثير المدارس الأجنبية:
لم يقتصر جهاده الإصلاحي على الكادر الإداري أو اللغة فحسب، بل امتدّ إلى التعامل مع المدارس الأجنبية في العراق. فقد اقترح إلغاء مساعدة هذه المدارس، رافضًا عدّها وطنيةً ما دامت إداراتها أجنبيةً أو خاضعةً لتأثيرات غير عراقية، مؤكدًا ضرورة توفير بيئةٍ تربويةٍ عراقيةٍ خالصةٍ، ولكن مجلس الوزراء رفض هذا المقترح بعد ملاقاته انزعاجًا شديدًا من المندوب السامي البريطاني[48]. وبالرغم من رفض المندوب السامي البريطاني لهذه الفكرة، إلا أنّ جرأة الطرح تعبّر بوضوحٍ عن خطّه المستقل، ورغبته في قطع كلّ صلةٍ تربويةٍ أو ماليةٍ بالكيانات الأجنبية.

التخطيط المالي والإداري للتعليم الوطني:
لم يغفل السيد هبة الدين عن ضرورة توفير الدعم المالي اللازم للوزارة؛ فطالب الحكومة بزيادة الميزانية المخصصة للتعليم. وفي مذكرةٍ رفعها إلى رئيس الوزراء، قال: «إنّه علم بأنّ نصيب المعارف من ميزانية 1922-1923 هو المبلغ نفسه الذي خُصص للوزارة السابقة، وأنّ ذلك يعني بقاء المعارف على حالها الحاضرة دون أيّ تقدم». وفي المذكرة نفسها وضّح السيّد الشهرستاني خططه في حال زيادة الميزانية المخصصة التي شملت: نشر التعليم في الأرياف بفتح مدرسة في كلّ قرية، وزيادة دور المعلمين، وبالتالي تخريج عددٍ أكبر من المعلمين، وضرورة فتح ثانوية في كلّ لواء، ومنح اللامركزية للبلديات في آليات التحكم بميزانيات تأثيث المدارس وتوفير الاحتياجات [49]
بهذا، وضع الحكومة أمام خيارين: أمّا النهوض بالتعليم وزيادة إمكاناته المالية، وأمّا الركود والتخلّف. ولم يكن الشهرستاني يسعى إلى زيادة الأرقام وحسب، بل إلى تطوير جوهر التعليم وتنويع فرصه، بما يضمن إعداد أجيالٍ مهيّأةٍ لمرحلة الاستقلال والبناء، لكن بسبب الضائقة المالية التي كانت تمرّ بها الحكومة لم تتمكن من تحقيق الزيادة التي قدمها ، لكن مذكرته كانت أساسًا في تطوير سياسات التعليم في العراق خلال الحكومات المتتالية [50].

الاهتمام بالبعثات العلمية واختيار الطلبة المؤهلين:
ضمن مخططه لإعداد كوادر تعليميةٍ ووطنية، شجّع السيد هبة الدين على إرسال الطلبة المتفوقين للدراسة في الخارج، شريطة انتقائهم بعنايةٍ وحرصٍ على (الالتزام الديني والأخلاقي وطلب العلم). وخاطب الطلبة قبل سفرهم، مانحًا إيّاهم نصائح قيّمةً تضمن عودتهم لخدمة بلادهم بعد إنهاء دراستهم[51]، وتوضح هذه المعاني رسالة الطالب حسن مصطفى البغدادي إلى السيد هبة الدين حين يقول فيها : «... استرحم اتحافي بكتابٍ مملوءٍ من النصائح المفيدة كالوصية التي أوصيتمونا بها عند سفرنا، ، كي نتخذ كتابكم مرشدًا وممثلًا ومراقبًا حاضرًا معنا…»[52]. هذا الحرص على تهيئة الجيل الجديد يعكس فهمه العميق للتعليم بوصفه مشروعًا وطنيًا طويل الأمد، لا يقف عند حدود الساحة المحلية، بل إنّ وجود المبتعثين يجعلهم سفراء لقضية استقلال العراق.

استقالته و مواجهة مشروع الانتداب البريطاني
لم يكن عمل السيّد هبة الدين في وزارة المعارف منفصلًا عن قضايا الاستقلال الكبرى. ففي الوقت الذي كانت فيه الحكومة البريطانية تماطل في منح الاستقلال الكامل، أكد الشهرستاني موقفه الثابت الرافض لأيّ صيغة انتدابٍ تُقيّد حرية العراق. وعندما عُرض موضوع تجديد الانتداب على مجلس الوزراء، ردّ بقوله: « نؤيد رابطة المعاهدة المؤيدة لاستقلال البلاد المصرحة بوجوب احترام سيادتها الوطنية … أمّا الانتداب فلِسنا نستطيع أنْ نقبله لعدم انطباقه على رغائب الشعب العراقي»[53]. فكان جليًا وواضحًا مطلبه في مواجهة الاستعمار وعدم الخضوع، وجهاده السياسي للوصول الى اعتراف حكومة بريطانيا بأنّ العراق دولةٌ مستقلةٌ ذات سيادة، وتعزيز عرش الملكية الدستورية في العراق. على الرغم من جهاده المستمر في وزارة المعارف، ودفعه باتجاه إصلاحٍ جذريّ في المناهج والإدارة والسياسات، فإنّ تمسّك بعض الأطراف بالصيغة الانتدابية وعدم الاستجابة الكاملة لمطالبه الإصلاحية دفعه في نهاية المطاف إلى تقديم استقالته. وفي نص الاستقالة يقول: «إنّ شعبنا العراقي الكريم الذي جاهد في سبيل تكوين حكومته الوطنية لا يهدأ روعه إلّا إذا وجد حكومته حرةً في أعمالها»[54]. برغم ذلك، بقي السيد هبة الدين في منصبه حتى تشكيل الوزارة الجديدة، وتأمين استمرارية أعمال المعارف، وبعدها سلّم حقيبة الوزارة لخلفه عبد الحسين الجلبي [55]، تاركًا وراءه إرثًا إصلاحيًا عظيمًا. لقد أرسى قواعد وزارة معارف وطنية، ركّزت على اللغة العربية والتراث الإسلامي والقومي، وعملت على تحصين الأجيال الناشئة من سموم التبعية.
في المحصلة، مثّل جهاد السيد هبة الدين الشهرستاني في وزارة المعارف فصلًا مهمًا في تاريخ العراق الوطني، إذ وضع البذور الأولى لنهضةٍ تعليميةٍ تنسجم مع روح الأمة وقيمها، وتُؤسّس لدولةٍ مستقلةٍ حقًّا، قادرةٍ على بناء مستقبل أجيالها بروح حرةٍ وذهنٍ يقظٍ وقّاد.

الخاتمة
تتّضح من مجمل هذا البحث معالم شخصيةٍ فريدةٍ تميّزت بوعيّ دينيّ عميق، ونضجٍ فكريّ موسوعي، ورؤيةٍ إصلاحيةٍ شاملة، تجلّت جميعها في مسيرة السيّد هبة الدين الشهرستاني. فقد واجه الشهرستاني حقبة تاريخية اتسمت بتعاظم النفوذ الاستعماري الأجنبي، وتراجع السلطة العثمانية، واختلال التوازنات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العراق. وفي مثل هذه الظروف المعقّدة، نهض الشهرستاني بوصفه عالمًا دينيًا موسوعيًا أفلح في توثيق الصلة بين تراث الأمة وأدوات العصر الفكرية والمعرفية، فلم يكتفِ بالتصدي للمحتل على المستوى العسكري أو السياسي وحسب، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، موسّعًا نطاق الجهاد ليشمل الأبعاد الفكرية والثقافية والاجتماعية.

لقد أدرك منذ وقتٍ مبكر أنّ الهيمنة الاستعمارية لا تنحصر في احتلال الأرض، بل تتجاوزها إلى استعباد العقول وتحريف الهوية الثقافية؛ لذلك، عمل الشهرستاني على بناء وعيّ جماعيّ مقاوم، مبنيّ على ركنين أساسيين: وحدة الصف الوطني، والارتقاء بالمستوى المعرفي والثقافي. إنّ حمله لواء التنوير الفكري، من خلال المجلات والمنابر والندوات، وتحذيره من استغلال الدين في خدمة المشاريع الاستعمارية، وتجديد فهم النصوص ضمن سياقها التاريخي والمعاصر، تمثّل جميعها وجهًا آخر لمعركة الاستقلال، لا تقل شأنًا عن المعارك الميدانية.

ولم تكن دعوته لوحدة الكلمة وتحصين الجبهة الداخلية مجرد دعوةٍ مثاليةٍ نظرية، بل تجسّدت فعليًا في توحيد جهود العلماء وشيوخ العشائر وتحريكهم لمواجهة المحتل، وصولًا إلى دوره المحوري في الإعداد لثورة العشرين والمشاركة فيها. ومع انتهاء تلك المرحلة وبدء تشكيل الدولة العراقية الحديثة، واصل جهاده بوعيّ ثاقبٍ في ميدان أكثر عمقًا وتأثيرًا، وهو التعليم؛ فمن خلال تولّيه حقيبة المعارف، بذل جهده لتعريب المؤسسات التعليمية، وإقصاء النفوذ الأجنبي، وبناء نظام تربوي يعزّز الهوية الوطنية، ويؤسّس لأجيالٍ قادمةٍ تحمي استقلال البلاد بقوتي الفكر والمعرفة.

إنّ تجربة الشهرستاني تلخّص معركةً شاملةً خاضها مفكّرٌ من طرازٍ رفيع: يدفع العشائر إلى ميدان القتال، ويُلهب مشاعر الطلبة على مقاعد الدراسة، ويسعى لإرساء دستورٍ وطنيّ يحمي البلاد من مشاريع الانتداب. بهذا النهج المتكامل، قدّم الشهرستاني نموذجًا للمثقف الفاعل والقائد المؤثر، الذي أدرك أنّ استقلال الأوطان لا يتحقق بإزاحة المستعمر فحسب، بل بتعزيز دعائم الثقافة والهوية واللغة والمؤسسات الوطنية. وبذلك ترك أثرًا بالغًا في فهم طبيعة الصراع الشامل ضد التبعية، واستيعاب أنّ مقاومة الاستعمار تبدأ من الذهن والقلم قبل أنْ تصل إلى البندقية والساحات.

الاستنتاجات:
شمولية مفهوم الجهاد: بيّن الشهرستاني أنّ الجهاد ليس قتالًا مسلّحًا فحسب، بل هو منظومةٌ متكاملةٌ من المقاومة الثقافية والفكرية والاجتماعية. فقد رأى أنّ إصلاح التعليم وترسيخ الهوية اللغوية والثقافية يُعدّان شكلًا من أشكال الجهاد ضد الاستعمار الفكري.
أهمية الوحدة والوعي الوطني: أدرك الشهرستاني أنّ الانقسامات الداخلية تسهّل على القوى الاستعمارية تنفيذ مخططاتها؛ لذلك دعا باستمرار إلى نبذ التفرقة وتعزيز التضامن بين مختلف الفئات الدينية والاجتماعية، وعدّ الوعي الوطني الركن الأساس في بناء حصانة المجتمع.
الدين قوة محرّكة للمقاومة والتحرّر: استخدم السيّد هبة الدين المرجعيات الدينية في تحريك الجماهير نحو الدفاع عن الأرض والعرض والدين. لم يكن الدين لديه أداة رجعية (كما يصفها بعضهم)، بل قوة تحرّرية تساند قضايا الاستقلال والكرامة الوطنية.
التعليم بوابة الاستقلال الحقيقي: رأى الشهرستاني في التعليم المفتاح لتغيير الواقع ومواجهة الاستعمار الثقافي؛ فسعى إلى تكوين نخبةٍ متعلمةٍ وواعية، قادرةٍ على صياغة المستقبل الوطني بمعزلٍ عن الهيمنة الأجنبية، وأدرك أنّ الاستقلال لا يكتمل إلّا عندما تنبعث إرادةٌ وطنيةٌ صادقةٌ من المؤسسات التعليمية.
الإصلاح الفكري والإداري شرط للنهوض: لم يكتفِ السيد هبة الدين بالرفض النظري للاستعمار، بل طرح الحلول، وأخذ بزمام المبادرة. فالإصلاح الإداري في وزارة المعارف وتعريبها ومحاربة الامتيازات الأجنبية في قطاع التعليم، وتوظيف الكوادر الوطنية، كلّها تدابير عمليّة تؤكّد أهميّة التحرّك الواعي والمنظّم.

الوثائق
وثيقة رقم 1: كتاب السيّد هبة الدين الشهرستاني الى شيوخ العشائر:
وثيقة رقم 2: نداء السيّد هبة الدين في استنهاض المجاهدين في 7 صفر 1333 هـ:
وثيقة رقم 3: رسالة مبدر الفرعون الى السيد الشهرستاني في 18 محرم 1333 هــ:

قائمة المصادر
الكتب والمطبوعات:
أحمد، إبراهيم خليل، تطور التعليم الوطني في العراق 1869 - 1932، مركز دراسات الخليج العربي، جامعة البصرة، 1982.
البهادلي، محمد باقر، السيد هبة الدين الشهرستاني آثاره الفكرية ومواقفه السياسية، بيروت، مؤسسة الفكر الإسلامي، 2002.
البصير، محمد مهدي، تاريخ القضية العراقية، مطبعة الفلاح، بغداد 1924.
الجعفري، رياض صالح، حسين الشعرباف، سيرة وذكريات، بغداد، 1999.
الحسني، عبد الرزاق، تاريخ العراق السياسي الحديث، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1979.
الحسني، عبد الرزاق، تاريخ الوزارات العراقية، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1988.
الخليلي، جعفر، هكذا عرفتهم، مطبعة الزهراء، بغداد،1963.
العلوي، محمد مهدي، نابغة العراق أو هبة الدين الشهرستاني، مطبعة الآداب، بغداد، 1929.
المس بيل، فصول من تاريخ العراق القريب، ترجمة جعفر الخياط، بيروت، دار الكتب، 1971.
الوردي، علي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، مطبعة الشعب، بغداد،1972.
الياسري، عبد الشهيد، البطولة في ثورة العشرين، مطبعة النعمان، النجف، 1966.
برو، توفيق علي، العرب والترك في العهد الدستوري العثماني 1908 - 1914، القاهرة، 1960.
الفرعون، فريق مزهر، الحقائق الناصعة في الثورة العراقية، مطبعة النجاح، بغداد، 1952.
لونكريك، ستيفن همفري، العراق الحديث، ترجمة وتعليق سليم طه التكريتي، مطبعة حسام، بغداد، 1988.

الصحف والمجلات:
جريدة الاتفاق، السنة الثانية عشرة، العدد 24، صيدا، 1922.
جريدة العدل، السنة الثامنة، صفر 1334 هـ.
جريدة الزهور البغدادية، صفر 1334 هـ.
جريدة المفيد، السنة الأولى، 17 نيسان 1922.
مجلة العلم، العدد الأول، جمادى الثاني 1328 هـ، النجف.

الوثائق والمخطوطات:
رسالة مبدر الفرعون إلى السيد هبة الدين الشهرستاني.
كتاب السيد هبة الدين الشهرستاني إلى شيوخ العشائر.
نداء السيد هبة الدين إلى المجاهدين.
مذكرات السيد هبة الدين الشهرستاني، مكتبة الجوادين العامة، بغداد.
مذكرات السيد هبة الدين الشهرستاني، بعنوان (سبب انتحار القائد العسكري)، مكتبة الجوادين العامة.
مذكرة وزير المعارف السيد هبة الدين إلى رئيس الديوان الملكي، ملفات وزارة المعارف العراقية.
مذكرة السيد هبة الدين حول التعليم الوطني، ملفات البلاط الملكي.

---------------------------------------
[1]. أستاذ الفكر السياسي الحديث والمعاصر.
[2]. العلوي، محمد مهدي، نابغة العراق أو هبة الدين الشهرستاني، ص٦.
[3]. بحري، لؤي، سكة حديد بغداد ، ص٧.
[4]. برو، توفيق علي، العرب والترك في العهد الدستوري العثماني (١٩٠٨- ١٩١٤)، ص٥٠٠.
[5]. مجلة العلم، مج١، ع٤، ص ١٥٦.
[6]. الوردي، علي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ج4، ص127.
[7]. المس بيل، فصول من تاريخ العراق القريب، ص12.
[8]. الياسري، عبد الشهيد، البطولة في ثورة العشرين، ص 68-69.
[9]. الشهرستاني، أسرار الخيبة في الشعيبة، ص١.
[10]. الياسري، البطولة في ثورة العشرين ص٦٩.
[11]. جريدة الزهور البغدادية، ع٧٠٦.
[12]. كتاب السيد هبة الدين الى شيوخ العشائر، انظر الوثيقة رقم ١.
[13]. نداء السيد هبة الدين الى المجاهدين في ٧ صفر ١٣٣٣ هـ، انظر الوثيقة رقم 2.
[14]. انظر الوثيقة رقم ٣ رسالة مبدر الفرعون الى السيد الشهرستاني.
[15]. مذكرات السيّد هبة الدين الشهرستاني، جهاد الشعيبة، ص٩٠.
[16]. فوستر، هنري، نشأة العراق الحديث، ج١ ص ٩٤.
[17]. الياسري، البطولة في ثورة العشرين، ص٧٢.
[18]. المصدر نفسه ص٧٤.
[19]. رسائل عجمي السعدون الى السيد هبة الدين قبل وصوله الى موقع الجهاد.
[20]. نديم، شكري محمود، حرب العراق ١٩١٤-١٩١٨م، ص٣٢ .
[21]. سورة النساء: 76.
[22]. جريدة العدل، السنة الثامنة، ع٤٨٩، ٥ صفر ١٣٣٤ هـ، نشرتها كاملة، وكان المنشور باللغتين العربية والهندية.
[23]. ملحق في مذكرات السيد هبة الدين بعنوان. (سبب انتحار القائد العسكري)، ص٣.
[24]. الشهرستاني، مذكرات، المجلد 2، ص 36.
[25]. الفرعون، فريق مزهر، الحقائق الناصعة في الثورة العراقية، ص82.
[26]. نظمي، وميض جمال عامر، التطور السياسي المعاصر في العراق، ص107.
[27]. المصدر نفسه، ص108.
[28]. المس بيل، فصول من تاريخ العراق القريب، ص105.
[29]. الحسني، عبد الرزاق، تاريخ العراق السياسي الحديث، ج1، ص42.
[30]. جمعية النهضة الإسلامية: جمعية سرية تشكلت في النجف في أواخر سنة 1917م، وكان يقودها الشيخ محمد جواد الجزائري والسيد محمد علي الدمشقي السيد إبراهيم الجزائري، والسيد محمد علي والسيد ابراهيم البهبهاني (من علماء الدين)،ومن بين اعضائها نجم البقّال، وكاظم صبحي، وعباس الرماحي، وعبد الرزاق وتومان عدوه، وكانت هذه الجمعية وراء ثورة النجف في أوائل سنة 1918م ضد البريطانيين.
[31]. الدراجي، عبد الرزاق، جعفر ابو التمن ودوره في الحركة الوطنية في العراق، ص103.
[32]. آل طعمة، سلمان هادي، تراث كربلاء، ص291-292.
[33]. الجعفري، رياض صالح، حسين الشعرباف، سيرة وذكريات، ص74.
[34]. الحسني، عبد الرزاق، الثورة العراقية الكبرى، ص106-107.
[35]. البصير، محمد مهدي، تاريخ القضية العراقية ج1، ص234-240.
[36]. الفرعون، فر يق المزهر، الحقائق الناصعة في الثورة العراقية سنة 1920، ص247-248.
[37]. نظمي، التطوّر السياسي المعاصر في العراق، ص113.
[38]. البهادلي، السيّد هبة الدين الشهرستاني أثاره الفكرية ومواقفه السياسية، ص171.
[39]. الخليلي، جعفر، هكذا عرفتهم، ج2، ص205
[40]. البهادلي، السيد هبة الدين الشهرستاني أثاره الفكرية ومواقفه السياسية، ص 181.
[41]. نورد هنا نص الأرجوزة ، شرحها والتعريف بالشخصيات ورد في المصدر السابق ص144-ص145.

هـاك أســامي نخـــبة الآفـاق
من حوكموا في نهضة العراق

ســـبع وعشرون شيوخ رؤسا
وستة من نسل أصحاب الكسا

هــم (هبــة الدين) لأجل الدين
وحبـــــــرنا الحسين من قزوين

والســــيد الوهاب مظهر الابا
والهـــــادي للحق الزيني النسبا

والمرشد الحسين من نسل الدده
خاتمــهم محـــمد ذو المحمده

أحصـى الشيوخ كمنازل القمر
هذا الدلــيـمي وذاك المــفتخر

اشــــخـير مــن آل أبو سلـطان
ثم الفتــــــى أمين أبو نعمان

ثـلاثة اســـــمهم ســــــــلمـان
والمحـــــسنان والفــــتى دوهــان

عمران ذاك الصـارم المصقول
علــــوان فيهم سيــفنا المسلول

والبر نجم كالســـماوي العابد
ولا فتـــى حرّ كعبد الــواحد

عــــــلي المــــزعل لـلأعــــاد
كخادم الغـــازي كذا عــــبادي

خضـــير العاصي عن التسليم
والشــــهم من كان كإبـراهـــيم

طلــــيفح الحر كذا فرحـــان
متعــــب أعـــدانا هو الرحـمن

عبد الجليل صــــــنوه العواد
والتاج عبد الرســــول الهــادي

وابن عـــنيد اســـمه عبــــود
وابـــن الصـــليلي الـفتى حمود

[42]. شيخ العراقين، كاشف الغطاء، نظرات في معارف العراق، ص83.
[43]. جريدة الاتفاق، السنة الثانية عشرة، ع24.
[44]. أحمد، ابراهيم خليل، تطور التعليم الوطني في العراق 1869 - 1932، ص124.
[45]. م.و.و.ملفات وزارة المعارف العراقية، مذكرة وزير المعارف هبة الدين الى رئيس الديوان الملكي جوابًا لكتاب الديوان المرقم 2/10/404 والمؤرخ في 14 اذار 1922 م. تاريخ المذكرة 29 آذار 1922.
[46]. الأمر الاداري الصادر من وزير المعارف في 10 كانون الثاني 1922، وقد اوردنا نصه كاملًا في كتابنا السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني آثاره الفكرية ومواقفة السياسية، ص188.
[47]. د.ك. و. ملفات البلاط الملكي، ت202/311، و80.
[48]. مذكرات السيد هبة الدين، ملفات المعارف، ص27.
[49]. د. ك. و. ملفات البلاط الملكي، ت202/311، و55، ص138.
[50]. أحمد، تطور التعليم الوطني في العراق 1869 - 1932، ص141.
[51]. العلوي، نابغة العراق أو هبة الدين الشهرستاني، ص15.
[52]. جريدة المفيد، بغداد، ع5-186.
[53]. د.ك.و. ملفات البلاط الملكي، ص3.
[54]. الحسني، عبد الرزاق، تاريخ الوزارات العراقية، ج1، ص114.
[55]. الحسني، عبد الرزاق، تاريخ الوزارات العراقية، ج1، ص155.