الباحث : گاي بارفيي
اسم المجلة : الاستعمار
العدد : 1
السنة : 2024م
تاريخ إضافة البحث : November / 2 / 2024
عدد زيارات البحث : 97
الملخص
يسعى هذا البحثُ من خلال المنهجِ التحليليّ إلى الكشفِ عن حقيقةِ الاستعمارِ colonisation، بتجريدِ الاصطلاح دلاليًا عن باقي الاصطلاحاتِ المرتبطةِ به كاصطلاحِ السيطرةِ (الهيمنة / (domination، والاستغلالِ ((exploitation، والاستيعابِ (assimilation)، كما يفرّقُ بين الاستعمارِ والاستغلالِ؛ ليصلَ إلى أنّ الاستعمارَ وسيلةٌ خاصّةٌ للهيمنة، فهو شكلٌ خاصٌّ من أشكالِ الاستغلال؛ فالاستعمارُ هوَ عمليّةُ استغلالٍ لجميعِ مواردِ البلد، يقومُ بها سُكّانٌ جُدُدٌ يستقرّون فيه ويشكلّون مجتمعًا تامًّا كاملًا.
وتناولَ هذا البحثُ العديدَ من الأمورِ المهمّةِ والدقيقةِ، أهمّها موقفُ الاستعمارِ من السكّانِ الأصليينَ، كإشراكهم في مشروعه، أو إقصائهم وطردهم، أو استيعابهم كإيدٍ عاملة. والإقصاءُ في نظرِ الباحثِ، هو النّمطُ الأساسيُّ للعلاقاتِ بين الاستعمارِ (colonisation)، والسّكّانِ البلديّينَ الأصليّين؛ لأنّ المستعمراتِ الكبرى الحقيقيّةَ، الأشدَّ كثافةً سُكّانيّةً، لا تحتاج إلى السّكّانِ البلديّينَ الأصليّين، الذين يمثّلون أقليّةً ضئيلةً، ويُمكن نظريًّا ألّا يكونَ لهم وجودٌ. ويعدُّ المستعمِرُ المستوطِنُ الأرضَ شاغرةً، غيرَ مشغولةٍ، وهذا يُتيح له استغلالُها، واستعمارُها كما يريد. وفي البحثِ موضوعاتٌ عديدةٌ أُخر، سوف تطّلعُ عليها مفصّلًا في تضاعيفه.
الكلمات المفتاحية: الاستعمار، الاستغلال، الهيمنة، الثورة، الإقصاء، العُنصريّة. إنّ «الفكرة الاستعماريّةَ»، (idée coloniale) في فرنسا كما في غيرها، تتميّز بأدنى درجات الوضوح والجَلاء، ولا تسير نحو مزيدٍ من الوضوح، بل هي، على العكس من ذلك، تزداد إيغالًا في الغموض.
«الاستعمار»[2] (colonisation)، و»الاستعمارويّة» («النّزعة الاستعماريّة / (colonialisme، و»الامبرياليّة» («الاستكبار» / (impérialisme، إليكم البعض من المصطلحات التي تُستعمل بغموضٍ بدرجاتٍ متفاوتةٍ، والتي يمثّل تجميعُها رُكامًا خليطًا دلاليًّا ذا حدودٍ مُبهَمةٍ.
«ما المقصودُ؟»: لا أحدَ يسأل هذا السّؤالَ؛ لأنّ المفروضَ أنّ الجميع يملكون الجوابَ عنه؛ كلٌّ يحمل في ذاته جوابَه الخاصَّ به، الذي هو على قدرٍ كبيرٍ من الذّاتيّة وعلى قدرٍ متدنٍّ من الدِّقّة بحيثُ يبقى غالبًا مُضْمَرًا. من أجل ذلك نلحظ أنّ المناقشاتِ بين «أنصار الاستعمار» (colonialistes) و»الـمُعادين للاستعمار» (anticolonialistes)، مثلًا حول القضيّة الجزائريّة [الاستعمار الفرنسيّ]، أو في زمنٍ أقربَ إلينا، حول «الطابع الاستعماريّ» لدولة إسرائيل[3]، قد أخذت صبغةَ الجدال الفوضويّ العقيم. لكنْ مَنْ في زمننا هذا، يجرُؤ على التّصريح بأنّه من «أنصار الاستعمار»[4]؟ لقد فقد الاستعمارُ صيتَه وهيبتَه؛ إنّه الآن وصْمةُ عارٍ. وعلى الرّغم من ذلك فإنّ الاستعمارَ مجهولُ الحقيقة واقعًا.
عندما نسمع كلمةَ «استعمار» (colonisation) تسبق إلى أذهاننا «السّيطرة» (الهيمنة / (domination، وهذه الأخيرة تستبطن «الاستغلال» (exploitation). حتّى أنّ الاستعمار، الـذي يكثر الكلام حوله، لم يُفكَّر فيه أبدًا. وبسبب هذا اللَّبْس المتواصل فإنّ الاستعمار هو الحالةُ المعاكسةُ لحالة الألزاس-اللُّورانْ (Alsace-Lorraine) بعد معاهدة فرنكفورت: «نتكلّم عنها دائمًا، ولا نفكّر فيها البتّة!...»
نحن ضائعون طوْعًا في متاهة التّصنيفات المتعلّقة بـالاستعمار، بأنواعه المختلفة وبمنظوماته المتعدّدة: هي تصنيفاتٌ اقتصاديّةٌ، وقانونيّةٌ، وتاريخيّةٌ... يبدو أنّ الاستعمار من الأمور التي يتعذّر تعريفُها، مثل الكهرباء، إلّا من خلال مظاهرها وآثارها! هل من الشّطط أنْ نطالب بتعريفٍ نظريٍّ واضحٍ قادرٍ على حصر كلّ الحالات الخاصّة للاستعمار في صيغةٍ جامعةٍ بسيطةٍ؟ إذا ما تعذّر علينا إرجاعُ تشكيلة «الظواهر الاستعماريّة» (phénomènes coloniaux) المتنوِّعة إلى هذه الوحدة الجميلة، فينبغي، على الأقلّ، أنْ نُشخِّصَ اثنين أو أكثرَ من العناصر الأساسيّة، التي يُمكِّننا توليفُها من إعادة بناء «الحالات الاستعماريّة» (colonialismes) المرصودة تاريخيًّا. في هذه الفرضيّة يُخشى أنْ يكون كلُّ اقتراحٍ عامٍّ متعلّقٍ بـالاستعمار خاطئًا في عموميّته، مع أنّه يمكن أنْ يكون صحيحًا جزئيًّا.
في الماضي فقط، وجدنا بعض الأمثلة المشجِّعة لهذه المنهجيّة التّحليليّة. يُميِّز مقالُ «مستعمرة» (Colony)، في «الموسوعة البريطانيّة» (Encyclopaedia Britannica)، طبعة سنة 1877، يُميّز بشكلٍ قاطعٍ بين نوعَيْن من الاستعمار (colonisation)، واحد منهما فقط يتوافق مع هذا المفهوم. بعد ذلك، نجد أنّ جُول هارْمنْد (Jules HARMAND)، مستوحِيًا من المفهوم البريطانيّ نفسِه، يخصّص اسم الاستعمار (colonisation) لما يُطلَق عليه بشكل عامٍّ اسم «استعمار الإسكان» («استعمار التّوطين» /(colonisation de peuplement، وذلك في كتابه، المنشور سنة 1910م، السيطرة والاستعمار (الهيمنة والاستعمار / (Domination et Colonisation. ثم من بعده، ميّز جورج هارْدِي (Georges HARDY)، مثلًا، بين «الطّابع الاستعماريّ» (aspect colonial) و «الطّابع الامبرياليّ (الطّابع الاستكباري» / (aspect impérial. لكنْ، وللأسف، لم يترسّخ هذَان الـمَثَلان فيكونا قدوةً علميّةً للباحثين، وبإمكاننا، ومن خلال مقال «مُستعمَرة»، في الموسوعة البريطانيّة نفسِها، الـمُحيَّن في طبعة 1969، أنْ نرصد مدى الانحدار الحاصل في الأفكار الواضحة ومدى ازدياد الخبل (الاختلاط العقليّ / (confusion mentale، في عالَمنا المضطرب أكثرَ من أيِّ زمنٍ مضى.
من أجل ذلك أرى أنّه من الواجب علينا أنْ نستعيد هذه المنهجيّةَ التّحليليّةَ، وأنْ ندفعَ بها إلى مدًى أبعدَ. سوف نسعى للقيام بـ»تحليلٍ طيفيٍّ شاملٍ» (analyse spectrale) للرُّكامِ الخليطِ الدّلاليّ. سوف يمكّننا هذا التّحليلُ من التّمييز ليس بين عنصرَيْن أساسيَّيْن فقط، بل بين أربعة عناصرَ[5]، يُؤْمَلُ أنّ التّوليف بينها يكفي لإعادة رسم الفروق الدّقيقة بين الظّواهر الملحوظة. هذه العناصر هي:
السيطرة (الهيمنة / domination)،
الاستغلال (exploitation)،
الاستعمار بحصر المعنى (colonisation proprement dite)،
الاستيعاب (assimilation).
وهكذا يصبح بإمكاننا أنْ نميّز الاستعمارَ(colonisation) من الظّواهر المرتبطة به، والتي غالبًا ما يقع الخلط بينه وبينها، تمامًا كما يخلّص سَبّاكُ المعادنِ المعدنَ من الشّوائب.
من الخطأ أنْ يجنحَ ظنُّ البعض إلى أنّ هذا المشروعَ النّظريَّ الذي يروم «إضفاء معنًى أكثرَ وضوحًا على كلماتٍ مألوفةٍ عند أهل الاختصاص» (donner uns sens plus pur aux mots de la tribu)، يندرج تحت هوَسٍ نرجسيٍّ صادرٍ من صَفائيٍّ (puriste) هاوٍ لفنّ التأصيل اللّغويّ، أو من «مُجرِّدٍ خالصٍ» (abstracteur de quinte essence). نحن ندرك جيدًا أنّ الكلماتِ لها تاريخٌ، وأنّها تغتني (تتطوّر) أو تبلى بالاستعمال؛ لكنّ الكلماتِ، التي نتكلّم عنها هنا، قد تآكلتْ عبر تاريخها إلى درجة أنْ لم يبقَ لها سوى مظهرٍ خادعٍ من المعنى. نحن نسعى، تحديدًا، إلى إعادة معنًى إلى كلماتٍ صارت جوفاءَ خاويةً من المعنى (flatus vocis). من أجل تحقيق ذلك من الضّروريّ أنْ نبحث عن الظّروف التّاريخيّة التي حصل فيها هذا التّآكل الدّلاليّ. كيف تكوّنت الفكرةُ الملتبسةُ عن الاستعمار (colonisation) التي نسعى إلى توضيحها؟ لماذا صمدت فاستمرّت إلى أيامنا هذه؟ هل إنّ النّاسَ قليلو الاهتمام بالتفكير من خلال مصطلحاتٍ صحيحةٍ ودقيقةٍ؟
أوّلا، يجب أنْ نُزيحَ عن عقولنا غشاوةَ الوهم حول هذه النّقطة: لقد حافظ اللَّبْسُ على وجوده في العقول؛ لأنّه يخدم مصالح الصّائدين في المياه العكرة.
«إحدى الأساليبِ الأكثر شيوعًا التي تنهجها الظّلاميةُ المعاصرةُ تتمثّل في اللّعب على الغموض المقصود الذي أُلْقيت في غَيابَته المفاهيمُ المستعملةُ. مقابل هذا النّزعة، يجب علينا أنْ نعود إلى متطلّبات القرن الثّامن عشر، أيْ إلى المتطلّبات الحقيقيّة لكلّ عملٍ علميٍّ جديرٍ بهذا الاسم: أنّ نُعرِّفَ، دائمًا، الكلمات التي نستعملها، وألّا نستعملَها إلّا في المعاني التي قد سبق أنْ وُضعت لها وذُكِـرتْ في تعريفها»[6].
لا يمكن لعلم التّاريخ ولعلم السّياسة، إنْ أرادا أنْ يكونا عِلمَيْن حقًّا، أنْ يظلّا تابعيْن خاضعيْن للمصطلحيّة الإيديولوجيّة.
تمثّل السيطرةُ (الهيمنة)، والاستغلالُ، والاستعمارُ (colonisation)، والاستيعابُ جوانبَ متكاملةً من ظاهرةٍ قديمةٍ قِدَم التّاريخ البشريّ: هي ظاهرة توسُّع المجتمعات والحضارات. لقد كسرتِ البشريّةُ حاجزَ الانغلاق القَبَليّ من خلال التمدّد العُنفيّ أو السِّلميّ، ووسّعتْ آفاقَها إلى مدًى يشمل مجموعاتٍ كبيرةً متّحدةً في حضارةٍ جامعةٍ واحدةٍ، إلى أنْ وصل الأمر بالبشريّة إلى الحالة الحاضرة لعالَـمٍ مُوحَّدٍ تقنيًّا من خلال وسائل التّواصل السّريعة، مع أنّه لا زال مُقسَّمًا من جهة المصالح والأفكار[7]. إنّ التوسّعَ الأوروربيَّ، الذي استمرّ بعنادٍ من القرن الخامس عشر إلى القرن العشرين، هو السببُ الأساسُ لهذا العبور إلى المدى العالمي؛ لكنْ، هذا لا يعني أنّه لم تحدث عمليّاتُ توسُّعٍ في ما سبق من تاريخ البشريّة، وأنّه لنْ تحدثَ عمليّاتٌ أخرى في المستقبل.
السّيطرةُ (الهيمنةُ) هي سلطةُ السّيد (dominos) المطلَقة على عبيده. وتُرادفها في المعنى، تمامًا، كلمةُ التسلّط (السّطوة / (empire, imperium، [ومنها أُخذ اسمُ الإمبراطوريّة / empire]، التي هي السّلطة غير المشروطة للقائد العسكريّ على جنوده، وتوسُّعًا في المعنى، تُضافُ سلطتُه على أعدائه المغلوبين. وهكذا، فإنّ الإمبراطوريّة (empire)، في العلاقات الدّوليّة، هي كيانٌ سياسيٌّ قائمٌ على الغزو العسكريّ، وعلى توطيد وجوده باستعمال القوّة العسكريّة، أو بمجرد استعراضها والتّلويح باستعمالها للتّرهيب. يمكن أنْ يتحوّل تحالُفٌ معقودٌ طوعًا إلى تسلُّطٍ: هكذا كانت الإمبراطوريّةُ الأثينيّةُ، أو الإمبراطوريّة الرّومانيّة في بداياتها. تُعرِّف الإمبراطوريّةُ نفسهَا بتعدّد الشّعوب والدّول القديمة التي تجمعها تحت سلطتها. من بين تلك الشّعوب يُوجَد عمومًا شعبٌ واحدٌ يجب تمييزُه عن البقيّة: إنّه الشّعبُ الغازي، الذي تأخذ الإمبراطوريّةُ منه اسمَها: الإمبراطوريّة الفارسيّة، الإمبراطوريّة الرّومانيّة، إمبراطوريّة الصّين (تْصِنْ / (Tsin، الإمبراطوريّة العربيّة، إلخ... [!]
يتسبّب تكوينُ الإمبراطوريّة في مشكلةٍ سياسيّةٍ، هي مشكلةُ وحدة المجموع المكوَّن بهذه الطّريقة. هل يجب الحفاظ على امتياز الشّعب الغازي، الغالِب، في العلاقة بكلّ الشّعوب الأخرى المغلوبة؟ سوف ينتج عن ذلك إمبراطوريّةٌ غيرُ متجانسةٍ (hétérogène) وهشّةٌ؛ لأنّ الصّرحَ الـمَشِيدَ على القوّة والفاقدَ للحسّ السّياسيّ العامّ (conscience politique commune) سوف يكون مهدَّدًا بالتفكّك منذ أنْ تفقدَ القوّةُ الغازيةُ سلطتَها، أو أنْ تغلبَها جهةٌ أخرى أقوى منها. أو هل سيتمّ، تدريجيًّا تصاعديًّا، بسْطُ وضعِ الشعب الغالبِ واسمِه إلى مجموع مواطنينه؟ وهكذا سوف يتكوّن جسمٌ سياسيٌّ جديدٌ، لن يحتفظ من الإمبرطوريّة سوى باسمها، وسوف يُصبح واقعًا أمّةً جديدةً، أوسع جغرافيًّا، وأشدًّ قوّةً من كلا الكيانَيْن السّابقَيْن. ظلّتِ الأمبراطوريّةُ الرومانيّةُ نموذجًا مثاليًّا لمثل هذا التّطوّر في الذاكرة الجماعيّة للشّعوب الأوروبيّة: منذ الدّستور الأنطونيّ لسنة 212 (مرسوم كاراكالّا / (édit Caracalla، تحوّلتِ الإمبراطوريّةُ الرّومانيّةُ (Imperium Romanum) إلى رومانيا (Romania)، ولقد رثا سقوطَ روما سنة 410 الغاليُّ (من بلاد الغال / (Gaulois روتيليس ناماتيانوس (Rutilius Namatianus) بعباراتٍ لا تُنسى: «لقد كنتِ مدينةً (عاصمةً) لما كان في ما مضى عالَمًا بذاته» (Tu urbem fecisti ex quo orbis erat / Tu as fait une Ville de ce qui était auparavant un Monde). في الطّرف الآخر من العالَم، كانت الإمبراطوريّةُ الصّينيّةُ تمثّل النّموذجَ المثاليَّ نفسَه للدّولة التي تجمع في كيانها الموحَّد أغلبَ ما كان يبدو أنّه هو العالَم أجمعَ.
في الحقيقة، يبدو أنّ الخاصيّةَ المميِّزةَ للإمبراطوريّات هي السّعي لتحقيق مشروعٍ ذي مدًى عالميٍّ. هو مشروعٌ مُفارِق (غريبٌ غير معقول / (paradoxal، كما أنّ فاعليّته لم يتمَّ إثباتُها من خلال التّجربة بشكلٍ تامٍّ بعدُ. وذلك يعني بكلّ بساطةٍ، السّعيَ لفرض السّلام بتوسّل الحرب. لقد عرض شارل بيگْوِي (Charles PGUY) هذا الموضوعَ، في كتابه «فيكتور ماري الكونت هيگُو» (Victor Marie comte HUGO)، وذلك في رثائه للقائد العسكري أرْنسْتْ بسيشاري (Ernest PSICHARI):
«لاتينيٌّ، رومانيٌّ، وريثٌ للسلام الرّومانيّ... رومانيٌّ وريثٌ للقوّة الرّومانيّة، رومانيٌّ وريثٌ للقانون الرّومانيّ... صانعٌ للسّلام، بانٍ مؤسِّسٌ، منظِّمٌ مدبِّرٌ، مُقنِّنٌ، متكلِّمٌ ذو حُجّةٍ...، أنت صانعُ السّلام، الذي أرسى السّلامَ تحت ظلال السّيف، وهو السّلامُ الوحيدُ الذي يصمد، والوحيدُ الذي يدوم، والوحيد المأمون في النهاية هو في الحقيقة السّلامُ الوحيد الشرعيُّ وسليمُ المعدن؛ أنت الذي يعرفُ ما يعني السّلامُ المفروضُ، ويعرف كيف يفرض السّلامَ، وسيادةَ السّلام؛ أنت الذي يحفظ السّلام بالقوّة، «أنت الذي يفرض السّلام بالحرب» (bello pacem qui imposuisti)؛ وأنت الذي يعرف أنْ لا سلامَ صلبًا وثابتًا إلّا ما كان مفروضًا بالقوّة، وإلّا الذي تحفظه الحربُ، ومن دون حاجةٍ لاستعمال السّلاح؛ أنت الذي صنع السّلام بالأسلحة، وفرضَه، وحفظه بقوّة الأسلحة...[8]
اقترح الأمريكـيُّ جيْمسْ بورْنْهامْ (James BURNHAM) على بلده أنْ يلعب هذا الدّورَ الإمبرياليَّ (الاستكباريَّ)[9]. لكنّ رؤساءَ الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وإنْ كانوا منذ ثلاثين سنة يلعبون دورَ «دَرَكِيِّي العالم» (gendarmes du monde)، لا يحبّذون بتاتًا عبارةَ «الإمبراطوريّة الأمريكيّة»، بل يحبّذون اسم «القائد» (leadership). «القائدُ» يعني «الهيمنة» (hégémonie)، وهي العبارة التي نعتهم بها الجنرال ديغول (de GAULLE)، والتي تعني إدارة تحالفٍ. كان اليونانيّون القدامى يميّزون بوضوحٍ، قبل انتصار إسبرطة على أثينا، «هيمنة» اللّاسيدوميّين (الدّوريّين / الإسبرطيّين القدامى(lacédomiens / المحترمين، مِن سيادة حلفائهم، ومن الحلف (arche) الذي فرضه الأثينيَون على المدن التّابعة لهم. لكنْ، كما يُثبت مثال أثينا، ومثال إسبرطة بعد انتصارها، يمكن أنْ يتحوّل حلفٌ إلى إمبرطوريّةٍ، وعبارةُ «الإمبرياليّة الأمريكيّة» أصبحتْ شائعةً في أوساط اليسار، تمامًا مثل عبارة «الإمبرياليّة السوفياتيّة» في أوساطٍ أخرى.
يمكننا أنْ نعرّف الإمبرياليّة (الاستكبار) بأنّها سياسةٌ تهدف إلى غزو الآخرين، تمارسها إمبراطوريّةٌ بنحوٍ واعٍ ومتعمَّدٍ. هكذا شخّص هاينريش فريديُونْگْ (Heinrich FRIEDJUNG) «عصرَ الإمبرياليَّة»: «تصبح الرّغبةُ في القوّة واعيةً، ولهذا فهي ترقى إلى درجة دافعٍ للحركة»[10]. وعلى العكس من ذلك، يرى رايمون آرون (Raymond ARON) أنّ قوّةً عظمى يمكنها أنْ تُطبّق سياسةً «تسلّطيّةً» (impériale) من دون قصدٍ «إمبرياليٍّ» (impérialiste)[11].
لقد طال الجدالُ في محاولة معرفة التّاريخ الذي كفّ فيه التوسُّع الرومانيُّ عن كونه عَرَضيًّا (fortruit) ليصبح منهجيًّا (systématique)؛ يزعم البعضُ أنّ الإمبراطوريّةَ البريطانيّةَ كانت قد غُزِيَتْ «في حين نوبةٍ من الذّهول وشرود الذّهن» (in a fit of absentmindedness). يُصوَّر التكوُّنُ غيرُ الإراديِّ للإمبراطوريّات، بشكل عامٍّ، كحالاتٍ تحصل بعد وقوع حروبٍ دفاعيّةٍ أو هجوماتٍ وقائيّةٍ، الغرضُ الوحيدُ منها هو حمايةُ الحدود بتحسين الوضع الأمنيّ للحدود. أدان ليونارْد هوبْهَاوْسْ (Leonard HOBHOUSE)، في كتابه الدّيموقراطيّة وردّ الفعل (Democracy and reaction)، المنشور سنة 1904، أدان هذا التّفسيرَ الذي يُلْقي بالمسؤوليّة في وقوع الغزو على الشّعب الـمَغْزُوّ:
«يجد الـمُراقبُ المتتبّعُ المتحيِّرُ، الذي ينتظر بلا جدوى حدوثَ هذا السّلامِ البريطانيِّ الموعودِ طويلًا، يجد نفسَه في مواجهة تسلسُلٍ لا ينتهي إلى حدٍّ من الحروب الحدوديّة، التي تتفاوت في ضراوتها وخطورتها، والتي تنتهي جميعُها بضمّ أراضٍ جديدةٍ. تحت سلطة الإمبرياليّة، «معبدُ جانوس لم يُغلِقْ أبوابَه أبدًا». ولمْ تكفَّ الدماء عن السّيلان، ولم تكفَّ العيونُ الثّكلى عن بكاء الموتى. يقينًا، في كلِّ حالةٍ كان يُذْكَر تبريرٌ رائعٌ. نحن دومًا في حالة دفاعٍ في حروبنا. لم تكن لنا نيّةٌ للدّخول في الحرب. نعم لقد دخلنا الحرب، لكنْ لمْ يكن في نيّتنا احتلالُ أرضِ العدوِّ المغلوب. صحيحٌ أنّنا قد احتللنا أرضَه بشكلٍ مؤقَّتٍ، لكنّنا لا ننوي ضمّها. لقد ضممناها، لكنْ لقد كنّا على يقين منذ البداية أنّ سيرورة الأحداث كانت غيرَ قابلةٍ للتجنّب، وأنّ ما حصل كان قدرًا محتومًا. في جميع الحالات كنّا نقوم بحربٍ دفاعيّةٍ، وفي جميعها كانت الأحداثُ تنتهي بنا إلى احتلال أرض جيراننا المعتدين علينا.
هذه هي القصّةُ الخياليّةُ (fiction) التي تُدْعَم رسميًّا. والحقيقةُ هو أنّنا ننهجُ سياسةً حربيّةً هجوميّةً على نطاقٍ واسعٍ وبمثابرةٍ كبيرةٍ، وبأنّنا، لـمّا نجتهد في إغماض أعيننا باستمرارٍ، نكون قد نجحنا في خداع أنفسنا أو بعبارةٍ أبسطَ، نكون قد نجحنا في تقديم الدّليل على نهجنا السياسيّ المتخم بالنّفاق، والأشدّ إجرامًا من محكمة فاقدةٍ للعدالة»[12].
إنّ صعوبة ترجيح أحد هذَين التّفسيريْن على الآخر هي بمقدار كون الاختلاف بين الدّفاع والاعتداء ليس دائما جليًّا. في الواقع، وكما أشار هانْسْ دلْبرُوكْ (Hans DELBRÜCK) و سيمونّْ ڥَيْلْ (Simone WEIL)، إنّ الأمن المطلق بالنّسبة للبعض يستتبع اللّاأمنَ المطلق بالنّسبة للآخرين، والعكسُ صحيحٌ.
إذا ما كانت الإمبرياليّةُ تتميّز بالوعي بالذّات والإحساس بها، تصبح هذه السّياسةُ بحاجةٍ إلى تبريراتٍ إيديولوجيّةٍ. يمكن أنْ تكون هذه التبريراتُ ذاتيّةً (عِرقيّةً”ethniques” ، وقوميّةً “nationalitaires”، ووطنيّةً “nationales”، أو دينيّةً بمعنى الدّين العِرقيّ “religion ethnique”) أو خَلاصيّةً كونويّةً (universalistes) (توسيع مجال الدّين الصحيح، رسالة الحضرنة “mission civilisatrice”، توحيد العالَم)، أو تكون التبريراتُ من النوعيْن معًا. والإمبراليّة، ككلّ نهجٍ سياسيٍّ «استكباريٍّ تسلطيٍّ» (impérial)، ومُحدَّدٍ بالظّروف، يجب أنْ يمنح امتيازاتٍ في شكل عطايا مادّيةٍ، ولو في حدود ما يعوّض عن التّضحيات في الأرواح البشريّة والخسائر الماديّة التّي يتسبّب فيها. الغنائمُ، والفديات أو غرامات الحرب، وأموال الجزية، والضّرائبُ، الماليّة أو العينيّة أو التي في شكل عملٍ، المفروضةُ على المغلوبين، والوحدات العسكريّة التي توضَع في خدمة الجيش الغازي المنتصر، ذلك كلُّه ليس بالفوائد البسيطة. الأمنُ نفسُه، لو كان غرضًا مقصودًا ومتَّبعًا عمليًّا، هو امتيازٌ ملموسٌ في شكل تأمينٍ ضدّ الخسائر النّاتجة عن أيّ غزوٍ محتمَلٍ من الأعداء.
يُضاف إلى الفوائدِ غير الرسميّة، التي تنتج عن الغزو، الفوائدُ العاديّةُ الآتيةُ من استغلال المقاطعات الـمَغزُوّة، نظرًا إلى أنّ نفقات السّيادة عليها لا تتجاوزها. لقد أصبح من الأفكار العامّة المبتذَلة أنّ استغلال الأراضي الـمَغزُوّة يُؤدّي إلى إثراء الشّعب الغازي، بما يؤدّي إلى حدوث تحوّلٍ في العلاقات الاجتماعيّة والسّياسيّة في وسط هذا الأخير. في أثينا مكّن هذا الاستغلالُ من تطوير الديموقراطيّة بفضل الميستوُيْ (misthoi)، التي هي تعويضاتٌ ماليّةٌ وظيفيّةٌ كانت تُدفع إلى أعضاء الجمعيّات والمحاكم. في روما مكّن هذا الاستغلالُ العائلاتِ الكبرى الباتريسيّة (patriciennes) والبليبيّة (plébéiennes) من الإثراء، مع تأمين الهِبات والخبز والألعاب للجماهير العاطلة عن العمل. وفق المثال الرّومانيّ، وعلى الرّغم من المثال الأثينيّ، من المسلَّم به، بشكلٍ عامٍّ، أنّ ممارسةَ سلطةٍ غير محدودةٍ عل شعوبٍ أخرى يصيب السّياسةَ الدّاخليّةَ للدّولة الغازية بالعدوى، فتصبح سلطةً طاغوتيّةً: «الشعب الذي يضطهد شعبًا آخَرَ هو شعبٌ غيرُ حرٍّ»، حسب كارل ماركس (Karl MARX). يبدو، على أقل تقديرٍ، أنّ ممارسة السّلطة التسلّطيّة (الاستكباريّة) في نظلم حكمٍ ديموقراطيٍّ يطرح العديد من المشاكل: كان يُوجد، في الإمبراطوريّة الفرنسيّة، تناقضٌ أكيدٌ بين الإيديولوجيا الدّيموقراطيّة الـتي تنشرها المدرسةُ، وبين الاستبداد الذي تمارسه الإدارةُ الاستعماريّةُ. لكنّ الكُتَّابَ كلَّهم يتّفقون، إجماعًا، على الإقرار بأنّ إثراء الشّعب الغالب في الحرب أو إثراء طبقته الحاكمة تُجرّدهم من الخصال التي صنعت قوّتَهم. تاريخُ الإمبراطوريّات دَوْرِيٌّ (cyclique): الصعودُ يَعقبه الانحدارُ، ثمّ الهَوِيُّ (السّقوطُ). قدّم ابنُ خلدون، مثلًا، تفسيرًا سوسيولوجيًّا للتّعاقب الدَّوريّ للإمبراطوريّات في المغرب [الإسلامي] (إفريقيّة / شمال إفريقيا حاليًّا].
من الطّبيعيّ أن نجمعَ تحت مصطلح «السيطرة» («الهيمنة») الصِّيَغَ السّياسيّةَ المتنوّعةَ التي لا قاسمَ مشتركًا بينها سواها. لا مشاكلةَ البتّةَ بين إمبرطوريّة جنكيز خان وإمبراطوريّة الملكة فيكتوريا: يجب أن نَميزَ الإمبرطوريّات بعضَها مِن بعض حسب درجة النَّظْم، الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسّياسيّ، التي بلغها كلٌّ من الشّعوب الغازِيَة. لقد عرف التاريخُ إمبراطوريّاتٍ للفلّاحين-الجنود (الرّومان، الصّينيّين)، وإمبراطوريّاتٍ للرُّعاة الرُّحّل (العرب، الأتراك، المنغوليّين)، كما عرف إمبراطوريّاتٍ بحريّةً (أثينا، قرطاج، البندقيّة، الإمبراطوريّات الاستعماريّة الحديثة). لقد غيّرت الثّورةُ الصّناعيّةُ مظاهرَ الإمبرياليّة.
من أجل ذلك من المفيد لنا أنْ نعرفَ بدقّةٍ تاريخَ كلمة «إمبرياليّة» ودلالاتِها المتتاليةَ. لقد تمّ إنجازُ هذه الدّراسةِ[13]، على الأقلِّ لأجل الممكلة المتّحدة [بريطانيا]، ولأجل فرنسا. من بين التحوّلات المتعدّدة في المعنى، يوجدُ واحدٌ مفيدٌ بشكلٍ خاصٍّ. في القرن التّاسع عشر، كان مصطلحُ «إمبرياليّة» يشير، عند الأنگليز، إلى السّياسة الخارجيّة العدوانيّة والغازِيَة، لِنابليون الأول، في أروربا، ثمّ مثيلتُها، لِنابليون الثّالث. بينما، في فرنسا، كان هذا المصطلحُ نفسُه، مطابقًا للنّظام البونابرتيّ الدّاخليّ، القائمِ على مبدأ السّطوة والمدعوم من الجيش. بعد سقوط الإمبراطوريّة ونهاية الهيمنة الفرنسيّة (prépondérance française) في سنتَيْ 1870 و 1871، وبعد إرساء سلامٍ مسلَّحٍ، في أوروبا، تحت هيمنة (hégémonie) الإمبراطوريّة الألمانيّة الجديدة، انتقل مجالُ تطبيق المصطلح من أروربا إلى القارّات الأخرى. أصبح مصطلحُ «الإمبرياليّةُ» يعني إذنْ، السّياسةَ التّوسُّعيّةَ المسلّحةَ التي تدفع القوى الكبرى إلى التّنافس المحموم على آخر الأراضي «الشّاغرة» (vacantes)، في عمليّة «تقاسُمٍ للعالَم» (partage du monde). بعبارةٍ أخرى، لقد تمّ الانتقالُ من الحُلم القديم بتوحيد أوروبا بالقوّة إلى تجديدٍ للمصلحة بالنّسبة للإمبراطوريّات «الاستعماريّة».
الإمبراطوريّة الاستعماريّة
لكنْ، ماذا يعني هذا التّركيب: «إمبراطوريّة استعماريّة»؟ المفروضُ أنّ الجميع يعرف معناه، وبالتّالي فلا داعيَ للتعريف. لنكْتفِ إذنْ بذكر مميّزاته الأكثر بداهةً. يُفهَم عمومًا من تركيب «إمبراطوريّة استعماريّة» مجموعةً من الكيانات التابعة المـَغْزُوَّة أو الـمُستحوَذِ عليها من دُول أوروبا الغربيّة خلال الزّمن الممتدّ من منتصف القرن الخامس عشر إلى نصف القرن العشرين، والمنتشرة على كامل بقاع العالَم، بفضل السّيطرة على المحيطات، التي كانت احتكارًا للشّعوب الأوروبّيّة طيلة هذا الحقبة الزّمنيّة. هذا البُعْدُ العالَـمـيُّ هو ما يُميّز هذه الإمبرطوريّاتِ الاستعماريّةَ عن جميع الإمبراطوريّات الأخرى: لقد كان فيليب الثّاني [ملك إسبانيا] يفتخر بأنّ الشمس لا تغيب أبدًا عن ممتلَكاته. هذا البُعْدُ أدّى إلى حدوثِ عدمِ تجانسٍ (hétérogénéité) مادّيٍ وبشريٍّ أعمقَ من الذي كانت قد أحدثته الإمبراطوريّاتُ الجهويّة (الإقليميّة / (régionaux والقارّيّة (continentaux). لقد كان الرّعايا المرؤوسون عمومًا مختلفين جدًّا عن أسيادهم، من جهة مظهرهم الجسمانيّ غالبًا، ومن جهة عقليّاتهم وتِقانتهم (تكنولوجيَاهم / (technologie دائمًا: لقد ازداد التفوُّقُ العلميُّ والتّقنيُّ، لأوروبا على بقيّة العالَم اتّساعًا من القرن الخامس عشر إلى نهاية القرن التّاسع عشر. وفي هذه الحالة كان من العسير على الغزاة أنْ يؤمنوا بجدوى الانصهار (fusion) النّهائيّ لشعوب الإمبراطوريّة في كيان سياسيٍّ واحدٍ. أمّا الأنگليز فإنّهم لم يؤمنوا البتّةَ بفكرة الانصهار، وتبنّوْا مبدئيًّا منذ القرن التّاسع عشر سياسةَ تحرير الدُّول البلديّة الأصليّة (États indigènes)، [التي كانوا يستعمرونها] منذ أن تصبحَ قادرةً على أنْ تحكم نفسَها بنفسها (وهو ما سُمِّي خطأً «التّحرير من الاستعمار/التحرّر من الاستعمار» / (décolonisation. قدّم الفرنسيّون انطباعًا بأنّهم يؤمنون بفكرة الانصهار لـمّا مجّدوا (exalter) «فرنسا العظمى» (la plus grande France)، «فرنسا ذات المائة مليون من السّكّان»، وأنّهم يسعون إلى تحويل الإمبراطوريّة إلى «الإتّحاد الفرنسيّ» (l’Union Française)، لكنّهم قد أثبتوا، بسلوكهم اللّاحق أنّهم، هم أيْضًا، كانوا يأبوْن تحويل فرنسا إلى «مستعمَرةٍ لمستعمراتها الخاصّة»، ولإخضاعها لسلطة دولةٍ فيدراليّةٍ تكون فيها «فرنسا المركز» مجرد مقاطعةٍ من بين مقاطعاتٍ أخرى. يتكوّن كلٌّ من الإمبراطوريّات الاستعماريّة [الأوروبّية] من رأسٍ وبطنٍ، وهما موجودان في أروبا، ومن أطرافٍ، وهي موجودةٌ في ما وراءَ البحار [المستعمَرات]. وهذه الأطراف تتنازع في ما بينها؛ لأنّ النّزاعاتِ الأوروبّيّةَ تنتقل إلى المستعمَرات. تاريخُ المستعمَراتُ [الأوروبّيّة] مُرقَّمٌ (ponctué) بالمواجهات المستمّرة بين الأساطيل وبعمليّات القرصنة إلى سنة 1815. بعد سنة 1871، ضاعف التّسابقُ المحمومُ للاستحواذ على آخر الأراضي الشّاغرة، من فُرص الاشتباك ومن احتمال نشوب حربٍ في أوروبا نفسِها. هل تستأهل الأراضي التنازعُ عليها؟
منذ بداية التّوسُّع الأوروبيّ في العالم إلى نهايته، تمّ تفسيرُ تكوّنِ الإمبراطوريّات الاستعماريّة وتبريرُه بحافِزيْن مشترَكيْن ومتكامليْن، الأوّل مثاليّ (idéal)، والآخَر مادّيّ (matériel). لقد كان المقصودُ:
تنصير (évangéliser) العالَم، أو حضْرنته (civiliser)،
و استغلال ثرواته.
والحافزُ الأوّلُ يبرّر الثّانيَ.
والحافزُ السّياسيّ المحضُ يأتي في آخر المطاف، على الأقلّ، قبل «عصر الإمبرياليّة»، تلك «الإمبراطوريّاتُ»، عمومًا، لم تُغْزُها جيوشُ الدّول المعنيّة: لقد تُرك زمامُ المبادرة بأيدي أشخاصٍ أو شركاتٍ فوّضتْ لهم ولها الدولةُ جزئيًّا حقوقَها الملِكيّة (droits régaliens)، مع احتمال استردادها لاحقًا بعد الإنجاز النّهائيّ للغزو. لقد كان ذلك التّفويضُ للمبادرة «التسلطيّة» (impériale) مؤشِّرًا على أنّ المشاريعَ الاستعماريّةَ تتميّز بأنّها في آنٍ عمليّاتٌ محفوفةٌ بالمخاطر ومُرْبِحةٌ ماديًّا. لكنْ، في القرن السّادس عشر، كانت الدّولتان الإسبانيّةُ والبرتغاليّةُ، اللّتان كانتا تحتكران الممتلكاتِ الاستعماريّةَ، تتحكّمان بشدّةٍ، كلٌّ في إمبراطوريّتيه. في القرنين السّابع عشر والثّامن عشر، كانت القوى الاستعماريّةُ الجديدةُ، وهي المقاطعاتُ المتّحدة (هولندا / (Provinces-Unies، وفرنسا وأنگلترا، تُوسّط شركاتٍ تجاريةً ذاتَ سيادةٍ جزئيةٍ (نصف سياديّةٍ / (demi-souveraines لإدارة عمليّاتها الاستعماريّة، لكنّها تتدخّل، هي نفسُها، للقيام بالحروب الضروريّة. في تلك الحقبة، كان الغرضُ الاقتصاديُّ للتوسُّع الاستعماريّ يُعدّ أساسيًّا: لقد كان عصرَ «المركنتيليّة» (mercantilisme). كان لزامًا على المستعمَرات أنْ تمنح المركزَ الاستعماريَّ الاحتكارَ في ما يتعلّق بالمعادن الثمينة وبالموادّ الغذائية الاستوائيّة، لكي تحصلَ في مقابل ذلك على المنتوجات الـمُصنَّعة في المركز الاستعماريّ. كانت هذه التجارةُ غيرُ العادلة (غيرُ المتكافئة / (inégalitaire محميّةً بتوسّل احتكاراتٍ وامتيازاتٍ تجاريّةٍ، وقوانينَ وأنظمةٍ جائرةٍ، كانت القوّةُ السّياسيّةُ تفرض من خلالها سعرًا تعسّفيًّا للمبادلات الاقتصاديّة. من سنة 1815 إلى سنة 1871، اتّجهت المفاهيمُ الاقتصاديّةُ إلى التّفريق بين العلاقات الاقتصاديّة على مستوى العالَم، وبين الطّموحات السّياسيّة للدّول التسلّطيّة (الاستكباريّة / (impériaux. لكنْ، بعد 1871، بدأ «عصرُ الإمبرياليّة» (l’âge de l’impérialisme).
لقد تمّ تفسير انقضاض القوى [الاستكباريّة] على الأراضي، التي كانت لا تزال شاغرةً في نهاية القرن التّاسع عشر، بمنطقٍ اقتصاديٍّ، على الأقلّ بمقدار ما تمّ تفسيرُه بالمنطق السّياسيٍّ. إنّ تطوّر التّصنيع والرّسماليّة قادرٌ على تعزيز الحافز الاقتصاديّ للتّوسُّع الأوروبّيّ من خلال تنمية تصدير الرّساميل، وهجرة الرّجال، والبحث عن الموادّ الأوّليّة، وفتح أسواقٍ مضمونةٍ لتصريف سلع المراكز الاستعماريّة: بعد هوبسنْ (HOBSON)، عرّف ماركسِيُّو القرن العشرين: هِلْفَرْدِنْگْ (HILFERDING)، و روزا لوكسُمْبورگْ (Rosa LUXEMBOURG)، و بوخارين (BOUKHARINE)، وأخيرًا لينين (LNINE)، عرّفوا الإمبرياليّة بأنّها «أعلى مراحل الرأسماليّة». وهكذا، فإنّهم، بجَعْلهم الإمبرياليّةَ التعبيرَ السياسيَّ والعسكريَّ لضرورةٍ (nécessité) اقتصاديّةٍ (أيْ رأسماليّة)، كانوا قد اتّفقوا مع أنصار الإمبرياليّة، الذين كانوا يستعملون، دون اشمئزازٍ، الحُجّة الاقتصاديّة. وكذلك لقد دعم كلٌّ من سيسيلْ رودسْ (Cecil RHODES)، و جول فِيرِّي (Jules FERRY) و جوزافْ شامْبرْلَنْ (Joseph CHAMBERLIN)، نظريّة الضرّورة الاقتصاديّة للإمبرياليّة:
«لقد حضرتُ، أمسِ اجتماعًا للعاطلين عن العمل في لندن، وبعد أنْ اسمتعتُ للخطابات العنيفة التي لم تزدْ عن كونها صرْخة لطلب الخبز، رجعتُ إلى بيتي وأنا على قناعةٍ، أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضى بأهمّيّة الإمبرياليّة... إنّ ما يَشغل بالي، قبل أيِّ شيءٍ آخَرَ، هو حلُّ المشكلة الاجتماعيّة. والحلُّ يعني، عندي، أنّ على المسؤولين على السّياسة الاستعماريّة، ومن أجل تجنيب الأربعين مليونًا من سكّان المملكة المتّحدة [بريطانيا] ويلاتِ الحرب الأهليّة، أنْ يفتحوا أراضيَ جديدةً لاستيعاب الفائض السّكّانيّ، وأنْ يُنشِئُوا أسواقًا جديدةً لتصريف الفائض من منتوجات المناجم والمصانع. لقد دعمْتُ دائمًا فكرةَ أنّ الإمبراطوريّة البريطانيّة قد كانت بالنّسبة لنا معدةً. إذا أردنا تجنّب حربٍ أهليّةٍ، يجب أن نُصبحَ إمبرياليّين»[14].
هذا النصُّ هامٌ لأنّ لينين قد ذكره في كتابه «الإمبرياليّة أعلى مراحل الرأسماليّة». كان لينينُ قد قدّم، في سياق تأويله لنصٍّ لـ ماركس، تشخيصًا يتوافق مع تشخيص رودس:
«الأسبابُ هي:
استغلال أنگلترا للعالَم؛
احتكار أنگلترا للسّوق العالميّة؛
الاحتكار الاستعماريّ الخاصّ بـ أنگلترا.
النتائج هي:
تبرْجُز (embourgeoisement) قسمٍ من البروليتاريا الأنگليزيّة (أي: قسمٌ من اليد العاملة الأنگليزيّة يصبح بورجوازيًّا)؛
قسمٌ من هذه البروليتاريا يصبح خاضعًا لإدارة رجالٍ قد اشترتهم البورجوازيّةُ، أو على الأقل قد دفعتْ لهم ليفعلوا ذلك»[15].
وهكذا أصبحت الإمبرياليّةُ الحلَّ (المؤقّت) الذي وجدتْه الرأسماليّةُ لتناقضاتها الدّاخليّة.
وعلى الرّغم من ذلك، وعلى العكس من الفكرة التي تَوافق عليها الإمبرياليّون والماركسيّون، فإن إثراءَ المراكز الاستعماريّة بفضل الاستغلال الذي قامت به الإمبراطوريّاتُ الاستعماريّةُ قد تمّ الاعتراض عليه والجدال فيه بقوّةٍ. لقد رصدْنا أنّ العديد من عماء الاقتصاد اللّيبراليّين في القرنين الثّامن عشر والتّاسع عشر[16]، وبعض المؤرّخين غير الماركسيّين في القرن العشرين قد صرّحوا، مع الاستدلال للإثبات، بأنّ الغزواتِ الاستعماريّةَ لمْ تُؤدِّ إلّا إلى إثراء بعض الأفراد وتنمية مصالحهم الشخصيّة، وأنّ الدولةَ والأمّةَ لم يستفيدا من ذلك اقتصاديًّا. المستعمراتُ باهظةُ الثّمن من جهة تكاليف الغزو، والتّحصين والحماية، والإدارة، والأشغال العامّة. والدّولةُ، أيْ دافعو الضّرائب، هي التي تتحمّل تكاليفَ ذلك. كتب هنْرِي برانْشفِيگ بنبرةٍ ساخرةٍ:
«إنّ ما يُميِّز هذه السّياسةَ الاستعماريّةَ (الفرنسيةَ) هو المراهنةُ دائمًا على المستقبل: تتمّ المصادقةُ على القروض العسكريّة بذريعة أنّ التّنمية (المردودَ / (mise en valeur ستأتي بعد الغزو؛ يتمّ الموافقة على الاستثمارات؛ لأنّ ما تُحدثه من خطوط سكك الحديد وإنشاءاتٍ تقنيّةٍ أخرى تُمكّن من القيام بالاستغلال العقلانيّ؛ نضاعف عدد المستشفيات والمدارس من أجل تكوين كتلةٍ من اليد العاملة ذات المردوديّة الرّبحيّة؛ لا يُكَفّ عن المضاربةِ بالمستقبل، وهذه المضاربةُ تقود المستعمِرين، في نهاية الأمر، إلى تسخير الشّعوب عوضًا عن مجرّد استغلالها بلا قيدٍ ولا شرطٍ»[17].
بيّنتْ بعضُ الإحصائيّات أنّ الأراضيَ الاستعماريّةَ الـمَغْزُوَّةَ بتكاليفَ كبيرةٍ لها مردودٌ أقلُّ لصالح تجارة الغزاة منه لصالح الأجانب، وأنّ الفوائد الماليّة الأهمّ للقوى الاستعماريّة كانت تُوجَد عمومًا خارجَ إمبراطوريّاتهم، في بلدان مستقلّة، حتّى ولو كان استقلالُها قانونيًّا شكليًّا[18]. هذا التّنافرُ الصّارخُ بين مجالات التّوسّع الاقتصاديّ وميادين الغزو الإمبرياليّ أظهر خيبةَ أملٍ كبيرةً حول اختيار كلمة «إمبرياليّة»، وهي كلمةٌ سياسيّةٌ-عسكريّةٌ، للإشارة إلى ظاهرةٍ اقتصاديّةٍ بشكلٍ أساسيٍّ. لقد كان لينينُ واعيًا بذلك إذْ يعتذر، في تمهيد كتابه « الإمبريالية أعلى مراحل الرّأسماليّة»، بقوْله: «نحن لن نتوقّف عند الجانب غير الاقتصاديّ للمسألة كما ينبغي أنْ يستحقّه». ينبغي علينا عدمُ البحث عن الطابع الأشدّ أصالةً لـ»عصر الإمبرياليّة» في بلوغ الاقتصاد الرّأسماليّ أشُدَّه بل في الأهميّة الجديدة للعوامل السّياسيّة للقوّة (القدرة / (puissance وللنّفوذ والهيبة (prestige) في عمليّات التوسّع في ما وراء البحار. في القرن الثّامن عشر كان المركنتيليّون يُقِرّون بالجوهر الاقتصاديّ للاستعمار، وكان اللّيبراليّون يهاجمونهم بهذا الخصوص باتّهامهم بأنّهم قد حرّروا (جرّدوا) الاقتصادَ الدُّوليَّ من غُلّه (طابعه / carcan) السّياسيّ. لقد جعل الإمبرياليّون التوسُّعَ الدّوليَّ شأنًا مهمًّا من شؤون الدّولة (affaire d’État). أمّا الاعتباراتُ الاقتصاديّةُ فتُحصَّل بعد ذلك في نطاق سياسة قوّةٍ تشمل أيْضًا وجهاتِ نظرٍ points de vue)) أخرى، عسكريّةٍ، وثقافيّةٍ، إلخ. شخّص البروفسور هايْنْزْ گُولْفيتزْ هذا الاندماج للعامل الاقتصاديّ في السّياسة الإمبرياليّة كما يلي:
«إنّ ما يميّز الإمبرياليّةَ في ما يتعلّق بالممتلكات في ماوراء - البحار وبالمستعمرات، هو أنّها قد صبغتْ هذا الأخيرَ بلوْنٍ سياسيٍّ وركّزتْ على النّفوذ والهيبة (prestige) أكثر ممّا حصل في ما مضى. وذلك لم يكن يتّم عمومًا على حساب العامل الاقتصاديّ، لكن ما يلفت الانتباهَ هو أنّه قد تمّ التّركيز بشدّةٍ على وجهات نظرٍ غير اقتصاديّةٍ»[19].
لقد غُزِيتْ أراضٍ، فاقدةٌ لأيّ قيمةٍ اقتصاديّةٍ، فقط بسبب وضعها الاستراتيجيّ، لتجنيد أفرادٍ من شعوبها، أو لمنع قوّةٍ أخرى منافسةٍ من الاستقرار فيها. لم تَعدِ المستعمَراتُ تُعدّ مجرّدَ مُلحقاتٍ اقتصاديّةٍ للمراكز الاستعماريّة، بل صارت تُعدّ مقاطعاتٍ في إمبراطوريّةٍ عالَميّةٍ، أيْ أدواتٍ ومواضيعَ لسياسةٍ عالميّةٍ.
في زمننا الحاضر، وبعد «تحرّر مستعمَرات (تصفية مستعمرات (décolonisation / الإمبراطوريّات الأوروبّيّة، أصبح هذا التّنافر بين المعنى الاقتصاديّ والمعنى السّياسيّ لمصطلح «إمبرياليّة» أوضحَ ممّا كان عليه في أيّ زمن مضى. يلحظ الماركسيّون الإمبرياليّةَ في سياق أفعالها حيثُ تختفي جميعُ العلاماتُ الظاّهرةُ: إنّ الإمبرياليّةَ حاضرةٌ في جميع البلدان الخاضعة لقوانين السوق الرأسماليّة العالميّة، حتّى مع غياب ضمّ الأراضي، وغياب الحماية الاستعماريّة (protectorat)، بل وحتى مع غياب الأحلاف والقواعد العسكريّة[20]. يتصاعد انفصال «الإمبرياليّة»، بصيغة المفرد، عن الدّول الخاصّة لكي يتماثل مع مجموع الاقتصادات الرّأسماليّة المتقدّمة، التي تمارس «تأثيرها الهيمنيَّ» (effet de domination)[21] على اقتصاد العالَم غير الاشتراكيّ. لقد فقد المصطلَحُ معناه الخاصَّ تمامًا، ليتماثل مع مصطلح «الاستغلال الاقتصاديّ».
وهكذا صار يُنظَر إلى الاستعمار بوصفه سيطرةً (هيمنةً)، وإلى الهيمنة بوصفها أداةً للاستغلال. في التّصوّر العامّ، الشّعبُ المستعمَرُ هو الشعبُ الخاضع للسّيطرة (الهيمنة) والاستغلال!
ما الاستغلال؟
الاستغلالُ (exploitation) هو الفعلُ الذي يُضفي قيمةً على شيءٍ ما، أيْ يُؤدّي إلى استخلاص منفعةٍ منه. واشتُقَّت من هذا المعنى العامّ عدّةُ معانٍ فرعيّةٍ، ذاتِ نغَمِيّاتٍ (tonalités) حِياديّةٍ (neutres)، أو مَدْحيّةٍ (laudatives)، أوْ تحقيريّةٍ (péjoratives): المستغِلُّ يختلف عن الاستغلاليّ (un exploitant n’est pas un exploiteur).
1/ المعنى الحياديّ [لكلمة «استغلال»] هو معنًى اقتصاديٌّ محضٌ ومجرّدٌ من كلِّ صبغةٍ أخلاقيّةٍ (coloration morale). يُمكن استغلال أرضٍ، أو غابةٍ، أو مناجمَ: استغلال الأرض، والغابة، والمناجم، يشير إلى الفعل وموضوع الاستغلال، في الآنِ نفسِه. أتى المعنى الـمَدّحِيُّ من تمجيدٍ دينيٍّ أو بروميثيٍّ للفعل البشريّ الذي يغيّر وجه الأرض بإخضاعه الطبيعةَ لمخطّطاته. يمثّل اكتشافُ الموارد المخزونة واستعمالُها تنميةً للطبيعة وإضفاءً للقيمة عليها. الإنسانُ هو ملِكُ (سيّدُ) المخلوقات، لقد استخلفه اللهُ على الأرض ليعمُرَها. من أجل ذلك، «لا يحقّ للبشريّة أنْ تشكوَ بأنّ عجزَ الشّعوب المتوحّشة وكسلَها يُبقِيان أبديًّا بلا استغلالٍ النّعمَ المخزونةَ التي وضعها اللهُ تعالى في عُهدتها على أنْ تتحمّل رسالةَ تثميرها لخدمة الجميع»[22]. تتشارك العقولُ اللّائكيّةُ ذلك التّصوُّرَ العظيمَ الذي يؤمن بوجود نزعةٍ لدى الإنسان لأنسنة الأرضِ كاملةً، لكنّ ذلك التّصوُّرَ فقد، مؤخّرًا، قسمًا كبيرًا من مصداقيّته: انتشرت انشغالاتُ البيئويّين (علماء البيئة ونشطاء حماية البيئة / (écologistes بين الجمهور، حتّى وصل الأمر إلى تعمُّم سؤالٍ حول ما إذا كانت التّنميةُ (mise en valeur) الـمُدّعاةُ تُقنِّع النَهْبَ، وبالتّالي فهي تُقنِّع التّدهوُرَ للوسط الطبيعيّ الذي يجب على الإنسان أنْ يهيّئه؛ لأنّ حياتَه متوقّفةٌ عليه. هل أصبح الإنسانُ هو سرطانَ الكوكب؟ أوَليست الطبيعةُ البِكرُ أكثرَ جذْبًا من المناظر الحَضَريّة في العالَم الحديث؟
2/ نمرّ الآن إلى المعاني التّحقيريّة لمصطلح «الاستغلال»، مع ملاحظة أنّ واجبَ تنمية موارد الأرض للصّالح العامّ للبشريّة قد تمّ استخدامه كحُجّةٍ لتبرير الكثير من الأفعال الظّالمة. لقد مثّلتْ فكرةُ «المصير الإلهيّ لمُتع هذا العالَم» (La destination providentielle des biens de ce monde) الأساسَ للحقّ في الاستعمار (colonisation) في عقيدة الكنيسة منذ القرن السّادس عشر. لقد طالب الأميرالُ ماهانْ (MAHAN) بـ «انتزاع الأراضي من الأعراق فاقدة الأهليّة» (incompétentes)، وكان ألبارْ صارُّو (Albert SARRAUT) يعلِّم أنّه من السّخافة معارضةُ مشاريع الاستعمار «بحُجّةِ ادّعاء حقّ إشغالٍ (prétendu droit d’occupation)، أو بحُجّة أيِّ حقٍّ آخَرَ في العزلة القاسية، والذي يمكن أنْ يُديم، بين أيدٍ عاجزةٍ غيرِ مؤهَّلةٍ، ملكيّةَ ثرواتٍ مخزونةٍ لا تُستعمل»[23]. هذا الانتزاعُ للأراضي يؤدّي إلى طرد «الأعراق غير المؤهّلة»، وإذا ما تكرّر واستمرّ سوف يؤدّي بهم إلى خسران حميع وسائل عيْشهم. لكنْ، لو كانت نتائجُ الاستغلال قد توقّفت عن حدود انتزاع أراضي منكودي الحظّ أولئك، لكان من الممكن لمفهوم الاستغلال أن يحافظ على شرفه. ليُعْلَمْ أنّ الاستغلال لم يَطلِ المواردَ الطّبيعيّةَ فحسبُ، بل تعدّاها ليشمل أيضًا المواردَ البشريّةَ، التي لاقتِ المصير نفسَه.
إنّ غُزاةَ العالَم الجديد الذين انطلقوا «كسِربٍ من الصّقور طارتْ إلى خارج موطنها الأصليّ» بحثًا عن «المعدن الأسطوريّ» (fabuleux métal)، لم يأتوا بنيّة «تنمية» (mettre en valeur) البلد [الـمَغْزُوّ، المستعمَر] بعملهم الخاصّ. العملُ الضّروريُّ لذلك الاستغلال كان جزءًا من الموارد الـمُستغلَّة. لقد كانوا كلُّهم، سواءً أكانوا أشرافًا (نبلاء / (nobles أم أراذلَ (gueux)، يريدون أنْ يعيشوا حياة الهيْدلْج (النبيل الإسبانيّ / (hidalgo، كانوا يريدون أنْ يزدرعوا (tranplanter) في ما وراء المحيط الأطلسيّ نظامًا اجتماعيًّا قائمًا على «استغلال الإنسان للإنسان». وهكذا فقد تعرضت الأيدي العاملةُ البلديةُ الأصليّةُ (main d’æuvre indigène) إلى الاستغلال، في المزارع وفي المناجم، استغلالٍ من الأفراد (الأشغال الشّاقّة التي كانت يمارسها الإسبانيّون الأفراد، على الهنود الحمر / (encomienda، ومن الدّولة (الأشغال الشاّقّة التي كانت تمارسها الشركات الحكومية الإسبانيّة، على الهنود الحمر، / (mita. لقد أُنهِكت تلك الشّعوبُ بفعل الظّروف القاسية التي أجبروا عليها، والتي لم يألفوها من قبل، ما أدّى إلى فنائها كُلّيًّا أو جزئيًّا. فكان لزامًا استيرادُ أيدٍ عاملةٍ للتّعويض، وكانوا العبيدَ الأفارقةَ. وحول ذلك كتب مونتسْكيو (MONTESQUIEU): «لقد أبادتِ الشّعوبُ الأوروبّيةُ شعوبَ أمريكا، فكان لزامًا عليهم أنْ يُخضِعوا الشّعوبَ الإفريقيّةَ للرِّقّ، لاستعمالها في استصلاح الكثير من الأراضي»[24]. من الواضح أنّ كلمة «مستعمِر مستوطِن» (colon) ترمز في الذّاكرة الجماعيّة للشّعوب الأوروبّيّة، وخاصّةً للشّعوب الأخرى، ترمز مباشرةً إلى صورة فلّاحٍ (زارعٍ / (planteur بطّالٍ (oisif)، يراقب عملَ عبيده وهو ممتشِقٌ سوطَه[25].
توجَد مُقارَبةٌ أخرى يرتكز عليها معنًى تحقيريٌّ آخَرُ لكلمة «استغلال». يُعرَّف «الاستغلال الاستعماريُّ» بأنّه استغلالُ موارد بلدٍ لأجل المصلحة الحصريّة لبلد آخَرَ. الاقتصاد من النّوع «الاستعماريّ» هو اقتصادٌ تابعٌ، على الرّغم من أنّ المبادئَ المعروفةَ والشّعاراتِ المرفوعةَ، من أهل الدّين والسّياسة والاقتصاد، مثل «المصير الإلهي لِـمُتعِ هذا العالَم» (destination providentielle des biens de ce monde) و «والحقّ الطّبيعي في المجتمع والتّواصل» (droit naturel de socit et de communication)، لم تكن تقتضي شيئًا آخَرَ غير حريّة التّجارة، لِـمصلحة الجميع. كان من الممكن أنْ تُنتِجَ تلك التّجارةُ خسارةً في آسيا، حيثُ كان الأروروبّيون يدفعون نقدًا أثمان مشترياتهم الفاخرة، وأنْ تُنتج أرباحًا في إفريقيا حيثُ كان الملوكُ الزّنوجُ يبيعون سجناءَهم/أسراهم لِقاءَ بضاعةٍ تافهةٍ (pacotille) بلا قيمةٍ. لكنّ التّجّارَ الأوروبّيّين لم يكونوا يَنهجون نهجَ التّبادل الحرّ: كانوا يأتون مسلَّحين، وبروحٍ حربيّةٍ، لكيْ يفرضوا شروطَهم على مُزوِّديهم، ولكيْ يُقْصُوا كلَّ منافسيهم من الميدان. وهكذا، فقد كانوا يتمكّنون من فرض احتكارهم للتجارة، ومن تحديد أسعار الشّراء كما يتناسب مع مصالحهم، ومن أنْ يتسلّطوا على الإنتاج من خلال فرض أشكالٍ متعدّدةٍ من التّبعيّة والاسترقاق (الاستعباد / (servitude على الفلّاحين البلديّين الأصليّين[26]. يمثّل توطينُ العبيد واستغلالُهم الحالةَ القصوى في هذه السّيرورة. لقد أسّس استعمالُ القوّة المسلّحة لتأمين أعلى الأرباح لمنظِّمي التّجارة، «الميثاقَ الاستعماريَّ» (pacte colonial)، الذي ظلّ راسخًا في الذّاكرة الجمعيّة بعد القضاء الفعليّ عليه، واستمرّ مُضمَّنًا في المفهوم المتعارف للاستعمار:
«كان نظامُ الحكمِ الذي فرضتْه المراكزُ الاستعماريّة على مستعمَراتها، والذي عُرف باسم «الميثاق الاستعماريّ»، كان يرتكز عل خمسة مبادئَ أساسيّةٍ هي التّاليةُ:
احتكارُ الملاحة منحصرٌ بالأسطول الوطنيّ.
أسواقُ المستعمَرات وقفٌ حصريٌّ للمنتوجات الـمُصنَّعة الخاصّةِ بالمركز الاستعماريّ.
يجب على المستعمَرات تزويدُ المركز الاستعماريّ بالموادّ الأوّليّة وبالمنتوجات الزّراعيّة.
يُمنَع على المستعمَرات التزوُّدُ بالمنتوجات المصنَّعة وحتّى بالمنتوجات الزّراعيّة التي يوجد ما يماثلها في المركز الاستعماريّ.
تُفرَض رسومٌ ماليّةٌ على المنتوجات سواءً عند خروجها من موانئ المستعمرات أو عند دخولها إلى موانئ المركز الاستعماريّ»[27].
تشهد تلك الإجراءاتُ «المركنتيليّةُ» المَصوغةُ والمطبّقةُ من القرن السّادس عشر إلى القرن الثّامن عشر على وجود عقليّةٍ تعدّ المستعمراتِ مجرّد مواضيعَ للاستغلال، يحتكر مركزُها الاستعماريُّ فوائدَها بشكلٍ غَيورٍ. ليست المستعمراتُ مقاطَعاتٍ ولا ممالك لها ذواتٌ مساويةٌ لغيرها في دولة المركز الاستعماريّ االذي تتبعه، بل هي مجرّد مُلْحَقات اقتصاديّة لا وجودَ لها أبعدَ من القيام بوظيفةٍ اقتصاديّة في خدمة المركز الاستعماريّ. هذا هو رأيُ مونتسكيو:
«إنّ الغاية من وجود هذه المستعمرات هو القيام بالتّجارة مع أفضل الشّروط كما لا يتيسّر القيام به مع الشّعوب الجارة، التي تتمّ التجارة معها على أساس الامتيازات المتبادلة. لقد بنيْنا الأمر على أساس أنّ المركز الاستعماريَّ وحدَه هو الذي يملك حقَّ التّبادل التّجاريّ في المستعمَرة، وهذا يستند إلى حُجّةٍ متينةٍ؛ لأنّ الغرضَ من إنشائها هو توسيع التّجارة، لا تشييد مدينةٍ أو امبراطوريّةٍ جديدةٍ[28].
هذا هو رأيُ الوزير شواسُولْ (CHOISEUL)، أيضًا، كما هو رأي محرِّر الموسوعة، الذي وقّع مقاله «المستعمرات» بحروف «م.ف.د.ف.» (MVDF): المستعمراتُ...
«لمْ تُنْشأْ إلّا لمنفعة المركز الاستعماريّ، ويترتّب على ذلك:
أوّلًا، أنّها يجب أن تكون تابعةً له مباشرةً، وبالتّالي أنْ تكون تحت حمايتها.
ثانيًا: أنْ تكونَ التّجارةُ معها حِكْرًا على المؤسِّسين.
ولا اعتبارَ لمصلحة المستعمَرة الاقتصاديّة:
تصبح المستعمراتُ بلا نفعٍ إذا ما تجاوزت المركزَ الاستعماريَّ واستغنت عنه: كما أنّه يوجدُ قانونٌ مأخوذٌ من طبيعة الأشياء يوجب علينا تحديد الفنون والثّقافة في المستعمرة في نطاق مواضيع محدَّدةٍ بما يتناسب مع مصلحة البلد المهيمِن [المستعمِر].
وفوق ذلك:
إذا زاولت المستعمرةُ تجارةً مع الأجانب أو إذا استهلكت سلعًا أجنبيّةً، يكون المالُ الناتجُ عن تلك التّجارة سرقةً بحق المركز الاستعماريّ».
وهكذا فإنّ المستعمَراتِ لم يكن لها وجودٌ لا بذاتها ولا لأجل ذاتها.
انهارتِ المنظومةُ المركنتيليّةُ، التي أعدمت كلّ فرص التّحرّر من غُلّ العبوديّة الاقتصاديّة للدّول الاستعماريّة، انهارتْ في منتصف القرن الثّامن عشر تحت ضربات المعاول النّظريّة لعلماء الاقتصاد الليبراليّين، أنصار التّحرير الكامل للإنتاج الاقتصاديّ وللتّبادل التّجاريّ. لكنّ الثّوراتِ المنتصرةَ في المستعمرات الأمريكيّة التّابعة لكلٍّ من أنگلترا وإسبانيا، أسهمت أكثر في تفكيك «الميثاق الاستعماريّ»، الذي تمّ التّخلّي عنه خلال القرن التّاسع عشر. لقد غفل مُتكلِّموه (apologistes) عنْ أنّ استغلال الأوروبّييّن لموارد الدّول الأجنبيّة (exotiques) كان بالإمكان القيامُ به بطريقتَيْن مختلفتيْن:
إمّا بإرجاع المنافع كلِّها إلى اقتصاد المركز الاستعماريّ، الذي هو البداية والنّهاية في الاقتصاد «الاستعماريّ».
وإمّا باستقرار قسْمٍ من سكّان المركز الاستعماريّ على الموارد الـمُستغَلّة. وبهذا كان بالإمكان بل من الواجب الانتقال من الاقتصاد ذي المحوريّة الخارجيّة (économie hétéro-centrée) إلى الاقتصاد ذي المحوريّة الذّاتيّة/الدّاخليّة (économie auto-centrée).
لقد نتج عن الجهل بهذه الحالة أنْ دفعتِ الحكومةُ البريطانيّةُ ثمّ الحكومةُ الإسبانيّةُ مستعمِريهما المستوطِنين (colons) الخاصّين إلى الثورة وإلى الانشقاق عن الدّولة الاستعماريّة.
في القرن التّاسع عشر، أنهى انتصارُ النّظريّات اللّيبراليّة الميثاقَ الاستعماريَّ، والاحتكاراتِ والدّوْلانيّةَ (نظريّة هيمنة الدّولة على الاقتصاد /(étatisme . أعطت أنگلترا، القويّةُ بتفوّقها الاستعماريّ، المثلَ لسياسةٍ جديدةٍ، قائمةٍ على التّبادل الحرّ. لكنْ شهدنا إذنْ، أنّ قوانين السّوق بإمكانها أنْ تكون قمعيّةً واستغلاليّةً بقدر ما كانت عليه إجراءاتُ الميثاق الاستعماريّ. لقد تراجعت صناعةُ النّسيج الهنديّةُ بعد إلغاء الاحتكار التّجاريّ لشركة الهند سنة 1813، أمامَ منافسة صناعة النسيج في مدينة مانشستر. وأفلستْ متاجرُ الملابس في البيرو (Obrajes du PÉROU) بعد سنواتٍ من فتح الموانئ أمام البضائع الأجنبيّة. وأُجبِرتِ الصّين بالقوّة على فتح حدودها أمامَ الأفيون الأنگليزيّ...
بعد سنة 1871، تعمّمتِ الطُّرُقُ الجديدةُ للاستغلال[29]. إنّها تميّز عصر الإمبرياليّة. لم يتمّ إعادةُ تفعيل الميثاق الاستعماريّ على الرّغم من تنامي النّزعة الحمائيّة (protectionnisme). لم تَظلَّ ميادينُ الاستغلال ممتلكاتٍ حصريّةً. لكنّ الاقتصادَ الدُّوليَّ الذي كان يتشكّل كان، أكثر من أي وقتٍ سابقٍ، خاضعًا للقوى الصّناعيّة والماليّة في أوروبا الغربيّة الشماليّة، التي كانت تستغلّ، في الآنِ نفسِه، وبالمقدار نفسِه، الدّولَ المستقلَّة قانونيًّا، وممتلَكاتِها الاستعماريّةَ. يتمّ استغلال الدّول من خلال استثمار الرّساميل في القروض العامّة التي تُصدرها الدُّول (السّندات الحكوميّة)، أو التي تُصدرها البلديّاتُ التي تسعى إلى تحديث نفسها. لقد كانت تؤدّي إلى تحصيل فؤائدَ أفضلَ من تلك الآتية من الاستثمارات المحليّة، كما كانت تؤدّي غالبًا إلى إفلاس الحكومات وإلى حصول الدّائنين على رهْنٍ: مراقبة الدَّين، وإدارة مصلحة الدّيوانة/الجمارك، والوكالة في استخلاص بعض أنواع الضّرائب.
تُقلِّص هذه التّبعيّةُ الاقتصاديّةُ سيادةَ الدّولة المدينة (المديونة) وتؤدّي في النّهاية إلى الاحتلال العسكريّ وفرض نظام الحماية (protectorat). وهكذا فإنّ استغلالَ الدُّول بهذه الطّريقة لا يبقى ممكنًا بعد الضّمّ. يتمّ الاستغلالُ المباشر لموارد الدّولة، المستقلّة أو المضمومة، من خلال استثمارت الرّساميل الماليّة في الشركات المنجميّة، وشركات سكك الحديد، وشركات الموانئ، وشركات المياه، وشركات الغاز أو الكهرباء. لقد كانت تلك الاستثماراتُ، وهي ذاتُ فؤائدَ قابلةٍ للتّحصيل والنّقل إلى وطن المستثمِرين، تمكّن أيْضًا من تزويد الاقتصاد المهيمِن بالموادّ الأوّليّة ، وتوفّر، في الوقت نفسِه، الفرصةَ لطلبيّات استيراد معدّاتٍ وتجهيزاتٍ تقنيّةٍ من المركز الاستعماريّ [وطن المستثمِرين]، لأنّ البحث عن أسواقٍ مضمونة في الخارج كان هَوَسًا في تلك الحقبة المتّصفة بفائض الإنتاج وبتفشّي الحمائيّة. ومن هنا كانت منفعةُ الضمّ، والحلم بـ»ماركنتيليّةٍ جديدةٍ» “néo-mercantilisme”.
سوف يرتكز مبدأُ التّكامل، في ما بعد على الحاجات الاقتصاديّة للمراكز الاقتصاديّة التي كانت في قمـّة التّطوّر: لقد تصاعدتْ أهميّةُ الموادِّ الأوّليّةِ، الخاصّةِ بالصّناعة، وأصبحت لها مكانةٌ أكبرُ في عمليّات الإنتاج «الاستعماريّة». في الواقع، لقد استمرّ وجود التّكامل، لكن لا بشكل مباشِرٍ، وبعضُ المستعمَرات كانت تُحاكي منتوجات المركز الاستعماريّ: تخصّصتِ «البلدانُ الجديدةُ»، التي تمّت تنميتُها من خلال الهجرة الأوروبّيّة، في المنتوجات الـمُكمِّلة (التّكميليّة(complémentaitres / ، بالتّأكيد، لكنّها كان يمكن أن تُعدّ منافِسةً في القرن السّابق. لقد كانت الحبوبُ الكنديّةُ واللّحومُ الأرجنتينيّةُ المجمَّدةُ تغذّي أنگلترا الصّناعيّةَ التي تخلّت عن سياسة حماية قطاعها الفلاحيّ. إنّه التّقسيمُ العالميّ للعمل الذي نظّر له علماءُ الاقتصاد اللّيبراليّون، وأملوا في تطبيقه: التخصُّص في إنتاج السّلع الأقلّ كلفةً مقارنةً مع بقيّة الدّول بما يخفّض أسعارَها ويرفع، بالتّالي، قدرتَها التّنافسيّةَ في السّوق العالميّة. إنّه «الاقتصادُ الاستعماريُّ»، إذا أردتُم، لكنّه الاقتصادُ القابلُ للتطوُّر حسب العرض والطّلب. لقد كانت الولاياتُ المتّحدةُ الأمريكيّةُ زراعيّةً في البداية، لكنّها أصبحت قوّةً صناعيّةً كبيرةً تجاوزت قوّةَ أنگلترا قبل سنة 1900، كما أنّ كندا قد تصنّعت خلال الحرب الكبرى. لا «استغلالَ» بعدُ للدّول الجديدة من الدُّول الصّناعيّة التي أرسلت إليها المهاجرين والرّساميلَ اللّازمةَ لتنمية الموارد المحليّة على عين المكان. استغلالُ البلد يعني، بكلّ بساطةٍ، أنّ إنتاج معيشته الماديّة يقوم به المجتعُ الذي أسّسه المستعمِرون المستوطنون (colons)، إنّه اقتصادٌ عاديٌّ، ذو محوريّة ذاتيّة/داخليّة (auto-centrée).
وهكذا نصل في بياننا إلى مستوًى حيثُ يتيسّر، ويصبح من الضّروريّ في النّهاية، أنْ نُقدّمَ تعريفًا لـ «الاستعمار» (colonisation) بحصر المعنى. لا نقصَ في التّعريفات، لكنْ يجب أنْ نُزيحَ الفاسدةَ منها حتّى لا تبقى إلّا الصحيحةُ.
الاستعمارُ (colonisation) ليس هو الهيمنةَ، كما يفكّر الإنسانُ العاميُّ. ضمُّ أرضٍ، وإعلانُها «مستعمَرةً» (colonie)، لا يعني استعمارَها (le coloniser): الأرضُ المضمومةُ هي «قابلةٌ للاستعمار» (colonisable)، ولهذا فإنّها لم يتمّ استعمارُها (n’est pas colonisée). لكنّ الاستعمارَ (colonisation) يمكن أنْ يكون وسيلةً في خدمة الهيمنة: لقد أقام الرّومانُ، ومن قَبْلهم الملوكُ الذين خلفوا الإسكندر، مستعمراتٍ في المقاطعات التي أخضعوها لكيْ تكون نقاطَ إسنادٍ موثوقةٍ في حالة الثّورة ضدّهم. هذا الحسابُ (التّقديرُ / (calcul ذاتهُ هو الذي ألهم الحكوماتِ الفرنسيّةَ فكرةَ أنْ تستعمر (coloniser) الجزائر بعد غزَتْها.
وعلاوةً على ذلك، ليس الاستعمارُ (colonisation) هو الاستغلالَ، أو بالأحرى، ليس هو أيًّا كان من أشكال الاستغلال، بل هو شكلٌ خاصٌّ منه. تحديدًا، ليس الاستعمارُ (colonisation) هو الاستغلال الموصوف بصفة «الاستعماريّ» الذي يمارسه بلدٌ ما على بلدٍ آخَرَ. الاستعمارُ (colonisation) يتوافق مع المرحلةِ الأولى من مراحل التّنميةِ (mise en valeur) التي تَطال أرضًا، مرحلةِ الاقتصاد «الابتدائيّ» (primaire)، أيْ المرحلة الزّراعيّة والمنجميّة بشكلٍ أساسيٍّ. هكذا كان جول هارْمنْدْ (Jules HARMAND) قد عرّفه:
«يجب أن نُحصّصَ اسمَ «استعمار» (colonisation) لانتزاع الأراضي (appropriation)، واستخدامها واستغلالها، وكذلك، إلى حدٍّ ما، لباطن الأرض القابل للاستعمال مباشرةً. «استعمر» (coloniser) -من الأصل اللّاتيني colere، أيْ زرع، حرث (cultiver)- يعني، أساسًا، «استغلّ» (exploiter) أرضًا، أو إقليمًا، كانت إلى ذلك الحين إمّا برّيّةً بَوْرًا مهجورةً (sauvage) وإمّا في حالتها الطبيعيّة الخام (à l’état de nature)، وإمّا مُهيّأةً جزئيًّا، لكنّها في وضعٍ اقتصاديٍّ رديءٍ جدًّا لا يمكّنها من توفير إنتاجٍ مُربِحٍ بانتظامٍ[30].
ويلي الاستعمارَ، عادةً، تطويرُ جميع الفروع لبناء اقتصادٍ يماثل اقتصاد المركز الاستعماريّ ويضاهيه.
إنّ التّعريفَ الاقتصاديَّ، الذي قدّمه جول هارْمنْدْ، جيّدٌ، لكنّه لا يَذكر عنصرًا أساسيًّا، لا استعمارَ من دونه: إنّه الإسكانُ (peuplement)، الذي هو، في الآن نفسِه، الوسيلةَ والغايةَ في التّنمية: «استعمارُ الإسكان» (colonisation de peuplement) هو أمرٌ بديهيٌّ (تحصيل حاصلٍ / truisme)، لغوٌ (pléonasme) أو إطنابٌ في الكلام (redondance). يُدمج جول دُوفالْ (Jules DUVAL) هذا المفهومَ الأساسيَّ:
«الاستعمارُ (colonisation): نطلق هذا الاسمَ، المشتقَّ من الفعل اللّاتينيّ «colere, colonus» (زرع، زارعٌ، مستعمِرٌ / (cultiver, cultivateur, colon، على أيّ عمليّة شَغْلٍ (احتلالٍ / استيلاءٍ على / (occupation وإسكانٍ وزراعةٍ تتمّ في أجزاء الكرة الأرضية التي كانت شاغرةً (غيرَ مشغولةٍ / (inoccupée، وغيرَ مأهولةٍ بالسّكّان، وبوْرًا (غير مزروعةٍ)»[31].
في الحقيقة، إنّ الفعل اللّاتينيّ «colere»، الذي يعني زَرَع أرْضًا، وسكَن محلًّا، وقدّسَ الآلهةَ الموجودةَ فيه، قد اُشتُقّ منه اسمان هما «colonus» و «incola»:
«colonus»: يعني «فلّاح»، «مزارع» (paysan)، وتحديدًا «مؤاكِر/مزارع كراء» (métayer) أو قِنّ (serf) مرتبط بالأرض،
«incola»: يعني ساكنٌ (habitant).
أمّا «المستعمَرةُ» (colonie, colonia) فهي:
إمّا: أرْضٌ مزروعةٌ، أيْ مَزْرعةٌ،
وإمّا إقليمٌ (قطعةٌ من الأرض / (territoire ممنوحٌ لجنودٍ كتعويضٍ على خدماتهم، أو لمواطنين لا يملكون أراضيَ.
وهذه الكلمة، نفُسها، تعني مدينةً جديدةً تُتّخذ مركزًا إداريًّا مدنيًّا (civique) وتجاريًّا لذلك الإقليم، ومجموع الرّجال الذين يأتون للتوطّن والسُّكنى في المؤسَّسة الجديدة.
في اللّغة الفرنسيّة، كانت كلمةُ «مستعمِر مستوطِن» (colon) تعني، في القرن الرّابع عشر، «مؤاكِر/مزارع كراء» (métayer)؛ ثمّ أُطلِق على «السّكّان» (habitants) الذين ينطلقون للاستقرار في «مستعمَرات» ما وراء البحار. إذنْ، المعنى الأوّلُ للمصطلح واضحٌ ومتناغم جدًّا.
«الاستعمارُ» هو فعل تنميةٍ لإقليمٍ غيرِ مُستغَلٍّ، أو هو مُعتبَرٌ كذلك، من خلال إعماره بإسكان مجموعةٍ من النّاس فيه. لكنْ، هل كلُّ إسكان/سُكنى (peuplement) هو استعمارٌ (colonisation)؟ الجواب: كلّا.
يستلزمُ الاستعمارُ (colonisation) وجودَ علاقةٍ وثيقةٍ ودائمةٍ للإسكان بالأرض التي يَشغلها/يحتلّها، وانتزاعًا للأراضي وإجراءَ تغييرٍ في إقليمِ الأرضِ المستعمَر. الاستعمارُ ساكنٌ مُقيمٌ (sédentaire) وثقيلٌ مُركَّزٌ (dense)، من أجْل ذلك، فإنّ شعوبَ الصّيادين والجامِعين (ramasseurs) لا تستعمرُ (ne colonisent pas)، لأنّها تلاحق أسبابَ معيشتها من دون أنْ تستقرّ في محلٍّ بشكل دائمٍ، ولا تعمل على تغيير الطبيعة التي يندمج فيها نوعُ حياتهم القنّاصُ (prédateur). ومن أجْل ذلك أيْضًا، فإنّ القطّافين (cultivateurs)، المتنقِّلين على الوقيد (brûlis)، لا يستعمِرون، لأنّ إقاماتِهم ليست سوى مؤقَّتةٍ. أمّا مُرّبُّو الماشية الرُّحّلُ، فإن تَجوالَهم المستمرَّ وهجراتِهم الدّائمةَ يمنعان، كذلك، من الكلام عن «استعمار» (colonisation) بخصوصهم. لكنّ أعمالَ تربية الماشية المستقرةَ في المكان، وحتّى تلك المنتجعةَ (transhumant) في نقاطٍ ثابتةٍ، مثل مزارع تربية الماشية الكبرى (ranches) في أمريكا الشّماليّة، والإقامات (estancias) في الأرجنتين، بالإمكان أن تدخل [هذه] تحت اسم «استعمار» (colonisation)، في ما لو أردنا أنْ نغضّ الطّرفَ عن الكثافة السّكّانيّة المسموحِ بها في أعمال تربية الماشية الـمُمتدَّة (الكبرى / (extensive.
هل الإسكانُ الحضَريُّ هو استعمارٌ؟
الجوابُ: أجلْ[32]، لكنْ...
الجوابُ هو «أجلْ» إذا ما راعيْنا بُعْدَيِ الكثافة ودوام الاستقرار. تركيبُ «Colere urbem» يعني السُكنى في المدينة، والمعنى الأكثر استعمالًا لكلمة «مُستعمَرة» (colonie) كان يشير إلى «مركز حَضَريّ». لا ينفكّ «الاستعمارُ الرّومانيُّ» عن الإنشاءات الحَضَريّة التي كانت أقطابًا لأقاليم من الأراضي الزّراعيّة، كانت تُسمّى، أيْضًا، «مستَعمَراتٍ». تعمّمت في زمننا هذا ظاهرة التّحضّ (التّحضير / (urbanisation في البلدان الصّناعيّة، وتتصاعد بخطواتٍ كبيرةٍ في البلدان الأخرى: هذا لا يمنع من بقاء الفلاحة/الزّراعة، في كلّ مكانٍ، قاعدةَ الاقتصاد طالمًا بقي الإنسان عاجزًا عن مضغ الحديد وشرب النّفط؛ تحتاج «المستعمرةُ»، إذنْ إلى قاعدةٍ فلاحيّةٍ/زراعيّةٍ لتموين المدن بالغذاء، وعمليّة التّنمية لاقتصادٍ تامٍّ انطلاقًا من نقطة الصّفر، من الطبيعيّ أنْ تبدأ من الحاجة الأولى، إذنْ لا بدّ من الفلاحة/الزّراعة قبل كل شيءٍ آخَر. وبالتّالي، فإنّ كلّ مستعمرةٍ حضَريّةٍ محْضٍ سوف تكون ناقصةً وهشّةً، بسبب كونها تابعةً في تلبية حاجاتها الأساسيّة إلى جهةٍ خارجيّةٍ. كمثال على ذلك، نذكر «المستعمرات» الأجنبيّة التي أُقيمتْ في المدن بغاية التّجارة، والمجتمعة في بعض الأحياء حيثُ كانت أحيانًا تتمتّع بامتيازات «الأراضي الخارجية» (exterritorialité) وبالاستقلاليّة (الفونْداسي الإيطاليّة “fondaci”، ومصارف الهانْس “comptoirs de la Hance” في القرون الوسطى، ومعازل اليهود “ghettos” في أوروبا الشرقية، والامتيازات الاحتكاريّة في المواني الصّينيّة زمن المعاهدات غير المتكافئة...). لكنْ، تلك «المستعمراتُ» الحَضريّةُ كانت تحت رحمة الحكومة [صاحبة الأرض] التي تَغضّ الطّرْفَ عنها مكرَهةً، بسبب فقدانها القدرة على مراقبة أوضاعها الدّاخليّة. في زمننا، تمّ إلغاءُ كلِّ امتيازاتها: لم يبقَ منها سوى تعبير «مستعمَرات أجنبيّة» ولقب «قنصل» الذي يحمله بعض الدّيبلوماسيّين. كذلك لا ينطبق تمامًا اسم «مستعمرات» على المصارف التّجاريّة الـمُحصّنة (fortifiées)، التي لم يكن لها سكّانٌ دائمون. وأخيرًا لا يستأهلُ اسمَ «استعمار» (colonisation) أيُّ إسكان محدودٍ بجسمٍ إداريٍّ يُقيم في العواصم والمدن الكبرى، حتى ولو كان غزير العدد (pléthorique).
وهكذا، فإنّ «الاستعمار» (colonisation) يستلزم إذن، وجودَ عمليّة استغلالٍ لجميع موارد البلد يقوم بها سُكّانٌ جُدُدٌ يستقرّون فيه ويشكلّون مجتمعًا تامًّا كاملًا.
هذا التّعريفُ الذي نقترحه لمصطلح «الاستعمار» (colonisation)، مطابقٌ لعلم الاشتقاق (étymologie) وللمنطق، لكنّه لا ينسجم مع المعنى المقبول بشكلٍ عامٍّ في أيامنا هذه، الذي يرى أنّ الاستعمار (colonisation) يستلزم السيطرةَ/الهيمنةَ والاستغلالَ، أيْ إنّه يعني السيطرةَ/الهيمنةَ بغاية الاستغلال. لكيْ نفسّر هذا التّنافر (discordance) يجب أنْ نُحلّلَ (traiter) العلاقات بين المستعمرات والمركز الاستعماريّ.
تاريخيًّا، كانت تلك العلاقاتُ ترجع إلى نوعيْن من التّناقضات: الاستقلاليّة (autonomie) والتّبعيّة (dépendance). الحالة الأُولى تُمثّلها حالةُ المستعمراتِ اليونانيّةِ في عصر المدن. في وقتٍ متأخِّرٍ جدًّا، تُمثّل الولاياتُ المتّحدةُ الأمريكيّةُ، ثمّ مِن بَعدها الولاياتُ اللّامتحدةُ الأمريكيّةُ اللّاتينيّة، وأخيرًا الدّومينيوناتُ البربطانيّة (دولٌ كانت مرتبطةً بالتّاج البريطانيّ / (Dominions britanniques، تُمثّل مستعمَراتٍ مستقلّةً عن مراكزها الاستعماريّةِ. يُفسِّر ذلك الاستقلالُ، الذي كان قد اُنتُزع بالقوّة في الحالتين الأُولَيَيْن، المسايَرةَ النسبيّةَ التي كانت الحكومةُ البريطانيّةُ قد تعاملت بها، منذ سنة 1840، إذْ تركت مستعمَراتِها تسير نحو حكمٍ ذاتيٍّ (self government) صار مُطلقًا بشكلٍ تدريجيٍّ تصاعديٍّ. يرى أغلبُ الكُتّاب السّياسيّين البريطانيّين في القرن التّاسع، وبعضُ الكتّاب الفرنسيّين، أنّ ذلك التّطوُّرَ كان هو المصيرَ الحتميَّ لتلك المستعمرات، ويذكرون السّابقةَ اليونانيّة لتأييد رؤيتهم. في ذلك يقول جول دُوفالْ:
«لقد كانت المبادئُ والمشاعرُ التي كانت تحكم الاستعمارَ (colonisation) اليونانيَّ هي الأفضلَ الّتي لم تطبّقِ البشريّةُ مثلها البتّةَ، وأيُّ حضارةٍ مهما بلغت من التفوّق لا يمكنها أنْ تتصوّر أرفعَ من تلك الممارسات؛ لقد كانت تتلخّص في اسم «الاستعماريّ» (métropole)، المدينة الأمّ، المدينة الوطن. لقد كانت علاقاتُ المستعمَرة، مع المدينة الأمّ التي أنشأتْها، مصوغةً على نمط الرّوابط العائليّة... وهكذا فإنّ المستعمراتِ اليونانيّةَ، التي كانتْ قائمةً على عرفان الجميل (réconnaissane)، وعلى المحبّة، وعلى التّضامن والتّعاون في المصالح، بمقدار اعتمادها على قواها الذاتيّة، لم تكن محرومةً من الحقّ في التّنمية الحرّة والتّامّة لإمكانيّاتها الإنتاجيّة... لقد كانت تَحكم نفسَها بنفسها، وكانت تسكّ عملتها باسمها هي...، في كلمةٍ، لقد كانت تتصرّف كسيّدةٍ على مصيرها الخاصّ، ولم تكن هي أيْضًا، تتخلّف عن إنشاء مستعمَراتٍ جديدةٍ من خلال تفرّعاتٍ (عمليّات إفراقٍ / (essaims متتاليةٍ... لقد كانت تنمو، منذ نشأتها إلى اشتداد عودها، في عمليّات تقدُّمٍ سريعةٍ، وكانتْ هذه السّيرورةُ، تتّسم باستقلالٍ تامٍّ، وكان هذا الاستقلالُ يعظّم مصيرَها ونصيبَها من دون أنْ يفسخَ الذّكريات، والمودّات والولاءات»[33].
لقد تجدّد هذا المثالُ في عالَمنا المعاصر مع تطوّر الإمبراطوريّة البريطانيّة إلى كومنويلث مكوَّنٍ من أممٍ متساويةٍ وذاتِ سيادة من خلال ولاءٍ عامٍّ للتّاج. كان گلادْسْتُوْنْ (GLADSTONE) يقول، وهو يتحدّث عن المستعمَرات البريطانيّةَ، أنّ:
«المبدأ الكبير لأنگلترا، هو تكثير العِرْق الأنگليزيّ من خلال تعميم مؤسَّساتها (...) تتمثّل العمليّةُ في أنْ تَجمع عددًا معيَّنًا من الرّجال الأحرار الذين يُوجَّهون لتأسيس دولةٍ مستقلّةٍ في جزءٍ آخَرَ من الكرة الأرضيّة بمساعدة مؤسّساتٍ مماثلةٍ لمؤسّساتك. وتتطوّرُ تلك الدّولةُ الناشئةُ من خلال مبدإ النموّ الذي يحميه النّظامُ الحاكمُ في المركز الاستعماريّ (الوطن الأمّ) ضدّ كل عدوانٍ أجنبيٍّ، وهكذا تنتشر، مع الزمن، لغتُك، ودينُك إلى تخوم كوكب الأرض»[34].
لا وجود لسيطرةٍ/هيمنةٍ هنا، بل تُوجَدُ وصايةٌ مُؤقَّتةٌ فقط، كما لا وجود لاستغلالٍ من المركز الاستعماريّ.
في الحالة الأخرى، الوحيدة المطابقةِ للفكرة السّائدةِ، الاستعمارُ (colonisation) هو وسيلةٌ للسّيطرة/الهيمنة وللاستغلال. تعطي الإمبراطوريّةُ الرّومانيّةُ المثال الأفضلَ لاستعمارٍ (colonisation) تابعٍ لضرورات (nécessités) الغزو وضرورات التّحكُّم في المقاطعات الـمَغْزُوَّة. لقد كان جُولْ دُوفالْ أقلَّ حماسةً لهذا الشّكل من الاستعمار (colonisation):
«الاستعمارُ (colonisation) الذي يُفتتَح بالغزو يُقوَّم بالفلاحة/الزّراعة. لكنّ الحضانةَ الرّومانيّةَ لم تكن أبدًا، تُفسِح في الحريّة وتتصرّف بكرمٍ إلّا بشكلٍ جزئيٍّ. لقد كانت تدبّر حكم المستعمرات بالشّكل الأكثر نفعًا وربحيّةً لسيطرتها/هيمنتها»[35].
لقد كانت شبكةُ المستعمراتِ الرّومانيّةِ كالعمود الفقريّ للإمبراطوريّة؛ لقد كانتْ تُؤمِّن التّحكّم في المقاطعات، بدْءًا، ثمّ رَوْمنتُها (romanisation) بعد ذلك. هذا المثالُ كان له سِنْخٌ في ما قام به الغُزاةُ ((Conquistadors الإسبانيّون في أمريكا، الذين حاكتْ عمليّاتُهم في تأسيس المستعمراتِ التّخطيطَ الحضَريَّ الهيبّودَمينيَّ (hippodamien) للمستعمرات الرّومانيّةِ. في وقتٍ لاحقٍ، تقمّص الغُزاةُ الفرنسيّون للجزائر الفرنسيّة دورَ الوَرَثة لبُناة مدينة تيمگادْ (TIMGAD) (مدينة رومانيّة أثريّة في ولاية باتنة الجزائريّة، بُنيتْ سنة 100 م في عهد تراجان، كانت تلعب في البداية دورًا دفاعيًّا، لتصبح في ما بعد مركزًا حضاريًّا كانت تُسمّى تاموگادي / (TAMOUGADI: يُذكَر أنّ جنودَ [الماريشال] بيجو (BUGEAUD)، [العسكريّ الفرنسيّ، وحاكم الجزائر في بدايات احتلالها]، كان شعارُهم «السّيف والعربة».
لقد كان الاستعمارُ (colonisation) قبل عصر الإمبرياليّة تابعًا تمامًا للاستغلال، على الرّغم من وجود عددٍ ضئيلٍ من الاستثناءات. لم تكن السّيطرةُ/الهميمنةُ، نفسُها، سوى وسيلةٍ ضروريّةٍ بلا شكٍّ، في خدمة الاستغلال. ولم يكنِ الاستعمارُ (colonisation) سوى نتيجةٍ اضطراريّةٍ غيرِ مُتعمَّدةٍ للاستغلال. لقد كانت نقطةُ الانطلاق، دائمًا، مشروعًا لغايةٍ الرّبح، سواءً من فعل الدّولة (البعثات البرتغاليّة) أم أشخاصٍ (كولومب COLOMB، وكُرْتازْ CORTÈS، وبيزارُّو PIZARRO وألْماگْرو (ALMAGRO، أو شركات مساهمة. لقد كان دورُ الدّولةِ التّرخيصَ والحراسةَ من أجل استرجاعها وفق روحٍ مركنتيليّةٍ. لم تكن الحكوماتُ الأوروبّيةُ أجمعَ، تعدّ المستعمراتِ أجزاءً من أراضي الدّولة. لقد كان يُطلَق على المستعمرات أسماء ساحرةً للمغامرين الذين تمّ إرسالهم: إسبانيا الجديدة، أنگلترا الجديدة، فرنسا الجديدة، لكنّ الحكومات لم تكن تؤمن بها.
في البداية، كانت إدارةُ تلك المستعمرات تُوكَل دائمًا، إلى أشخاصٍ أو إلى شركاتٍ إقطاعًا أو ملكيّةً. لقد كانت إسبانيا هي الأولى التي أرستْ صيغة الحكم المباشر من المركز الاستعماريّ. وهكذا أصبحتْ مناطقُ النّفوذِ الاستعماريِّ ملكيّةً لدولةِ المركزِ، التي تنتظر منها مدخولًا؛ فالمستعمراتُ لا وجودَ لها، لا بذاتها ولِذاتها.
وبالنتيجة، فإنّ الإسكان الـمُميِّزَ الأساسيَّ للاستعمار (colonisation)، لم يكن مَلْحوظًا كغايةٍ للمستعمرة[36]. جُملةُ مونتسْكيو، سالفةُ الذّكر، كاشفةٌ عن هذا العمى[37]. لم يكنِ المستعمِرون المستوطِنون (colons) موجودين إلّا بوصفهم أيْديًا عاملةً ضروريّةً لاستغلال الموارد المحليّة لفائدة المركز الاستعماريّ. كانوا يُعتَبرون منتدَبين في مهمةٍ لخدمة المركز، أو بعبارةٍ أخرى، في إقامةٍ مؤقَّتةٍ للإثراء قبل العودة إلى الوطن. وهكذا، فقد تمّ تجاهُلُ مسألة تجذير السّكان الذين تمّ إرسالُهم في وسطٍ جديدٍ يوفّر لهم إمكانيّاتِ ترقٍّ مجهولةٍ في الوطن الأمّ. لقد كان ذلك الإنكارُ لمسألة الإسكان في المستعمرات عامًّا، مع استثناء الإسبانيّين، الذين أقرّوا، منذ البداية، بالإسكانَ كغايةٍ من غايات الاستعمار (colonisation). لقد ثار المستعمِرون المستوطِنون الأوائلُ في جزر الأنتيل (ANTILLES) ضدّ الإخوان الكولومب (COLOMB)، معتبرين إيّاهم مجرّدَ أيْدٍ عاملةٍ تابعةٍ لهم لخدمتهم. لقد افتكّوا من التّاج الإسبانيّ الإقرارَ بحقوقهم، التي هي حقوقٌ لكلّ مواطنٍ إسبانيٍّ:
حيازة ممتلكاتٍ.
تشييد مدنٍ تتوفّر على امتيازاتٍ بلديّةٍ (franchises municipals).
تنظيم بعثات استكشاف.
لقد استفاد كورتازْ من جميع تلك الحقوق، مثل جميع المغامرين الغُزاة الذين استقرّوا في أماكنهم في المستعمرات بلا نية رجوعٍ إلى الوطن. لكنّ الشعوبَ الاستعماريّةَ الأخرى أثبتتْ عدمَ اهتمامٍ بعامل الإسكان، مع وِجْدانهما الحلَّ بالالتجاء، بشكلٍ واسعٍ جدًّا، إلى الأيْدي العاملة الإفريقيّة. لقد كانت النّتيجة جليّةً جدًّا في جزر الأنتيل: الجزُرُ الإسبانيّةُ أغلب سُكّانها من البيض، بشكلٍ واضحٍ، ممّا عليه الأمرُ في الجزُر التي «استعمرتها» الشعوبُ الأخرى. هذه الأخيرةُ، لكونها قد تمّ إسكانُ أغلبيّةٍ كبيرةٍ من السّود فيها، فقد استعمرها الأفارقةُ، في النهاية، بتمام معنى الكلمة. في سانْتْ-دُومِنگُو (SAINT-DOMINGUE)، طَرد العبيدُ الأوائلُ أسيادَهم منذ سنة 1791م، ووجدوا أنفسَهم الأسيادَ الوحيدين لبلد الهاييتي (HAÏTI).
لقد أدّى ذلك الإنكارُ لعامل الإسكان إلى نزاعِ مصالحَ خطيرٍ بين «المستعمرات الحقيقية» (colonies varies)، أيْ تلك التي أُسكن عددٌ كبيرٌ من المستعمِرين فيها، وبين المراكز الاستعماريّة. لقد أدّت منظومةُ الاستغلالِ المتمحورةُ حول المركز الاستعماريّ إلى الإضرار بالمصالح وبالطموحات الخاصّة بالمستعمِرين المستوطِنين، الذين كانوا يمارسون استغلالًا ذاتيًّا داخليًّا (auto-centrée)، أيْ تنميةً «عاديّةً». لقد كان المستعمِرون المستوطِنون في حاجةٍ ماسّةٍ إلى حماية المركز الاستعماريّ طالما كانوا في حالة ضعفٍ يُعجزهم عن التّصدّي لهجمات السّكّان البلديّين الأصليّين (indigènes)، والقوى المعادِيةِ. لكنّ المستعمَرةَ لمّا تكبُر تقوى وتصبح قادرةً على الدّفاع عن نفسها بقواها الذّاتيّة. اقتصادُ المستعمرة هو طبيعيًّا امتدادٌ تكامليٌّ لاقتصاد المركز الاستعمار للدّولة الأمّ في مرحلةٍ أُولى. تبدأ تنميةُ أيُّ دولةٍ بالاستعمال «الأوّليّ» لموارد الأرض ظاهرها وباطنها، والتي تكون عادةً مختلفةً عن الموارد الموجودة في المركز الاستعماريّ. يتمّ تطويرُ الحرف التّراثيّة والصّناعة بشكلٍ تصاعُديٍّ في مرحلةٍ ثانيةٍ، ويؤدّي ذلك إلى منافسةٍ مع مصانع المركز الاستعماريّ. ينتقل الاقتصادُ الاستعماريُّ من الطّفولة إلى النُّضج. لكنّ الميثاق الاستعماريَّ يمنع هذا النّموَّ الطبيعيَّ. وهكذا يظهر أنّ الميثاقَ الاستعماريَّ لا يتوافق البتّةَ، كما نسمع كثيرًا، مع طبيعة الاستعمار (colonisation). لقد فُرض على المستعمَرة، عكسَ نُمُوِّها الطبيعيّ. الميثاقُ الاستعماريُّ هو غُلُّ المستعمرة، هو (سريرُ بروكيست / (lit de Procuste. لقد أدان العديدُ من العقول «الميثاقَ الاستعماريَّ»، بما لم نلحظه عند الـمُعادين للاستعمار بالمقدار نفسِه. لقد كان المركيزُ دو ميرابُو (de MIRABEAU)، بلا شكٍّ، هو الأكثرَ تبصّرًا بالأمر، فقد أثبت في كتابه صديق النّاس (L’Ami des Hommes) عدمَ انسجام (incohérence) المفهوم المركنتيليّ للاستعمار (colonisation)، في عباراتٍ لو تمّتْ مراعاةُ محتواها لكان هذا المقالُ عديمَ النّفع:
« تكوّنت من هذه الأشياءِ الثلاثةِ ذاتِ القابليّة الضّعيفة لِلائتلاف في تركيبٍ منسجمٍ، أقصد روحَ السّيطرة/الهيمنة (esprit de domination)، و «روحَ التّجارة» (esprit de commerce) و «روح السّكّان» (الإسكان / (esprit population، تكوّنت منظومةٌ جديدةٌ تمامًا، وأتجرّأ فأقول إنّها منظومةٌ مِسخٌ وحشيّةٌ (monstrueux)، تمثّل السّياسةَ الحاضرةَ لأوروبا في ما يتعلّق بأمريكا.
روحُ السّيطرة/الهيمنة يرغبُ في الاستيلاء على مساحاتٍ أكبرَ من أراضي هذا البلد، الذي لا يمكن لكلّ سكّانه الحاليّين أنْ يملأوا مساحاتِه الشّاسعةَ، حتّى وإنْ تمّت موْضَعتُهم متباعدين واحدًا فواحدًا بحيثُ لا يتسامعون إلّا بأصواتٍ مرتفعةٍ. وهو يرغبُ علاوةً على ذلك في أنْ يحكمَ مواطنيه الأمريكيّين بشكلٍ استبداديٍّ بمقدار ما كان يفعل مع الرّازحين على أبواب العاصمة أو أكثرَ.
روحُ التجارة، الذي دافِعُه في الأساس هو إرادةُ كلّ شيءٍ لنفسه ولا شيءَ للآخَرين، ينظر إلى المستعمرات بوصفها مزارعَ تجاريّةً، ويريد إطعامَها، وكِسْوَتَها، وتأثيثَها، وتزيينَها على نفقته ووفِق هواه هو، ويريد الحصولَ على موادِّها الغذائيّة بالشروط نفسها، والإذْنَ لها ومنْعَها حسب مصالحه هو، ويعامل في النّهاية المستعمِرين المستوطِنين بلطفٍ، تمامًا كما تُعامِل القِططُ الصّيادةُ (chats-huants) الفئرانَ، تزوّدها بمؤونة الشّتاء، تجلب لها الحبوب، لكنْ تكسر سيقانَها لتمنعها من الذّهاب للبحث عن مكانٍ تراه أصلحَ لمعيشتها.
روحُ السّكّان (الإسكان)، أخيرًا، يدرك جيّدًا الحاجة الماسّة لتعزيز المستعمرات وتنميتها، لكنّه لـمّا يجد نفسه مُزْعَجًا في حرّيّته من إخوانه في الأوّل (روح السّيطرة)، وفي صناعته في الثّاني (روح التّجارة)، لا يتّخذ سوى إجراءاتٍ خاطئةٍ، والتي تكون نتائجُها مناقضةً تمامًا للغرض من اتخاذها... أقول في عبارة موجَزةٍ: كلُّ التّدابيرُ المتعلقةُ بهذه المجتمعات متنافرةٌ ومناقضةٌ بعضها للبعض الآخر...»
لقد كُتب هذا التّحليلُ الرّائعُ قبل ثورة المستعمِرين المستوطِنين الأمريكيّين بعشرين سنةً[38].
وهكذا نصل إلى قلب المشكلة الذي يطرحها أمامنا تأويل الاستعمار (interprétation de la colonisation). مثّلتْ ثورةُ المتمرّدين الأمريكيّين ضدّ التّاج البريطانيّ الحدثَ المفتاحَ لتاريخ الاستعمار (colonisation). إنّ الجهلَ بالمعنى الحقيقيّ لتلك الثّورة هو منشأُ جميع الأخطاء وكلّ حالات اللَّبْس اللّاحقة حول طبيعة الحدث/الفعل الاستعماريّ (fait colonial). لقد عُرِضتْ خطأً، بوصفها «أوّل حركةٍ تحرُّريّةٍ من الاستعمار» (décolonisation)، وبوصفها «ثورةً ضدّ الاستعمار (colonisation) قام بها المستعمِرون المستوطنون». هذ التّفسيراتُ هي حرْفيًا مُبْهمةٌ غيرُ قابلةٍ للفهم. كيف يمكن للمستعمِرين المستوطِين أنْ يُدمّروا إنجازَهم، وأنْ يثوروا ضدّ أنفسهم؟ إنّ ثورة المستعمِرين المستوطِنين الأمريكيّين هي ثورةٌ لصالح الاستعمار (colonisation) الذي يمنعهم الميثاق الاستعماريُّ من تطويره. لقد كانت ثورةً سياسيّةً بلا شكٍّ، ضدّ السّيطرة/الهيمنة: لقد كان المستعمِرون المستوطِنون يمتنعون عن دفع الضّرائب التّي لم يُصوّتْ عليها مُمثِّلوهم. لم يكونوا يفعلون أكثرَ من المطالبة بالحقوق المُعترَف بها للمواطنين البريطانيّين: «لا ضرائبَ بلا تمثيل» (no taxation without representation)، وإنشاء برلمانٍ امبراطوريّ كان من الممكن أنْ يمنحهم رضًا باجتناب التّوريث (succession). لذلك نجد أنّ الأمريكيّين أنْفسَهم يقدّمون حرب الاستقلال التي خاضوها بوصفها ثورةً سياسيّةً. لكنّ الذي كان يفرض التّوريثَ هو جهلُ المركز الاستعماريّ للدّيناميّة (dynamisme) الخاصّة بالواقع الاستعماريّ. لقد كان الميثاقُ الاستعماريُّ يسعى إلى منع التّصنيع في أمريكا لإبقائها سُوقًا للمنتوجات البريطانيّة. لقد كان يُعيق تطوّرَ التّجارة البحريّة الأمريكيّة بمنع العلاقات المباشرة مع الدّول الأجنبيّة. وخاصّةً، وكان يُعارض التوّسّعَ نحو الغرب بضمّ الأرضي، التي كان المستعمِرون المستوطِنون يحاربون لأجلها الفرنسيّين. لقد كان البلاغُ الملكيُّ لسنة 1763م، قد أغلق على الاستعمار (colonisation) الأراضيَ الـمغزُوّةَ بين جبال الأبالاش (Appalaches) ونهر الميسيسيبي (Mississipi). من الواضح أنّ قضيّةَ الاستعمار (colonisation) كان يدافع عنها المستعمِرون المستوطِنون لا الملكُ جورج الثّالث. ولقد فهم السّكّانُ البلديّون الأصليّون تلك الحقيقةَ، ولم ينخدعوا بريش أنصار حزب الشّاي في بوسطن (BOSTON): لقد اصطّفوا بوضوحٍ خلف الملك!
لقد أدّى التقنُّعُ الرمزيُّ (déguisement) لمتمرِّدي بوسطن، للأسف، إلى نتائجَ مزعجةٍ جدًّا في ما يتعلّق بالفهم اللّاحق للاستقلال الأمريكيّ وللظّاهرة الاستعماريّة عمومًا. لقد اختار الأمريكيّون، بدلًا من أنْ يبرزوا، في، ثورتهم، بصفتهم الحقيقيّة كمستعمِرين مستوطِنين، اختاروا أن يُقدّموا أنفسَهم كـ»سكّانٍ بلديّين أصليّين» (indgènes)، ضحايا للاستغلال الإمبرياليّ البريطانيّ[39]. . لقد كانَ السّكّانُ البلديّون الأصليّون الحقيقيّون [الهنود الحُمْر] يُمثّلون الحالةَ الوحيدةَ، ربّما، في عدمَ الانخداع بشعارات «نزعة معاداة الاستعمار الأمريكيّة» (anticolonialisme américain). من المُرعب التّفكيرُ بأنّ السّياسةَ الخارجيّةَ لقوةٍ عظمى قد تمّ تعريفُها وتحديدُها (déterminée)، في قسمٍ كبيرٍ منها، بتفسيرٍ لامنطقيٍّ موغِلٍ في الخطأ بهذا القدر الفاحش. لقد ظهرتْ بعضُ التّعليقاتُ الشاذّةُ في الصّحف الأمريكيّة خلال حروب التّحرُّر من الاستعمار في شمال إفريقيا: مثلًا، أنّ ثورة المغاربة (سكّان المغرب الأقصى/ مرّاكش سابقًا / (Marocains ضدّ الفرنسيّين تشبه تمامًا ثورةَ الأمريكيّين ضدّ الأنگليز! إنّ الأمريكيّين، الذين كانوا في القرن التّاسع عشر أكبرَ الممارسين للاستعمار (colonisation)، كان لزامًا عليهم قطعًا في مهمتّهم النّظريّة: أنْ يفرضوا مصطلحيّةً للاستعمار (terminologie de la colonisation) تعكس وجهةَ نظر المستعمِرين المستوطِنين لا وجهة نظر ممثّلي المركز الاستعماريّ؛ وذلك لأنّ الاستعمارَ (colonisation) يبقى منظورًا إليه من وجهة نظرٍ مركزيّةٍ أوروبّيّةٍ (européo-centriste) تُشوّه تقويمَ الظّاهرة. أيُّ مستعمرةٍ تتخلّص من وصاية المركز الاستعماريّ ينتهي وضْعُها كـ»مستعمَرةٍ»، وأيُّ أرضٍ كانتْ قد غزتْها قوّةٌ أوروبّيةٌ يعدّ فوْرًا مستعمَرةً. إنّ ما يعرِّفُ المستعمَرةَ هو تبعيّتُها لمركزٍ استعماريٍّ، لا سيرورةُ الاستعمار (processus de colonisation) التي تحصل فيها، أيْ لا العمليّةُ الاستعماريّةُ في حدّ ذاتها. لقد تجرّدتِ الولاياتُ المتّحدةُ الأمريكيّة من صفة «مستعمرة»، بعد استقلالها عن أنگلترا، مع أنّ المستعمِرين المستوطِنين يمارسون فيها عمليّةً استعماريّةً أنشطَ من أيّ وقتٍ مضى؛ والهندُ مستعمرةٌ على الرّغم من أنّ المستعمِرين المستوطِنين غائبون فيها! لقد تطوّر الإسكانُ الأوروبّيُّ، خلال القرن التّاسع عشر، في الدّول المستقلّة: الولايات المتحدة الأمريكيّة، والأرجنتين، والبرازيل، أو في الدُّول التي كانت في طوْر الانتقال من الاستقلاليّة إلى الاستقلال: كندا، وأستراليا، وزيلندا الجديدة، وإفريقيا الجنوبيّة. لقد تمّ استغلال التَّبَعيّاتِ الإمبراطوريّة من دون إسكانٍ ذي شأنٍ. يوجدُ تنافرٌ تامٌّ بين مجالات فعل الاستعمار (colonisation) وبين مجالات فعل السّيطرة/الهيمنة. وعلى الرّغم من ذلك تبقى كلمةُ «استعمار» (colonisation) مرادفةً لكلمة «سيطرة/هيمنة» ولكلمة «استغلال»، من خلال بقاء العقليّة المركنتليّة القديمة. وهكذا فقد حدث «انقلابٌ حقيقيٌّ في المعنى»: لقد تمّ الخلطُ بين «الاستعمار» (colonisation) و «نقيضه».
هذه الثّورةُ الدّلاليّةُ هي أوْلى بأنْ تبعث على الأسف لا سيّما وأنّه، في الوقت نفسه، قد انتشر المفهومُ الصحيحُ لـ»الاستعمار» (colonisation). بينما كان الأمريكيّون يُحجمون عن المعارضة النّظريّة لما يحاربون لأجله في الممارسة العمليّة، نرى أنّ الأنگليز، بشكلٍ مفارقٍ، يفهمون المعنى الحقيقيَّ لثورة المستعمِرين المستوطِنين [الأمريكيّين]. وفي الوقت نفسه الذي فيه يستخلصون النتائجَ العمليّةَ، كانوا يعبّرون بوضوحٍ عن الدّرس النظريّ بتعريفهم الصّائب للحدث/الفعل الاستعماريّ (fait colonial). وهكذا نرى أنّ الموسوعة البريطانيّةَ، في طبعتها لسنة 1877، قد أعطتْ، كأفضل مثالٍ على الاستعمار (colonisation)، إسكانَ الولايات المتحدة الأمريكيّة لأمريكا الشّماليّة، وعرضتْ تكوينَ هذه الأمة الجديدة كنجاحٍ للاستعمار (colonisation) البريطانيّ[40]. يوكّد المقالُ نفسُه [في الموسوعة] بوضوحٍ أنّ الهندَ البريطانيّةَ ليستْ مستعمَرةً، بلْ أنّها إمبراطوريّةٌ [جزءٌ من الإمبراطوريّة]. في فرنسا، يمكن عدُّ جُولْ دُوفالْ و جُولْ هارْمنْدْ تابعَيْن، في أفكارهما بهذا الخصوص، للنظريّات البريطانيّة.
أحدُ المزايا العديدة لمقال «مستعمرة» (colony) [في الموسوعة البريطانيّة] هو، بالتّحديد، إقرارُه بأنّ الاعتبارات القانونيّةَ تقلّ أهميّةً عن الأحداث العمليّة في الواقع. لم يكْفِ الهندَ منحُها وضع «مستعمرة ملكيّة» (مستعمرة تاجيّة / (Crown Colony، سنة 1858، لكي يتمّ استعمارُها [لكي تصبح مستعمرةً فعلًا]. لقد استعمل الأنگليزُ عبارة «مستعمرة حقيقيّة» (colonie vraie) لمنع اللّبْس مع «المستعمرات الاسميّة» (colonies nominales): المستعمرةُ الحقيقيّةُ هي مستعمَرةٌ قد استعمرها (واستوطنها بالإسكان) مجموعةٌ سكّانيّةٌ كبيرةٌ من المستعمِرين المستوطِنين. لقد نجحتْ عمليّةُ إقناع الفرنسيّين بأنّهم في المرتبة الثّانية من حيثُ مساحة الأراضي المستعمَرة، في حين أنّهم لم يكونوا يملكون، فعلًا، إلّا مستعمرةً واحدةً هي كاليدونيا الجديدة (Nouvelle-Calédonie)![41]. لكنّ العقلَ الفرنسيّ يتميّز بالضّعف في الاعتقاد بسحر الأعمال القانونيّة، التي تُحوّل، فوْرًا، كوتشينشينيا (الكوتشيصين / (COCHICHINE إلى مستعمرةٍ والجزائرَ إلى ثلاثِ محافظاتٍ تابعةٍ للمركز الاستعماريّ [فرنسا]...
لقد اُعتُرِض على هذا النّقد بأنّ القانون ليس عديمَ الفاعليّة من جهة النتائج، وبأنّ إعلان «وضع المستعمرة» (statut de colonie) يفتح أراضيَها أمام هجرة سكّان المركز الاستعماريّ الذين يرغبون في الاستقرار فيها، وهذه الإمكانيّةُ غيرُ مضمونةٍ في دولةٍ مستقلّةٍ عن دولتهم. لقد كان روني مُونْيِي (René MAUNIER) يعدّ أنّه «لا يمكن الكلامُ عن استعمارٍ إلّا في حالة وجود احتلالٍ مع سيطرةٍ/هيمنة؛ وكذلك إلّا مع وجود هجرةٍ مع تشريعٍ قانونيٍّ»[42]. لكنّ هذا التّشريعَ القانونيَّ يمكن أنْ يكون تشريعَ المستعمِرين المستوطِنين. لا مصلحةَ لدولةٍ مستقلّةٍ، مؤسَّسةٍ على الاستعمار (colonisation) ويحكمها المستعمِرون المستوطِنون، في أنْ تكبح الاستعمار (colonisation) بمنع الهجرة إليها. لقد أرسلتْ أنگلترا مزيدًا من المهاجرين نحو الولايات المتحدة الأمريكيّة، المتحرّرة عنها، أكثرَ ممّا أرسلتْ نحو دول الدُّمينيون (الدّول المرتبطة بالتّاج البريطانيّ / (dominions. وكما لاحظْنا، فإنّ الهجرة الأوروبّيّة في القرن التّاسع عشر قد اتّجهتْ بشكلٍ كاملٍ تقريبًا نحو دُولٍ مستقلّةٍ (indépendants) أو ذات استقلاليّة (autonomes). صحيحٌ أنّ الهجرة إلى دولةٍ ذات سيادةٍ مشروطةٌ بتصريحٍ من تلك الدّولة؛ لأنّ مراقبة الهجرة هي خاصّيّةٌ أساسيّةٌ من خاصّيّات السّيادة. وحقُّ التّواصل (droit de communication)، الذي يبرّر الاستعمار (colonisation) في عقيدة الكنيسة، لا يمكن أنْ يكونّ مُطلَقًا. كيف يمكن أنْ تُصبحَ سيادةُ أيِّ دولةٍ لو مُنِح الأجانبُ حقَّ الاستقرار فيه، بلا تحديد لسقف العدد، إلى حدّ أن يصبحوا يمثّلون الأغلبيّة السّكانيّة فيه؟ سوف يفقد سُكّانُه الأوائلُ استقلالَهم مع تحوُّلهم إلى أقليّةٍ. يعرفُ الأمريكيّون خطر ذلك من تجاربهم الخاصّة: ألمْ يستحوذوا على تكساس، ثمّ على جزر الهاواي، من خلال تسرُّبهم ثمّ قيامهم بثورة؟ في القرن العشرين، عبّرت القوانينُ المتعلقّةُ بحصصِ الهجرة عن إرادةٍ سياسيّةٍ للحفاظ على التركيبة الأصليّة ( التّقليديّة / (traditionnelle للشّعب الأمريكيّ من خلال استبعاد العناصر التي كانتْ تُعدّ غيرَ مُستمثَلةٍ، وغيرَ قابلةٍ للاستيعاب والإدماج (inassimilables).
مع استثناء حالة النّزاع السّياسيّ مع المركز الاستعماريّ السّابق، لا تملك المستعمراتُ أيَّ حُجّةٍ تبرّر لها الامتناع عن استقبال مواطنيها السّابقين، سكّانِ الوطن الأمّ نفسِه [سكّان المركز الاستعماريّ]، الشبيهين بالأصل للمستعمِرين المستوطِنين في العرق. سوف يتوافد أجانبُ، تجذبهم الثّرواتُ الموعودةُ في بلد قيْدَ التّأسيس. من الأساس، كانت المراكزُ الاستعماريّة تستقبل الأجانبَ في مستعمراتها لمّا لا تجد مستعمِرين مستوطِنين من بين مواطنيها: لقد كانت المستعمراتُ الأمريكيّةُ الوسطى (نيويورك، ونيوجرسي، ودلوار، وبنسلفانيا) قلعةَ بابل (tour de Babel) حقيقيّةً قبل الاستقلال، وكانت الجزائرُ منذ 1830 مستعمرةَ أوروبا قاطبةً، لا فرنسا فحسب. كانت حكوماتُ المستعمرات المستقلّة تستقبل الأجانب بطيب خاطرٍ وفق حاجاتها، طالما يقبل هؤلاءُ المهاجرون بالانصهار في البلد البُوتقة (melting pot) للأُمَّة قيدَ التّكوُّن:
«يتكوّن العُنصرُ الـمُدْمَجُ، بالأغلبيّة، من مواطنين من المركز الاستعماريّ نفسِة (الوطن الأمّ). يقبل المستعمِرون المستوطِنون، مع ذلك، بطيب خاطرٍ، تحت ضغط الحاجات الماسّة ولاتّساع مساحة الأرض، بإمداداتٍ من المهاجرين الآخَرين، بشرط أنْ يكونوا من العِرْق الأوروبّيّ نفسِه، وفوق ذلك أنْ يطمحوا إلى الإندماج الكامل في مجتمعهم، من خلال اعتناق أخلاقهم وتبنّي لغتهم، وأنْ يصبحوا مواطنين (شركاء في الوطن / (compatriotes بالمعنى الحقيقيّ للكلمة»[43].
الآسيويّون غيرُ مُرحّبٍ بهم في المستعمرات التي أسّستْها الشّعوبُ الأوروبّيّةُ، إلّا في البرازيل. كما أنّ اختلافاتٍ أقلَّ بروزًا يمكن أنْ تؤدّيَ إلى تجميعٍ غيرِ عادلٍ لأُمّتَيْن في البلد نفسِه: كندا وجنوب إفريقيا مثالان على ذلك.
لكنْ، يجب ألّا تُنسيَنا الرّوابطُ بين موجات الهجرة المتتالية أنّ الهجرةَ ليستْ هي الاستعمارَ (colonisation). باستثاء القادمين الأوائل، الآباء المؤسِّسين (Founding fathers)، يحلّ المهاجرون في بلدٍ كان، في جزءٍ من، قد تمّتْ تنميتُه (mis en valeur). منذ 1831، لاحظ ألكْسيس دُو توكْفيلْ هذا الأمرَ:
«الأوروبيُّ الذي يطأ شواطئَ الولايات المتّحدة، يصلها بلا أصدقاءَ وغالبًا بلا مواردَ؛ لقد كان مُضطرًّا لكي يعيش إلى أنْ يستأجر الخدمات التي يحتاجها، ونادرًا ما كان يتجاوز في حركته المنطقةَ الصّناعيّةَ الكبرى التي كانت تمتدّ على طول المحيط [الأطلسيّ]. لا يمكن استصلاحُ الصّحراء بلا رأسمالٍ أو بلا قرضٍ؛ قبل المخاطرة بالدّخول في قلب الغابة يجب تعويدُ الجسمِ على قسوةِ مناخٍ جديدٍ. إذنْ، الأمريكيّون [المستعمِرون المستوطِنون الأوائلُ] هم الذين، يتركون كل يومٍ موْطنَهم (مكان ولادتهم)، ليتوغّلوا أبعدَ في مساحات الأراضي البعيدة، لاستغلالها. وهكذا فإنّ الأوروبيَّ [المهاجرَ الجديدَ] يغادر كوخَهُ (chaumèire) لكي يذهب لسُكنى السّواحل الأطلسيّة، بينما نجد أنّ الأمريكيَّ، المولودَ على السّواحل نفسِها، يتوغّل بدوره في أجواء العزلة والوحشة في أمريكا الوسطى»[44].
لقد كان استعمارُ (colonisation) الغرب [الأمريكيّ] قد بدأ فعلًا قبل موجات الهجرة الأوروبّيّة الكبرى التي تدفّقت خلال مدّةٍ طويلةٍ بعد عمليّات التّسابق الأخيرة على الأراضي، والانتهاء من الرسم النّهائيّ للحدود. لكنّ الاستعمارَ (colonisation) لم يكن مُمكنًا من دون تحقُّقِ هجرةٍ أُولى، بينما استوطنتِ الموجاتُ المتأخّرةُ عنها الأراضيَ التي كان التُخُومِيّوُن (سُكّانُ الحدود / (frontiersmen قد غزَوْها ثم تركوها خاليةً. بالمقارنة مع السّكّان البلديّين الأصليّين (indigènes)، المستوطِنين الأوائل للبلد، يمكننا التّصريحُ بأنّ الحقيقةَ هي، بشكلٍ عامٍّ، أنّ كلَّ المستعمِرين المستوطِنين، وبغضّ النظر عن أقدميّة موجة الهجرة التي ينتمون إليها، هم مُهاجرون... وأنّ كلّ المهاجرين هم مستعمِرون مستوطِنون.
إنّ الاستعمار لكونه يتمثّل في تملُّك مجتمعٍ جديدٍ لأراضي الغير من خلال الانتزاع الجبريّ بالقوّة، فإنّه يطرح مشكلةَ علاقاته بالمجتمعِ البلديِّ الأصليِّ، الشّاغلِ الأوّلِ للبلد. في الحقيقة، هذه المشلكةُ لا تُطرحُ بالضّرورة دائمًا؛ لأنّ المستعمِرين المستوطِنين يمكن أنْ يكونوا أحيانًا أوّل الشّاغلين. لقد وُجِدتْ بعضُ الأراضي خاليةً من السّكّان مثل: إيسلندا، وأرخبيل الآسور (Açores)، والمادار (Madère)، وجزر الرّأس الأخضر، وأرخبيل الماسكاراني (Mascareignes). يَطرح الاستعمارُ (colonisation) هذه الأراضي مشلكةً وحيدةً هي المشكلة البيئيّة. لكن حالة الأراضي الشّاغرة هذه تمثّل استثناءً، فلا وجودَ بعدُ لأراضٍ خاليةٍ (inoccupée) على وجه الأرض مهما كانتْ مساحتُها. وعلى الرّغم من ذلك، كان لزامًا علينا ذكـرُ هذا الاحتمال الأوّل لكيْ نُبيّن بوضوحٍ أنْ تستعمرَ (coloniser)، لا يعني أنّك تستغلُّ (exploiter) عملَ السّكّان البلديّين الأصليّين: يمكن للاستعمار (colonisation) أنْ يستغنيَ عن السّكان البلديّين الأصليّين، فحاجتُه المُطلَقةُ تنحصرُ بالمستعمِرين المستوطِنين!
عندما يُوجَد سُكّانٌ بلديّون أصليّون، يُمكن للمستعمَرة أنْ تتعامل معهم بطُرُقٍ مختلفةٍ، لكنْ لا يُمكنها تجاهلُهم. إنّ خطأ جُول دُوفالْ، متكلِّمِ الاستعمار الكبير (grand apologiste de la colonisation)، هو التّقليلُ من شأن هذه المشكلة. يُلخّص راوُول جيراردي (Raoul GIRARDET) فكرَ جُول دوفال بهذا الخصوص كما يليي:
«ينبغي ألّا نُركّزَ بشكلٍ مبالَغٍ فيه على النّزاعات بين الشّعوب، وعلى الصدّامات بين الحضارات التي تبقى غيرَ مفصولةٍ عن كلّ عمليةِ توسُّعٍ استعماريٍّ: هي ليستْ حوادثَ عرَضيّةً، ليست مظاهرَ مُزعجةً، بل هي مظاهرُ ثانويّةٌ لعملٍ عظيمٍ، جوهرُه هو “الصّراعُ ضدّ الطبيعة”، هذه الطبيعةُ التي يُباشرها المستعمِرون وهي “مهجورةٌ وجَموحٌ” (sauvage et indomptée)، فيعملون على “ترويضها وإخضاعها لقواعد الإنتاج المنظَّم”. يكتب جُولْ دُوفالْ أيْضًا: «قريبًا، حيثُ كانت الوحشةُ سائدةً، سوف تزدهر مجموعةٌ سُكّانيّةٌ بشريّةٌ؛ وحيثُ كانت الأشواكُ تُزهر، سوف تنضج المحاصيلُ؛ وحيثُ كانتِ الحيواناتُ الوحشيّةُ تحفر جحورَها وأوكارَها سوف ترتفع منازلُ شعبٍ متحضِّرٍ»[45].
إذا ما صدّقنا كلامَ كلِّ المستعمِرين المستوطِنين في العالَم، فإنّهم يؤكّدون أنّهم لم ينتزعوا سوى أراضيَ بَوْرٍ بِكْرٍ لم تُحرَثْ مِنْ قبلُ، وأنّهم لم يُحاربوا سوى العناصرَ الـمُعيقةِ لحركتهم. لم يَكنِ المستعمرون المستوطِنين يعدّون السّكّانَ البلديّين الأصليّين، الشّاغلين الأوائلَ للأرض، بشرًا يسكنون أرضَهم، بل كانوا يعدّونهم جزءًا من الطّبيعة التي كانوا مندمجين معها من خلال نمط معيشتهم «البدائيّ»، بدرجاتٍ متفاوتةٍ من شعبٍ إلى آخَرَ. لكنّ الحقيقةَ هي أنّ الأرضَ المستغَلّةَ جزئيًّا، بدرجةٍ أدنى من الحدّ المعقول، ليستْ أرْضًا بَوْرًا غيرَ مُنتِجةٍ بالكامل. والبلدُ المأهولُ قليلًا، تحت الحدّ المعقول، ليس صحراءَ خاليةً. يُمكن للمرء أنْ يفكّر أنّه كلّما كان الشعبُ البلديُّ الأصليُّ مُبعثَرًا مُفرَّقًا (clairsemé) أكثرَ، كلّما خفّتْ حِدّةُ المشكلة. هذا خطاٌ، العكسُ هو الذي يُمكن أنْ يكون صحيحُا بالأحرى. نمطُ المعيشة الذي لا يسمحُ إلّا بكثافةٍ سّكّانيّةٍ ضعيفةٍ، مثل نمط الصّيّادين الجامعين (chasseurs ramasseurs)، يتطلّب من أجل تأمين حاجات المجموعة السّكّانيّة مساحاتٍ شاسعةً جدًّا من الأرض. هذا صحيحٌ أيْضًا، بدرجةٍ أقلَّ، بالنّسبة للفلّاحين/الزّارعين الموسميّين المتجوّلين الذين يعملون في الوقيد (itinérants sur brûlis)، وبالنّسبة للرُّعاة الرُّحَّل، وحتّى بالنّسبة لفلّاحي ما قبل الثّورة الزّراعيّة في القرن الثّامن عشر الذين يطبّقون نظام المناوبة في الزّراعة بإراحة الأرض (jachère). المستعمِرُ المستوطِنُ الـمُسلَّحُ بالتّقنيَات الأكثرِ تطوّرًا، والمعتادُ على مردوداتٍ مرتفعةٍ في المحاصيل، سوف يَحكُم بأنّ السّاكن البلديَّ الأصليَّ يملك مساحةً فرْطَ شاسعةٍ من الأرض. «يجب عليه أن يفعل مثل المستعمِر»، وأنْ يعيشَ على مساحةٍ «عاديّةٍ» من الأرض. هذا منطقٌ جميلٌ، لكنّه يتجاهل حقيقةَ أنّ السّاكنَ البلديَّ الأصليَّ ليس مُجهَّزًا مادّيًّا وعقليًّا إلًا بمستوى أنْ يمارسَ نمط المعيشة الأسلافيّ (ancestral)، وأنّه لا يستطيع أنْ يستوعب مباشرةً ومن دون عوْنٍ، الزّراعة بالتّقنيات الحديثة التي يتمتّع ببها المستعمِرُ المستوطِنُ. وهكذا فإنّ التّضييق على السّاكنِ البلديِّ الأصليِّ وحصْرَه من دون تعليمه كيفيةَ الاستغلال الفعّال للمساحة التي تُركتْ له يعني واقعًا، تجريدَه من وسائل معيشته من دون تعويضه بأخرى. وبشكلٍ عامًّ، نجد أنّه يُخيِّر أنْ يرتقيَ شهيدًا حُرًّا في حرب الدّفاع عن حقّه على أنْ يموت جائعًا ذليلًا.
يُمكن للاستعمار (colonisation) أنْ يتبنّى ثلاثةَ مواقفَ تجاه السّكّان البلديّين الأصليّين:
يُمكنه إشراكُهم في مشروعه بأنْ يُزوّدَهم بتقنياتِه المتطوّرة بعد تدريبهم على استعمالها، وبأنْ يتْرَك لهم قسمًا من الأرض يستطيعون بذلك تنميتُه. هذا الإشراكُ (الشّراكةُ / (association يُمكنُ أنْ يؤدّي إلى الاستيعاب (assimilation).
ويُمكنه أنْ يُقْصيَهم بطرْدهم أوْ بحصْرهم في أراضٍ وَعْرةٍ بلا قيمةٍ (terres de rebut)، حيثُ يُحتملُ أنْ تنكسرَ سكّةُ المحراث. هذا الإقصاءُ يّسبِّبُ الحربَ، ويؤدّي غالبًا إلى حدوث عمليّة إبادةٍ جماعيّةٍ (génocide).
يُمكنه أيْضًا استغلالَهم كأيْدٍ عاملةٍ. يحقّق هذا الاستغلالُ إدْماجًا integration)) ضمن التّبعيّة والخضوع (subordination) ولا يُمكّن من تحقيق الانصهار (fusion) بين الشّعبيْن.
الشّراكةُ ليْستْ فَرَضيّةً نظريّةً بقدر ما يُمكن أنْ تَبدوَ عليه. لقد كانتِ العلاقاتُ الأولى بين السّكّان البلديّين الأصليّين وبين المستعمِرين المستوطِنين غالبًا علاقاتِ حسنِ استقبالٍ وضيافةٍ. لقد كان الجانبان يتبادلان تعليَم التّقنيات الخاصّة، لكنْ غالبًا ما كان ذلك يتمّ في مصلحة المستعمِرين، الذين كان من المستحيل عليهم البقاءُ على قيد الحياة من دون زراعة النّباتات المحليّة. لقد كانت الأراضي تُشترى بالتّراضي: لكنْ سرعان ما حلّتِ العداوةُ محلَّ حُسن الضّيافة بعد أنْ أدرك «المتوحّشون الطّيّبون» أنّ الأراضيَ التي بيعتْ قد تمّ تملُّكها (سلْبُها / (aliéneés بشكلٍ نهائيٍّ، وأنّ الوافدين الجُدُدَ الكثيرين جدًّا عددًا كانوا جَشعين. عندما يكون اختلال النّسبة العدديّة بين الشّعبيْن قويًّا جدًّا، فإنّ طبيعة الأمور تقود إلى إقصاء الطّرفِ الأقلِّ الأضعفِ.
الإقصاءُ هو، في نظرنا، النّمطُ الأساسيُّ للعلاقات بين الاستعمار (colonisation) والسّكّان البلديّين الأصليّين؛ لأنّ المستعمراتِ الكبرى، المستعمراتِ الحقيقيّةَ الأشدَّ كثافةً سُكّانيّةً، كانت قد أُسِّستْ على هذا المبدإ. الولاياتُ المتّحدةُ الأمريكيّةُ، وأستراليا، والأرجنتين، وإسرائيل، أمثلةٌ لهذه الحقيقة. في هذه المنظومة، لا يحتاج الاستعمارُ (colonisation) إلى السّكّان البلديّين الأصليّين، الذين يمثّلون أقليّةً ضئيلةً. نظريًّا يُمكن ألّا يكونَ لهم وجودٌ. والأرضُ يعدّها المستعمِرُ المستوطِنُ شاغرةً، غيرَ مشغولةٍ. عينُ المستعمِر المستوطِن لا ترى في أرضٍ للصّيد أو للسّباق، وفي بستانٍ مؤقّتٍ أو في أرضٍ مستريحةٍ (jachère)، المميّزاتِ الخاصّةَ لوجهٍ بشريٍّ. المستعمِرُ المستوطنُ، المُعضَّدُ بقانونه الإلهيّ، لكوْنه قد قرأ وأعاد قراءة الإنجيل، يعقد علاقةً رمزيّةً (mystique) مباشرةً مع الأرض الموعودة التي يبحث عنها، من دون أنْ يتوقّف لكيْ يُراعيَ المتوحّشين المحتلّين للأرض بغير حقٍّ (squatters) الذين يُمكن أنْ يعترضوا طريقَه. المستعمِرون المستوطِنون ينطلقون في ممارساتهم من قناعةٍ بأنّهم الشّعبُ المختارُ، الـمُكلَّفُ برسالةٍ إلهيّةٍ: هي تكثيرُ النّسل ومضاعفةُ التّكثير لتكوين شعبٍ كثيرِ العدد مِثْل حبّات رمل البحر. في هذا المشروع لا مكانَ البتّةَ للسّكّان البلديّين الأصليّين، الذين هم، وِفق هذه القناعة، مجرّدُ ظاهراتٍ عارضةٍ طارئةٍ (épiphénomènes fortruits).
ما الذي يستطيع السّكّانُ البلديّون الأصليّون فعلَه، بعد أنْ طردهم المستعمِرون المستوطِنون من أراضيهم، وجرّدوهم من مجالهم الحَيَويّ؟ لم تنجح جهود الحدْثنة (التّحديث / (modernisation الأكثر جدارةً بالثّناء في إنقاذ «القبائل الـمُحَضْرنة الخمسة» (les cinq tributs civilisées) من المنفى القسريّ أوّلًا، ثمّ من الإلحاق (annexion) ثانيًا[46]. على الأرحج أنّ الهنود، الذين بقوْا «مُتوحّشين»، والذين جُرِّدوا من مواردهم من خلال المجازر التي طالت الجواميس البرّيّة (bisons)، لم يكن لهم ملاذٌ غير الثّورة. في العالَم أجمعَ، في كلّ مكانٍ حيثُ يجد مستعمِرون مستوطِنون أنفسَهم وجهًا لوجهٍ مع «متوحّشين» أو «برابرة» (barbares)، عازمين على الدّفاع بالأسلحة عن نمطِ معيشتهم، الوحيدِ الذي كانوا يعرفونه، نرى أنّ حروبَ الإبادة نفسَها تحدُث. الحربُ بين المستعمِرين المستوطنين و»المتوحشين» هي حربٌ بلا قانونٍ؛ هي حرْبٌ لا وجود معها لضميرٍ إنسانيٍّ يفرضُ ضوابطَ [أخلاقيّةً إنسانيّةً] على المتحاربين: في هذا الصّراع من أجل البقاء على قيد الحياة القاعدةُ هي شيطنةُ (diabolisation) العدوّ وتجريدُه من صفة الإنسانيّة (déshumanisation). «المستعمِرون المستوطِنون هم شياطينُ»، «المتوحّشون هم حيواناتٌ ضاريةٌ يجب تطهير الأرض الموعودة منهم كما طهّر هرقلُ بلادَ اليونان». لقد كان الجنرالُ شارْمانْ يقول:
«يجب أنْ نردّ على شعب السّيووِيّين (شعب السّيو / (Sioux بحدّةٍ عدوانيّةٍ، حتّى وإنْ اضطرّنا الأمرُ إلى إبادتهم، رجالًا، ونساءً، وأطفالًا. لا حلَّ آخرَ، إذا ما أردْنا أنْ نعالج المشكلةَ من جذورها»[47].
في القرن الثّامن عشر، ذكر سائحٌ هولنْديٌّ أنّه قد شاهد المستعمِرين المستوطنين، في مستعمرة الرّأس (الكيب (Cap / Kaapkoolonie /، يتعلّمون إطلاق النّار، بلا تبكيت ضميرٍ، على بشرٍ مثلهم، وكأنّهم يُطلقون النّار على أرانبَ. في تاسْمانيا (Tasmanie)، كان يتّم اصطيادُ السّكّان البلديين الأصليّين إلى حدّ الانقراض. المتكلّمون المدافعون عن مشروع «الجزائر الفرنسيّة» يذكرون مثل هذه الأحداث ليمجّدوا إنسانيّة الاستعمار (colonisation) الفرنسيّ الذي، بدل أنْ يُبيدَ السّكّانَ البلديّين الأصليّين، ضاعف عددَهم عشرةَ أضعافٍ![48]. من الـمُرجّح جدًّا أنّ المستعمِرين المستوطِنين لو كان عددُهم أكثر مائةَ ضِعفٍ، لكانوا قد تصرّفوا مثل نُظرائهم الأمريكيّين. من دون الغوص في تفاصيل الصّراعات واحدًا واحدًا، نحن على يقينٍ من أنّ «المتوحّشين» كانوا قد وجدوا أنفسَهم في وضْع دفاعٍ شرعيٍّ عن النّفس، وأنّ الفظاعاتِ التي كانوا قد ارتكبوها كانتْ «عاديّةً» أكثر من تلك التي كان قد ارتكبها أبطالُ الحضارة الـمَزْعومون. لقدْ وُجد دائمًا رجالٌ واعون وصُرَحاءُ جدًّا بحيثُ يُقرّون بذلك. لقد كان بُوفّالُو بِلْ (Buffalo BILL) يتفهّم المجهودَ اليائسَ للهنود في الدّفاع عن أرْضهم وعن نمط معيشتهم، وكان مُعْجَبًا بذلك؛ لكنّه كان يعتقد مثلما يعتقد جميعُ المستعمِرين المستوطِنين أنّ قضيّةَ الغُزاة يجب أنْ تنتصر لأنّ تنميةَ البلاد كانت متطابقةً مع إرادة الله[49].
وعلى العكس من ذلك، في المنظومة [الاستعماريّة] الاستغلاليّة، حيث إنّ وجودَ السّكّان البلديّين الأصليّين ضروريٌّ للمستعمِر المستوطِن، الذي لا مصلحةَ له في تدميرهم إذا لم يكن يرغب في العمل بيديه. هذا الأمرُ صحيحٌ جدًّا، والّليل على ذلك ما حدث في المستعمرات الأُولى في العالَم الجديد [أمريكا]، حيثُ اضطُرَّ المستعمرين (colonisateurs)، بعد الانهيار الدّيموغرافيّ الذي سبّبه العملُ الشّاقُّ في المناجم وفي المزارع، والأوئبةُ المستوردةُ من أوروبا، اضطرّوا إلى استيراد أيدٍ عاملةٍ أقوى بنيةً جسديّةً وأكثرَ تحمُّلًا للأعمال الشاقّة، من إفريقيا. لم تكن العلاقاتُ بين المستعمِرين المستوطِنين وبين عبيدهم الأفارقة علاقاتٍ بين مستعمِرين مستوطِنين وسكّان بلديّين أصليّين، بأتمّ معنى الكلمة، لأنّ الأوروبّين كانوا قد سبقوا الأفارقةَ في القدوم إلى أمريكا. لكنّ وظيفةَ العبيد السّود كانت تعويضَ السّكّان البلديّين الأصليّين، الذي كانوا على درجةٍ من الهشاشة الجسديّة لا تُمكّنهم من القيام بالأشغال التي كانت قدْ فُرضتْ عليهم. لقد نتج عن تلك المنظومة الاقتصادية شعبٌ متنافرُ التّركيبة (hétérogène)، وإنْ كان هو كلُّه مستَورَدًا، تُسيطر/تهيمن (domine) في نطاقه طبقةٌ أقليّةٌ صغيرةٌ جدًّا من المستعمِرين المستوطِنين البيض على أغلبيّةٍ كبيرةٍ من السُّود العبيد.
بعد إلغاء الرِّقّ، تكوّنتْ مجتمعاتٌ متنافِرةٌ من النّوعِ نفسِه، سواءً من خلال استيراد عمّالٍ آسيوّيين بالعقود (هنودٍ إلى جزر موريس وإلى جزر الأنتيلْ، وصينيّين ويابانيّين إلى هاواي)، أو من خلال توطين مستعمِرين مستوطنين أوروبّيّين وسط مجموعةٍ سكّانيّةٍ بلديّةٍ أصليّةٍ كبيرةِ العدد، حيثُ ينتدبون عمّالّا زراعيّين (كما في جنوب إفريقيا، وشمال إفريقيا). يوجدٌ في جميع المجتمعات تناقُضٌ كبيرٌ: الأقليّة العدديّةُ تُمسك بأغلبيّة السّلطة الاقتصاديّة والسّياسيّة. في الجزائر، في دائرة عين تموشنت، كان الأوروبيّون، الذين يمثّلون 15% من السّكان، يملكون أكثرَ من 90% من الأراضي[50]. في جنوب إفريقيا، نجد أنّ البانْتون (Bantons)، الذين يمثّلون أغلبيّة السّكان، لم يكونوا يملكون سوى 3،5% من الأراضي في منطقة ترانْسْفالْ (Transvaal)، و0،5% في منطقة أورانج (البرتقال / (Orange[51]. تتطابق الطبقيّةُ (stratification) الاجتماعيّة كثيرًا مع التراكُب (superposition) العِرقيّ. تطفو المستعمرةُ الأوروبّيّةُ فوق كتلةٍ بشريّةٍ أجنبيّةٍ تابعةٍ لها، تسيطر عليها. مستقبلُ هذه المستعمراتُ إذن مُتزعزِعٌ ومشكوكٌ فيه: لقد قُضي على مستعمرات فرنسا في شمال إفريقيا، كما حدث من قبلُ في سانتْ-دُومينگ. آمالٌ ووعودٌ ذهبتْ أدراج الرّياح... (Autant en emporte le vent…). تلك المستعمراتُ غير النّاقصة (imparfaites)، والأقلّيّة (minoritaires)، جديرةٌ بأنْ تُسمّى الواحدة منها «نصف - مستعمرة» (semi-colonie)، لو لم يسبقْ أنِ استُعملَ هذا الاسمُ، خلافًا للأصول، للإشارة إلى دُوَلٍ خاضعةٍ للهيمنة الاقتصاديّة والماليّة للإمبرياليّة.
يُوجَد، إذنْ، نوعان نموذجيّان (types idéaux) للمستعمَرات:
مستعمَرات الطّرد (colonies d’exclusion)،
ومستعمرات الاستغلال (colonies d’sxploitation).
هذا النّوعُ الأخير هو وحده الذي يتطابق مع الصّورة الشّعبيّة للمستعمَرة. وعلى الرّغم من ذلك، فإنّه أقلُّ أهميّةً من النّوع الأوّل، من ناحية عدد المستعمِرين المستوطِنين فيه. مجموعُ المستعمرات الأغلبيّة (ذات الأغلبيّة (majoritaires / له وزْنٌ أكبرُ من وزْن مجموعِ المستعمرات الأقلّيّة (minoritaires). لكنْ وُجِدتْ حالاتٌ تجمّعتْ فيها مميِّزاتُ النوعيْن في مستعمَرة واحدة. ويُمكن لأيّ مستعمَرةٍ أنْ تتطوّر مع الزّمن بالابتعاد عن هذا النّوع والاقتراب من الثّاني. مثلًا، بدأ الاستعمارُ (colonisation) الصّهيونيُّ، في زمن البارون إدْمونْدْ دو روتْشيلدْ (Edmond de ROTSHSCHILD ) (1882-1899)، على نمط استغلال الأيْدي العاملة البلديّة الأصليّة. لاحقًا، أدّتِ الحملةُ التي قامت بها الحركةُ النّقابيّةُ اليهوديّةُ من أجل»عملٍ يهوديّ» (tavail juif) إلى الانتقال إلى نمط استعمار (colonisation) الطّرد[52]. وعلى العكس منه، بدأ استعمارُ (colonisation) «الجزائر الفرنسيّة» (الاستعمارُ الفرنسيُّ للجزائر) بطرد السّكّان البلديّين الأصليّين، الذين تمّ إبعادُهم من كلّ ساحل الجزائر العاصمة (ALGER) [يظهر من السّياق أنّ المقصود: ساحل بلاد الجزائر AÉLGRIE /]، ثمّ تطوّر الأمرُ بحصْرهم في معسكراتٍ؛ ما أجْبرهم على بيع عملهم للمستعمِر المستوطِن المجاوِر لهم[53]. في جميع الحالات، يُوجد مميِّزٌ مشترَكٌ بين هذين النّوعيْن من الاستعمار (colonisation): غصْب الأملاك (usurpation): فالسّاكنُ البلديُّ الأهليُّ، سواءً أَطُرد من أرضه، أمْ تمّ الاحتفاظ به ليكون تابعًا مستغَلًّا، تُغصَب أملاكُه، ينتزعها منه المستعمِرُ المستوطِنُ، ويتملّكُها.
تُؤدّي حالةُ الغصب هذه، لدى المستعمِر المستوطِن ولدى السّاكن البلديّ الأصليّ، إلى ردودِ فعْلٍ بسيكولوجيّةٍ نموذجيّةٍ. قدّم السيّد ألْبار مِمِّي (M. Albert MEMMI) بخصوصها تحاليلَ لامعةً، ينبغي إتمامُها في نقاطٍ معيَّنةٍ. هو يُطلق اسم «عُقدة نيرون» (complexe de NÉRON) على عُقْدة المستعمِر (colonisateur)؛ وبعضُ العُقَد الأخرى تُصيب المستعمَر (colonisé)، وعُقَدُهما متواقفةٌ )تتوقّف عُقَد هذا على عُقد الآخر، وبالعكس / (interdépendantes. ينطلق تحليلُ السّيد مِمِّي من واقع الغصب، لقد كان نيرون غاصِبًا بامتيازٍ (usurpateur par excellence). يُطلق الكاتبُ لقبَ «استعمارويّ» (colonialiste) على الاستعماريّ/المستعمِر (colonisateur) الذي يقبل بأنْ يكون كذلك. والذي يسعى، في ما بعد، ولأجل تبرير وضْعه، إلى شرْعنة الاستعمار (colonisation). ولكيْ يفعل ذلك،
«إجراءان مُحتمَلان:
الأوّلُ: إثباتُ المزايا البارزة للـغاصِب، البارزة بحيثُ إنّها تستحقّ مُكافأةً كهذه.
الثانية: أو التّركيز على إبراز عيوب المَغصوب، التي هي شنيعةٌ بحيثُ إنّها لا يمكن إلّا تؤدّي إلى مثل تلك النّكبة.
وهذان المجهودان هما، في الواقع، غيرُ منفصلينْ أحدُهما عن الآخر. يدفع قلقُ الـغاصِبِ النفسيُّ وتعطُّشُه للتّبرير، في الآن نفسِه، إلى الإطناب في مدْح نفسِه، وإلى إلقاء الـمغصوب في حضيض درجات الإنسانيّة»[54].
يُمكن أنْ يوجد هذان الجانبان المتكاملان حتّى من دون وجود عمليّة الغصْب: فالمستعمِرُ المستوطِنُ (colon) فخورٌ دائمًا بإنجازاته، حتّى مع غياب كلّ ساكنٍ بلديٍّ أصليٍّ، فالنُّزوع إلى احتقار كلُّ من لا يُشبهه هي ميزةٌ عامّةٌ لجميع الشّعوب. لكنّ الغصْبَ يحوّل هذه المميّزاتِ الخاصّةَ بالعقليّة (traits de mentalité) بمنحها وظيفةً تبريريّةً. من خلال تعظيم المستعمِرِ المستوطِنِ لإنجازه، هو يُثبتُ حقَّه الخاصَّ. هو يفتخر بانتصاره على الطبيعة ليُصبحَ أوّلَ شاغلٍ لها. ومن خلال هذا الإقرار بكونه هو الشّاغلَ الأوّلَ للطّبيعة، يُنكر وجودَ أيِّ تنميةٍ، سابقةٍ لتنميته هو، جديرةٍ بالاحترام. الأرض مِلْكٌ لمن يحرثها/يفلحها ولمنْ يُنمّيها. استُعمِلتْ هذه الحُجّةُ كثيرًا خلال حرب الجزائر، وما زالُ مُتكلّمو الصّهيونيّة (apologistes du sionisme) يستعملونها ضدّ المطالب العربيّة. يُظهر المستعمِرون المستوطِنون أنفسَهم في صورةٍ رائعةٍ بهيّةٍ، صورة رجالِ الفعل، المِقْدامِين، الذين لا يَهابوُن لا الجهْدَ ولا الخطرَ، ولا الحُمّى ولا السِّهامَ، الماهرين في استعمال المحراث كما البندقيّة، الذين يجمعون بين الحسّ التطبيقيّ للبُناة مع الحسّ الأخلاقيّ للرّجال الواعين بكونهم وُكلاءَ الرّعاية الإلهية (agents de la Providence)[55].
وعلى العكس من ذلك، يبدو السّاكنُ البلديُّ الأصليُّ للمستعمِر المستوطِن بوصفه نسخةً سلبيّةً منه (son négatif)، أي النموذجَ لكلّ العيوب التي تُعلّل انحطاطَه. يتّخذ هذا الخفضُ/الإذلالُ للسّاكن البلديّ الأصليّ في عقل المستعمِر المستوطِن شكْليْن مختلفيْن جدًّا، وذلك وفقًا لنوع ردّ الفعل الذي يقوم به السّاكنُ الأصليُّ على عمليّة إذلاله. واحدٌ من موقفيْن مُحتمَل الصّدور منه: إمّا الرّفضُ وإمّا الخضوعُ. يصطدم المستعمِرُ المستوطِنُ بنوعيْن من السّكّان البلديّين الأصليّين: «أرْمينيوسْ و فلافوس» (Arminius / Flavus)، «سيرونيمو و العمّ توم» (Ceronimo / l’oncle Tom)، «الذّئب و الكلب». بالنسبة للأوّلِ [الذئب غير الخاضع]، غيرِ القابلِ للتّدجين والدّمج، هو لا يملك في التّعامل معه سوى الحذر والقسوةِ. هي قسوةٌ تصل عند الحاجة إلى حدّ الإبادة الجماعيّة. أمّا بالنسبة للثّاني [الكلب الخاضع]، فيمكن أنْ يتعامل معه بمشاعرَ ألطفَ، ما دام مُرْتكِسًا في مقامه السُّفلي. إنّها «الأبويّةُ» (paternalisme).
يتطابق هذان النّوعان، تقريبًا، مع نوْعَيِ الاستعمار (colonisation)، «استعمار الطّرد» (colonisation d’exclusion) و «استعمار الاستغلال» (colonisation d’exploitation)، مع التّحفُّظ بأنّ المتوحِّشين المغلوبين يُمكن تصغيرُهم إلى مستوى الخضوع البائس، وأنّ العبيد بإمكانهم أنْ يقوموا بثورةٍ.
«لقد حصل أنّ هنديًّا [أمريكيًّا] اسمه تورْتيرالْ (TOURTERELLE) جاء إلى حصن كُوبْ (Fort COBB) ليُعلن بذلّةٍ أمامَ الجنرال شيريدان (SHRIDAN) أنّه “هنديٌّ جيّدٌ”».
«الهنودُ [الأمريكيّون] الجيّدون الوحيدون الذين أعرفهم، هم أولئك الهنودُ الأموات»[56].
في عقول المستعمِرين المستوطِنين، لم يكن للزّنوجُ «العبيدُ» (nègres marrons) قيمةٌ أفضلُ من الهنود الجيّدين (indiens bravos).
السّاكنُ البلديُّ الأصليُّ يُخيفُ، وهذا الخوف يدفع المستعمِرَ المستوطِنَ إلى الانتقام منه، بعد أنْ يتّهمه بكلّ العيوب والشّرور. ومن باب الحيطة والحذر، يُعمّم احتقارَه ليشملَ جميع السّكّان البلديّين الأصليّين، مع استثناء أولئك الذين يعرف كيف يعتمد عليهم. بعد ثلاثِ سنواتٍ من انتفاضة عَين تموشنت [في الجزائر] سنة 1956، وعظ الكاهنُ الرّاعي لكنسيةِ ريو صالادُو (Rio Salado)، الواقعةِ في الولاية، بخطبةٍ غريبةٍ جدًّا، هذا بعضٌ مِمّا جاء فيها:
«لقد أصابنا الغيظُ يقينًا عدّة مرّاتٍ من جرّاء العيوب والشّرور التي ضخّها القرآنُ في دماء هؤلاء النّاس: الرّياء/المداهنة (duplicité)، والسّرقة، واحتقار الخير الصّادر من الآخرين، واحتقار الحياة الإنسانيّة، والفجور/الفحش (impudicité)، والكسل، ونكران الجميل (ingratitude)، والوسخ... يُوجد كمٌّ من الحقائق لا يستطيع الفرنسيّون، الأسخياءُ لكنْ غيرُ العالِمين بالواقع [هنا]، أنْ يفهموها. لقد عانيْنا من كلّ هذا، أنتم وأنا. وسوف نعاني أكثر لـمّا يتقدّمون ويتصدّرون. وهذا سوف يأتي، وعلى الرّغم من ذلك! وعلى الرّغم من ذلك، يجب أنْ نُحبَّهمْ!».
رُعاةُ اللّانوس (رعاة سكّان السّهول العشبية في أمريكا الجنوبيّة / (llanos الكولومبيوّن، الذين حُوكِموا في فيلّافيَنْسُو (Villavicencio)، بجُرم قَتْل مجموعةٍ من الهنود [الأمريكيّين]، لم يكونوا قد سمعوا عظةً بمثل قوّة هذه العظة. لقد دافعوا عن أنفسهم كما يلي:
«نحن كاثوليكيّون صادقون، لكنْ لم يُعلِّمْنا أيُّ إنسانٍ أبدًا أنّ قتْل «هنديٍّ» هو فعلُ شرٍّ.
لكنْ، هم بشرٌ مثلكم.
نعم، لا شكّ في ذلك، بما أنّكم تقولون ذلك، لكنّنا لا نعتقد بذلك. هم ليسوا مثلنا. هم ليسوا عقلانيّين. ليس بالإمكان أبدًا التّنبُّؤُ بردود أفعالهم. معهم، يجب توقّع الأسوأ دائمًا».
هذا على الرّغم من أنّ بعض أجداد هؤلاء اللّانوس هم من الهنود. وبالأحرى، كيف يمكن للمستعمِرين المستوطِنين أنْ يتعاطفوا مع «المتوحّشين»؟ تاريخ الاستعمار مليءٌ بالمجازر، مكتوبٌ بالدّماء.
وعلى العكس من هذا فإنّ معاملةَ السّاكنِ البلديِّ الأصليِّ الخاضغِ، النّافعِ، تكون بشكلٍ لطيفٍ جدًّا، نوْعًا ما كما هي معاملة كلب المنزل الأليف، طالما هو راضٍ بوضْعه وقانعٌ بمصيره ومُقِرٌّ بالفضل لأسياده. لقد كان الجنوبيُّون، البُوريُّون (Boers) يعهدون بأطفالهم إلى مُرضعاتٍ مُلوَّناتٍ [سوْداواتٍ]. لكنّ الأُلْفةَ الاجتماعيّةَ لا تُنتج المساواةَ. «إنّهم ليسوا أُناسًا مثلنا»: هذه الجملة تُقالُ بحقّ كل السّكّان البلديّين الأصليّين، سواءً «المتوحشين» (sauvages) أو «الأليفين» («الـمُدجَّنين» / (domestiques. شهادةُ جُولْ روَا (Jules ROY) تّشكّك في عائلتِه هو نفسِها، التي هي ضمانةٌ للأصالة.
«إنّهم أُناسٌ لا يعيشون مثلنا... كانت هذه الجملةُ تُلقي حجابًا لَعِبيًّا (ludique) على فقرهم. ما كان يبدو كأنّه بؤسٌ كبيرٌ وعميقٌ لم يكن سوى امتناعٍ عن النّوم على الأسِرّة، وعن الأكل مثلنا، أو عن سُكنى بيوتٍ مَبنيّة من موادَّ قويّةٍ، تحت أسقُفٍ. نعم، لقدْ كانتْ سعادتُهم شبيهةً بعضَ الشَّبَه، أعتذر عن العبارة، بسعادة حيوانات المزرعة، وأعتقد أنّي قد رأيت دائمًا أنهم يُعدّون، عندنا في وسطنا، مثل الأبقار التي نُعاملها جيّدًا لكنْ لا يُمكننا أنْ نشعر بأيّ رحمةٍ تجاهها. «حاجاتُهم ليست مثل حاجاتنا»... هكذا قيل لي. أؤمن بذلك طوعًا وبطيب خاطر، ولوهلةٍ، حالتُهم لا تُثير عاطفتَنا. هل نتألّم لرؤية الأبقار تنام على القشّ أوْ تأكل العُشْبَ؟ يستطيع العربُ أنْ يمشوا بلا عناءٍ حُفاةَ الأقدام وأنْ يسيروا على أقدامهم أيّامًا عديدةً بما أنّهم لا يحتاجون إلى ركوب السّيّارات وإلى انتعال الأحذية. إنّهم لا يعبأون بالحرارة، وبالبرد، وبالجوع. آه! إنّهم نـوْعٌ سعيدٌ من النّاس![57].
كانت تلك هي الجوانبَ المتناقضةَ والمتكاملةَ للعقليّة «الاستعمارويّة» (colonialiste): تمجيد الذّات، والقسوة تجاه «السّيئين» من السّكّان البلديّين الأصليّين، والتّسامح مع الخادم الجيّد والمستقيم. يمكن اختصار هذين الموقفيْن تجاة السّاكن البلدي الأصليّ في كلمةِ «عنصريّة» (عِرْقيّة / (racisme، إذا ما فهمنا من ذلك شعورًا بالتّفوّق الوراثيّ الطّبيعيّ (supériorité congénitale). للعرْقِيّة ذكـرٌ سيِّـئٌ: الكثير من «العُنصريّين» (racistes) يرفضون هذا الاسم ويدّعون أنّهم «واقعيّون» (réalistes). هذا تدليسٌ وتحريفٌ للقضيّة. تُذكّرنا العُنصريّة بـ هتلرْ وبمحارق الجثث (fours crématoires)؛ الكثيرُ من العنصريّيّن لا يطلبون أكثرَ من هذا. في الواقع، إنّ العنصريّةَ، كما عرّفْناها، ليست بالضّرورة موقفًا عنيفًا وقاتلًا. يُمكن أنْ تكون العنصريّةُ لطيفةً حليمةً (bénin). والأبويّةُ ((paternalisme هي أحدُ أنواع العنصريّةٍ:
«الأبويُّ (paternaliste) هو الذي يسعى من وراء ذلك، وحين يستحكمُ أمرُه ويُصبحُ مقبولًا، إلى العنصريّةِ (العِرْقيّةِ)، وإلى الحيْف (عدم المساواة / (inégalité. إنّها- إذا أردتم - عُنصريّةٌ (عِرْقيّةٌ) رحيمةٌ خيريّةٌ (charitable) - ليست هي الأقلَّ مهارةً (moins habile) ولا الأقلَّ مردوديّةً (الأقلَّ رِبْحيّةً / (moins rentable... لأنّ الأبويَّ الأكثرَ سخاءً يغتاظ ويحتدّ (se cabre) بمجرّد أنْ يُطاِلب المستعمَرُ بحقوقه، النقابيّة كمثالٍ. لـمّا يوزّع الأجورَ، لـمّا تُعالج زوجتُه مستعمَرًا، فإنّ ذلك يُعدّ هبَاتٍ منه، لا واجباتٍ عليه. فهو لو كان يُقِرّ فعلًا بأنّ عليه واجباتٍ، ينبغي عليه أنْ يقبل بأنّ للمستعمَر حقوقًا. بينما هو طبعًا، ولكِّل ما ذكرنا آنفًا، ليس عليه واجباتٌ، والمستعمَر ليْس له حقوقٌ»[58].
ينبغي أنْ نُضيفَ إلى مفهومِ «الأبويّة» (النّزعة الأبويّة / (paternalisme، الذي عرَّفه ألْبارْ مِمِّي جيّدًا، مفهومَ «الأخويّةَ» (النّزعة الأخويّة / (fraternalisme: أُخُوُّةٌ في ظِلِّ الحَيْف! (fraternité dans l’inégalité!). لقد أعطت عمليّاتُ المؤاخاة (fraternisations)، التي تمّت في الجزائر في شهر ماي/أيار 1958، الانطباعَ بحصول معجزةٍ جماعيّةٍ حوّلتِ المعطياتِ الجوهريّةَ للمشكلة الجزائرية. لكنّ بعضَ الشهادات الدّقيقة تسبّبت في الشّك في عمق ذلك التّحوّل. تدلّ الخطبةُ العِظةُ التي ذكرناها آنفًا أنّ رعايا كنيسة ريو صالادو (في عين تموشنتْ في الجزائر) كانوا عُنصريّين تمامًا، وكان ذلك بعد شهر ماي/أيار 1958 بسنةٍ واحدةٍ. ولقد كانت عمليّةُ استدلال كاهنهم، كلُّها، تسعى إلى إقناعهم بأنّ الأُخُوّةَ تنسجم مع العنصريّة. كما نرى أن قارئةً للمجلّة النِّسوية «هي» (Elle) تُبرّر/تُعلّل (justifie) الوضعيّةَ السّفلى للمرأة المسلمة، التي كانت، على الرّغم من ذلك، تسعى إلى تحريرها:
«نظرًا لِكوني قد وُلدْتُ في الجزائر (وعشتُ فيها خمسين سنةً)، ولكوْني كنتُ أُدير مؤسَّسةً للنّهوض بالمرأة المسلمة خلال الاضطرابات التي أدّت إلى الاستقلال، فأنا أعرف جيّدًا عقولَهنّ النّازعةَ نحو الخِفّة بدافعٍ من «طَبْعٍ محدّدٍ» (certain tempérament) يميّز نساء هذا البلد. أعتقد (ولستُ أنا الوحيدةَ في اعتقادي هذا) أنّ التّعاليمَ الدّينيّةَ - التي هي السّببُ في وضْع النّساء المسلمات - تُلائم طبيعتَهنّ[59]. لقد كانت الغايةُ الوحيدةُ من وضْع العقبات أمام حريّتَهنّ هي منعُهنّ من تكوين علاقاتٍ مع العنصر الذّكري، وهي علاقاتٌ لو حصلتْ ستكون، بلا شكٍّ، منشأً لفساد الأخلاق في هذا البلد»[60].
تُمكّننا هذه الأمثلةُ من الإضاءة على الطّابع الخاصِّ بالعنصريّة. العُنصريّةُ هي نوعٌ مُحدَّدٌ من الإحساسٌ بالتفّوُّق، لا مطلق التفوّق؛ إنّها تدّعي تفوُّقًا وفق الطبيعة، فهي ترتكز إذنْ على ادّعاء تفوّقٍ أبديٍّ. يختصر ألْبار مِمِّي سيرورةَ العُنصريّة كما يلي:
« اكتشاف الاختلافات بين المستعمِرين (colonisateurs) والمستعمَرين (colonisés)، وتوضحُيها وإبرازُها (mettre en évidence).
الإعلاء من قيمة (valoriser) تلك الاختلافات لصالح المستعمِر، وعلى حساب المستعمَر.
رفعُ تلك الاختلافات إلى درجة الـمُطلَق، بالتّصريح بكوْنها نهائيّةً، وبالعمل لجعلها كذلك[61].
لكنْ يُوجد نوعٌ غيرُ عُنصريٍّ من الإحساس بالتفوُّق، هو الإحساس بالتّفوّق الثّقافيّ: نحنُ هنا أمامَ توجُّهٍ معروفٍ جدًّا للعقل الفرنسيّ، وللعقل الأوروبيّ، وفي الحقيقة، لعقول جميع الشّعوب. هذه العقليّة مُبْهمةٌ: إنّها تزدري الوضْعَ الحاليَّ لجميع الأجانب، «المتوحشين»، «البرابرة»، أو «بليدو الذّهن» (botiens) حسب الحالة، لكنّها تُقرُّ بأنّ فيهم حضارةً كامنةً (حضارة بالقوّة / (virtualité de civilisation، يُمكن التعجيل بتحقيقها وجعلها حضارةً بالفعل[62]. إذنْ، إنّ تركيبةَ الزّمنَ والتّطوُّر والتّعليم (التّربية / (éducation هي التي تصنع الفارقَ بين هذا المنظور الاستيعابيّ (perspective assimilationniste)، النشيط (الدّيناميكيّ)، وبين الرُّؤية العُنصريّة التي تُجمّد الوضْع الحاليَّ إلى الأبد. عمليًّا، يصعب التّمييزُ بين العقليّتيْن؛ لأنّ صيغة الحاضر (صيغة المضارع / (indicatif present)، كما تُعبّر عن ملاحظة حادثٍ طارئٍ، هي تعبّر عن حقيقة خالدةٍ. لقد واتى الحظُّ العنصريّين إذنْ في ادّعائهم بأنّهم «واقعيّون». يتراكم نوْعَا الإحساس بالتفوُّق غالبًا، لكنْ بتنافرٍ (بغير انسجامٍ / incoherence). إنّ واجبَ حضْرنة (civilser) الأعراق الدّنيا التي تذرّع بها جُولْ فيرِّي هو قوْلٌ جِزافٌ، بما أنّ الدُونيّةَ العِرْقيّةَ غيرُ قابلة للتّصحيح بتوسُّل الثّقافة، ولو كانت هذه الثّقافة مجّانيّةً، ولائكيّةً وواجبةً. لقد أمّن كاهنُ كنيسة ريو صالادُو الوساطة بين الطّبيعة والثّقافة من خلال الاستعمال السّحريّ للمزايا الإصلاحيّة للتّعميد والقوّات الإفساديّة (التّحريفيّة / pouvoirs corrupteurs) للقرآن. لكنْ توجد كلماتٌ واضحةُ الدّلالة، تنفي الانخداع: «النّوع» و «الطّبيعة»، هما دليلان على وجود العنصريّة.
وهكذا، فإنّ العُقدةَ الاستعماريّةَ، سواء أدّتْ إلى العنصريّةَ أم إلى شعورٍ بالتّفوُّق أقلَّ إطلاقًا، هي إفرازٌ لحالة الغصْب التي يقوم بها المستعمِرُ المستوطِن. وذلك يعني أنّه يجب علينا أنْ نؤوّل النزعةَ الاستعماريّةَ (الاستعمارويّةَ / colonialisme) لدى المستعمِر المستوطٍن (colon) بنوعٍ من العُنصريّة بالمقلوب (racisme à rebours)، بوصفها ميزةً خاصّةً بأوروبّيي ما وراء البحار. يقول المَثَل: «الفرصةُ تصنع السّارقَ» (L’occasion fait le larron)، ويؤكّد ألْبارْ مِمِّي هذا التّفسير تمامًا:
«الإواليّةُ شبهُ محتومةٍ (Le mécanisme est quasi fatal): تصنع الحالةُ الاستعماريّةُ استعماريّين (استعمارويّين / (colonialistes كما تصنع مستعمَرين (colonisés)[63]».
لكنْ، هل من الواجب علينا أنْ نستخلص أنّ الاستعمار (colonisation) غيرُ ممكنٍ من دون حصول غصْبٍ للممتلكات، وأنّ الاستعمارَ البريءَ الوحيدَ هو الذي يتمّ على أرْضٍ خاليةٍ من السّكّان فعلًا؟ يمكن أنْ يُوحيَ إصرارُ المستعمِرين المستوطِنين على الادّعاء بأنّهم أوّلُ الشّاغلين للأراضي التي احتلّوها، بافتراض ذلك. وعلى الرّغم من ذلك، فإن السّلطات في المراكز الاستعماريّة قد أظهرت اهتمامها بشعوب ما وراء البحار منذ بداية التّوسُّع الأوروبّيّ إلى نهايته. كانت الأختامُ البابويّة، التي كانت تعهد بالأراضي المكتشَفة [الـمَغْزُوَّة] إلى الملك البرتغالي أو الملك الإسبانيّ، تشترط تنصيرَ ساكنيها؛ وكانت عقيدةُ الكنيسة، التي صاغها فرنْسيسكُو دو فيتُوريا[64] (Francisco de VITORIA)، تُبرّرحضورَ الإسبانّيين في العالَم الجديد [أمريكا] بواجب التّنصير وواجب الدّفاع عن المتحوّلين إلى الدين المسيحيّ. لقدْ أدان المتحوّلون المعنيّون بهذا التّنصير النّفاقَ والمداهنة لدى أولئك الدُّعاة المبشِّرين بعبارتٍ شهيرةٍ: «في ما مضى، كانتْ عندنا الأرضُ، وكان عندهم الإنجيلُ؛ الآن أصبح الوضْعُ على العكس من ذلك!» لكنّ عقيدةَ الكنيسة لا تُبرّر الاستغلالَ؛ فالسّيطرةُ/الهيمنةُ نفسُها ليستْ قائمةً سوى على عنوانٍ قابلٍ للمناقشة والاعتراض (discutable)، وحقِّ الوصايةِ، الذي يجب عدمُ ممارسته، في كلّ الحالات، إلّا في مصلحة السّكّان البلديّين الأصليّين لا في مصلحة الـغُزاة. لقد جمع الـمُبشِّرون الهنودَ [الأمريكيّين] في أدْيِرتهم (تخفيضاتهم / أماكن إقامة البعثات التبشيريّة الإسبانيّة خاصّةً (réductions لحمياتهم من جشع المستعمِرين المستوطِنين، ولتعليمهم التّقنيات الأوروبيّة: نحن نتكلّم هنا عن «استعمارٍ بلديٍّ أصليّ» (colonisation indigène). لقد نصّتِ «القوانينُ الجديدةُ» التي استحصلها بارْتُولُومِي دُو لاسْ كازاسْ (Bartolomé de LAS CASAS) من التّاج [الإسبانيّ]، نصّت بوضوحٍ على أنّ الهنود هم مواطنون إسبانيّون تمامًا مثل المستعمِرين المستوطِنين، ولا يمكن بأيّ شكلٍ من الأشكال أنْ يُسمحَ لهؤلاء بخفْضهم إلى مرتبة العبيد. يجب أنْ يستفيدوا بشكلٍ كاملٍ من خيْرات الحضارة المسيحيّة. في وقتٍ لاحقٍ، صارت رسالةُ الحضْرنة (mission civilisatrice) تُذكَر بسهولةٍ لتبرير التوسُّع الأوروبّيّ في القرنيْن التّاسع عشر والعشرين. كان الأنگليزُ يدّعون أنّهم قد ساقوا السّكّان البلديّين الأصليّين إلى الحكم الذّاتّيّ (self-gvernment)، وكان الفرنسيّون يدّعون أنّهم قد وسّعوا أمّتهم بأنْ قبلوا فيها، بلا تمييزٍ عرقيٍّ، مواطنيهم في ما وراء البحار. «الغزو الأخلاقيُّ» لا يستقيم مع غصْب ممتلكات الآخرين. أيُّ شيءٍ أكثرُ درجةً في عدم الاكثراث من أنْ يُفشيَ الإنسانُ أسرارَه الخاصّة؟
لكنّ السلطاتِ في المراكز الاستعماريّة ووكلاءَها لا يمثّلون الاستعمار (colonisation) التي يجري على أرض الواقع. ليس المستعمِرُ المستوطِنُ مبشِّرًا بالحضارة (missionnaire de la civilisation) كما اُدُّعِيّ كثيرًا. هو ليْس غيرَ مكترِثٍ (désintéressé): غايتُه هي أنْ يهيّئَ لنفسه مكانًا تحت الشّمس. لقد كانت سياسةُ السّكّان البلديّين الأصليّين تُثير المستعمِرين المستوطِنين، دائمًا، ضدّ المراكز الاستعماريّة، منذ ثورة گُنْزالُو پيزارُّو (Gonzalo PIZARRO) ضدٌ القوانين الجديدة [التي أصدرها ملك إسبانيا سنة 1542] (Leyes Nuevas)، إلى ثورة المتمرِّدين الأمريكيّين ضدّ إعلان 1763، وصولًا إلى ثورة جماعة ييشوف الصّهيونيّة [الاستيطانيّة] (YICHOUV)، سنة 1939، ضدّ الكتاب الأبيض [البريطانيّ] (Livre blanc / White paper)، يزعم المستعمِرُ المستوطِنُ أنّه يُقِرُّ، أكثر من حكومات المركز الاستعماريّ، بالحاجاتِ الحقيقيّةَ للسّكّان البلديّين الأصليّين. هو يؤكّد أنّه «تُوجد أماكنُ للجميع»، وهذا لا يصحّ إلّا بشرْطيْن
*) الأوّل، هو أنْ يكون السّكّانُ الأصليّون قادرين وراغبين في تحقيق ثورةٍ تقنيّةٍ، تصبح ضروريّةً بعد نقصان مساحات أراضيهم [بفعل عمليّات غصبْ أراضيهم]
*) والثّاني، هو أنْ يقبلوا بالتّفريط في استقلالهم؛ ليندمجوا في المجتمع الجديد الذي أسّسه المستعمِرون المستوطِنون.
لا يتمّ هذا التّكيُّفُ بيُسْر؛ إذ يجب، فوْق ذلك، أنْ يقبل الشّعبان بإمكانيّة هذا التّحوُّل، وأنْ يَرغبَا في تحقيقه. تتقاسم الشّعوبُ كلُّها نزوعًا نحو ازدراء أعراف الأجانب وعاداتهم، ونحو أَمْثَلة عاداتها الخاصّة (جعلها مثاليّةً / (idéaliser. لقد تعمّقتِ الرِّيبةُ في التّجديد بسبب المحوريّة العِرْقيّة (ethnocentrisme). لقد كان السّاكنُ البلديُّ الأصليُّ يُدافع، بدافع المبدأ، عن نمط معيشته الأصيل (التّقليديّ / (traditionnel؛ المستعمِرُ المستوطِنُ، إمّا يريد أنْ يفرضَ عليه نمطَ معيشته الخاصّ وإمّا يُقنع نفسَه بأريحيّةٍ عند الإخفاق في تحقيق ذلك بأنّ «المتوحِّش» غيرُ قابلٍ للتّربية والتعليم. يُدرك هذا الأخيرُ، ممّا يراه من ظاهر هذه «الحضارة» المزعومة، العيوبَ التي تُخفيها العادةُ، من دون أنْ يتفاعل مع المزايا والمنافع الواضحة بالنسبة لنا:
«تكمن تعاسةُ الهنود في دخولهم في تماسٍّ مع شعبٍ هو الأكثرُ تحضُّرًا، والأشدُّ نَهَمًا أيضًا، على كوكب الأرض، بينما هم أنفسُهم نصفُ برابرةٍ: تعاستُهم في أنْ يجدوا أنّ مُعلِّميهم سادةٌ [لهم كعبيدٍ]، وفي أنْ يتلقّوْا في الوقت نفسِه الاضصهادَ والتّنويرَ. لقد كان هنديُّ أمريكا الشّماليّة بائسًا، وهو يعيش حريّته بين أشجار الغابات، لكنّه لم يكن يشعر بالدُّونيّة أمام أيٍّ كان من البشر الآخرين؛ ومن السّاعة التي يريد فيها أنْ يدخل في التّرتيب الاجتماعيّ، الخاصِّ بالبيض، لا يُمكنه إلّا أنْ يَشغل الرتبة الأخيرة؛ لأنّه يدخل، وهو جاهلٌ وفقيرٌ، في مجتمع يسود فيه العلمُ والثّروةُ. بعد أنْ كان قد عاش حياةً مضطربةً، مليئةً بالشّرور والأخطار، لكنْ، في الوقتِ نفسِه، مليئةً بالعاطفة والعزّة، يجد نفسَه مُجبرًا على الخضوع لحياةٍ رتيبةٍ مُملّةٍ، ومُظلمة، ومُنحطّةٍ ذليلةٍ. اللّهاثُ، من خلال أعمالٍ مُضنيةٍ وفي ظروفٍ مُخزِيةٍ، لكسب الخبز الذي يسدّ جوعه... هذه هي الصّورةُ الوحيدةُ المرتسمةُ في عقله عن الحضارة التي يَمدحونها له»[65].
لقد أقنعَ هذا الرّفضُ للحضارة والإعراضُ عنها، الذي ظهر في المقاومة الشّرسة في منطقة الكاراييبي، كما الانقراض اليائس لشعب أَراواك [الهندي الأمريكيّ] ((ARAWAK، أقنع الأوروبّيّين بأنّ تلك الشعوب الملعونة يجب أنْ تختفيَ من الوجود لتترك المكان لهم. وفّرت «الدّاروينيّةُ الاجتماعيّةُ» النّظريّةَ لفكرةٍ موجودةٍ سلفًا: في الصّراع من أجل الحياة [البقاء]، الذي يجعل الأعراقَ والأنواعَ متقابلةً متصارعةً، يُقصي الانتخابُ الطبيعيُّ الأضعفَ منها، بلا رحمةٍ. لقد كان ألكْسيسْ دُو تُوكْفيلْ على يقينٍ بذلك، منذ سنة 1831:
«أعتقد أنّ عِرق هنود أمريكا الشّماليّة محكومٌ عليه بالانقراضْ، ولا أستطيع أنْ أمنع نفسي من التّفكير في أنّه لمّا تطأ أقدامُ الأوروبّيّين شواطئ المحيط الهنديّ سيكون هذا العِرْق قد انتهى وجودُه. لا يملك هنودُ أمريكا الشماليّة سوى طريقتيْن للنّجاة والخلاص: إمّا الحربُ وإمّا الحضارة، بعبارةٍ أخرى، يجب عليهم إمّا أنْ يُدمّروا الأوروبّيّين وإمّا أن يصبحوا مُعادلين أندّاء لهم... والمقاومةُ قد أخفقت وتوقّفت. ومن اليسير علينا أن نستشرف ممّا حصل أنّ الهنود لن يريدوا أبدًا أنْ يتحضْروا (se civiliser)، أو أنّهم سيحاولون ذلك في وقتٍ متأخِّرٍ جدًّا، لما يصل بهم الأمرُ إلى أنْ يريدوا ذلك»[66].
حتّى مع غياب العنف والقسوة، فإنّ توطُّنَ المستعمِرين واستقرارَهم واستحواذَهم على موارد المعيشة يُجبر الهنودَ الصّيّادين على الفرار وإلّا يتعرّضون للمجاعة. انقراضُ «المتوحّشين» هو ظاهرةٌ طبيعيّة يُسبّبُها الاستعمارُ (colonisation). ينتج عن هذة النّظريّة تجريدُ المستعمِر المستوطِن من كلّ إحساسٍ بالمسؤوليّة عن الكارثة التي تُصيب السّكّان البلديّين الأصليّين: لا تستطيع النيّةُ الحسنةُ الفُضلى، ولا أعلى درجات التّسامُح والبرّ أنْ تمنع الأمرَ المحتوم[67]. ومن نتائج هذه النّظريّة نزوع المستعمِر المستوطِن إلى حرمان السّاكن البلديّ الأصليّ من أسباب المعيشة إلّا بكمّيّاتٍ قليلةٍ كافيةٍ لشعبٍ يعيش حالة الاحتضار فحسبُ، لكنْ قليلةٍ جدًّا لشعبٍ يتكاثر بسرعةٍ. في الجزائر، كان المتنبِّئون يستشرفون تدهور وضع الشعب البلديّ الأصليّ، وبقوْا مُنْكرين جاحدين أمام العلامات الأولى للتّقدّم (progression)، قبْل أنْ يعمدوا إلى تمجيد دور الاستعمار الفرنسيّ في حدوث ذلك! في كينيا، قام شعب الكيكويّين (Kikuyus) بثورةٍ، نظّمتها جماعةُ مُو- مُو (Mau-Mau) السّريّة، أُرْجعتْ أسبابُها إلى نقْصٍ في الأراضي[68].
لكنّ الرّفضَ لم يكن هو ردَّ الفعلِ الوحيدَ. فإرادةُ السّكّان البلديّين الأصليّين حفظَ استقلالهم، ضدّ غزو المستعمِرين المستوطِنين، دفعهم إلى تبنّي التّقنيات [الغربيّة الجديدة]، التي أقرّوا بألمٍ بفعّاليّتها، بادئين بالتقنيَات العسكريّة. استعار الأُوراكيوُّن (شعبُ الأوراكان / (Auracans في الشيلي، والشّيشماكـيّون (شعبُ الشّيشيماكْ / (Chichimèques في المكسيك، [استعمالَ] الحصان والأسلحة النّاريّة من أعدائهم الإسبانيّين. ودفع البعضُ بإرادة التّوافق إلى حدّ المحاكاة المنهجيّة لتقنيَات المستعمِرين المستوطِنين جميعِها. لقد استنسختِ القبائلُ المتحضِّرةُ الخمس، المستقرّةُ في جنوب شرق أمريكا، المحاريثَ، والطّواحينَ، والزّراعاتِ وتربيةَ الماشية من جيرانهم البيض، كما استعاروا منهم تأسيس الرّقّ، لسوء الحظّ. حتّى أنّ الشّيروكيَّ سيكُوياهْ (SEQUOYAH) قد ابتدع أبجديّةً أصيلةً لكتابة لغة شعبه «الشّيروكي» (CHEROKEE)[69]. لكنّ تلك المحاكاةَ الطّوعيّةَ تبقى مناقضةً للاستعمار (colonisation) لكونها ترمي إلى حفظ الاستقلال، لكنّ نجاحَ المسعى يتوقّف على موازين القوى.
يستلزم الاستيعابُ ((assimilation وجودَ إرادةٍ لدى الشّعبين، الأصليِّ والمهاجرِ، للانصهار في شعبٍ واحدٍ؛ الاستيعابُ، لدى السّاكن البلديّ الأصليّ، هو سيلةٌ للتخلُّص من شعوره بالدُّونيّة بتماهيه بالوافدين الجُدُد، المتوّجين بهيبة الغُزاة والبُناة المؤسِّسين. إنّ أوّلَ ردِّ فعلٍ من المستعمَر (colonisé)، حسب ألْبارْ مِمِّي، هو «حبُّ المستعمِر (colonisateur) وكُرْه ذاتِه»[70]. يمثّل «الشبّانُ الجزائريّون» الـمُعلَّمون في المدرسة الفرنسيّة أفضل مثالٍ على ردّ الفعل هذا[71]. لكنْ، ألِلمستعمِر المستوطِن (colon) مصلحةٌ في الدّفع نحو الاستيعاب؟ تباينتِ المواقفُ بين الشّعوبِ المستعمِرةِ المختلفةِ حسب عاداتها وأعرافها الوطنيّة وحسب أديانها: لقد بان بوضوحٍ أنّ البروتستانت، الـمُشْبَعين بالعقليّة التشبّثيّة (exclusiviste) المأخوذة من العهد القديم، هم أكثرُ عُنصريّةً من الكاثوليك، الخلاصيّين عقائديًّا ((universalistes. لكنّ المائزَ الأهمّ عدديٌّ. عندما يكون المستعمِرون المستوطِنون أكثرَ عددًا، بشكل واضحٍ، من السّكّان البلديّين الأصليّين، فهم لا يكتثرون بمصير هؤلاء الأخيرين: لا يعنيهم أمرُهم، سواءً أَتمّ استيعابُهم، أمْ ساء وضْعُهم، أم انقرضوا. وعلى العكس من ذلك، وعندما يكون المستعمِرون المستوطِنون أقليّةً، يتوقّف مستقبلُهم على ازدياد عدد الكتلة السّكانيّة البلديّة الأصليّة. إذا ما بقيت هذه الكتلةُ أجنبيّةً عن المستعمَرة (colonie)، يمكننا تشبيه هذه الأخيرة بقصرٍ مَشيدٍ على ظهر تنّينٍ: إذا ما ظلّ نائمًا كما حدث في البيرو، تدوم المستعمَرةُ، أمّا إذا ما صحا كما حدث في الجزائر، فإنّها تضيع ويزول وجودُها. لكنْ، أيُّ مستعمَرةٍ أقلَّيّةٍ يُمكنها تأمينُ مستقبلها، وبالتّالي الدّوام، إذا ما نجحتْ في استيعاب السّكّان البلديّين الأصليّين.
نجمع تحت مصطلح «الاستيعاب» (assimilation) مجموعةَ الإجراءات التي تُمكِّن من محو، أو إخفاء الاختلافات بين المستعمِرين المستوطِنين والسّكّان البلديّين الأصليّين، والتّقليل بذلك من مخاطر المواجهات العنيفة بين الفريقين. يمكن أن يتمّ تحقيقُ الاستيعاب:
قانونيًّا، وذلك بتشريع قوانين تضمن المساواة في الحقوق والواجبات، ولكي يكون هذا فعّالًا يجب أن يتجاوز إلى الأفعال.
اجتماعيًّا، من خلال تأمين المساواة في حظوظ التّقدّم والتّرقّي، وإلغاء التّناسب بين الرّتبة الطّبقيّة الاجتماعيّة والتّصنيف الهرمي للأعراق.
دينيًّا، بإرساء وعيٍ جمْعيٍّ يُمكّن من التّعالي على التّناقضات الثّقافيّة القديمة.
لغويًّا، يُمكن التّفاهمُ والاتّفاقُ، من خلال إلغاء واحدٍ من أقوى الحواجز بين النّاس.
وأخيرًا، مادّيًّا، من خلال التّهجين [الزّواج المختلط] الذي يُخفي العلامات، الأشدّ بروزًا، للانتماء إلى هذا الشّعب أو ذاك.
يفرض الإدخالُ (inclusion) بالتّهجين مصطلحَ «الاستيعاب» (assimilation)، الأعمَّ من مصطلح «التّثاقف» (acculturation).
أمريكا اللّاتينيّة هي المسرحُ الذي تمّ فيه تطبيقُ كلِّ وسائل الاستيعاب التي ذكرناها، بأعلى مستوى. تفسّر أدواتُ الاستيعاب التي تحقّقت هناك، إضافةً إلى الأزمة الدّيموغرافيّة التي شهدتها تلك المنطقةُ في القرنيْن السّادس عشر والسّابع عشر، تفسِّرُ نجاحَ الاستعمار الأقلَّي الإسبانيّ والبرتغاليّ هناك. لم يكنِ النّجاحُ تامًّا بما أنّ التراتبيّة الطبقيّة الاجتماعيّة بقيتْ راسخةً في الأذهان على مستوى لون البَشَرة، وبما أنّ التّعصّب للّون الذي فرضه البيضُ ظلّ عقدةً طاغيةً في المجتمع متعدِّدِ الأعراق أجمعَ. بلْ لقد وصل الأمرُ إلى أنْ أصبحتْ من المسائل العاديّة في الإيديولوجيا الأوروبيّة والأمريكيّة اللّاتينيّة في القرن التّاسع عشر، مسألةُ تحميل التّهجين مسؤوليّة التّخلّف الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسّياسيّ لأمريكا المختلطة (panachée) [اللّاتينيّة: الوسطى والجنوبيّة] بالمقارنة مع أمريكا البيضاء [الشّماليّة][72]. لكنّ وضْع المستعمِرين المستوطِنين الأمريكيّين اللّاتينيّين أفضلُ من وضْع نُظرائهم في شمال إفريقيا، الذين تمّ طردهم من خلال عمليّة «التحرّر من الاستعمار» (décolonisation)، ومن وضْع نُظرائهم في جنوب إفريقيا، الذين يعيشون في حالة رُعْبٍ من «الخطر الأسْود» (péril noir)، نتيجة إخفاقهم في استيعاب أغلبيّة السّكان البلديّين الأصليّين. في بلدٍ تسكنه أغلبيّةٌ سُكانيّةٌ من الهُجناء (métis)، مثل المكسيك، لا يُمكن التّفكيرُ في عمليّة «تحرّرٍ من الاستعمار» (décolonisation).
في الجزائر، كانت أدواتُ الاستيعاب assimilation)) أقلَّ عددًا. لم تكن فرنسا اللّائكيّةُ قادرةً على القيام بالتّبشير (prosélytisme) المسيحيّ، وكان العسكريّون يعلمون أنّ سياسةً كهذه، لو مُورِستْ، كان يُمكنُ أن تُسبّب ثورة عامّةً. وبما أنّ الإسلام كان يمثّل ظاهرةً روحيّةً وزمنيّة [الإسلام دين الآخرة والدنيا، العبادات والمعاملات]، كان الاستيعابُ القانونيُّ يبدو مستحيلًا، وفي تلك الظّروف كان من الممكن أنْ يؤدّيَ الاستيعابُ السّياسيُّ إلى نهاية التّفوّق الفرنسيّ في المستعمَرة، وإلى إخفاق عمليّة الاستيعاب. لقد كان الحلُّ الوحيدُ يكمن في استعمال وسيلة الاستيعاب اللّغويّ من خلال المدرسةِ الفرنسيّةٍ، مطيّةِ «الأفكار الحديثة» التي بإمكانها التّقليل من سطوة التّعصبات الدّينيّة (التّيوقراطيّة /(théocratiques . لكنّ ضآلة عدد المثقّفين (intellectuels) البلديّين الأصليّين حشرتْهم في وضْع غير مريحٍ بالمقارنة مع جماهير شعبهم، المتعلّقة بقيمها الأصيلة (التّقليدية / (traditionnelles، والمعادية لعملية الاستيعاب. ولهذا السّبب طلب قسمٌ منهم سنة 1936 بتحقيق الإدماج (intégration) لا الاستيعاب (assimilation). استيعابُ فردٍ أو مجموعةٍ يعني قوْلبتَه بشكل تامٍّ وفق نموذجٍ يوفّره مجتمعٌ آخَرُ، بينما إدماجُه في ذلك المجتمع يعني منحَه فرصة المشاركة من دون تجريده من شخصيّته السّابقة. الفرْقُ بينهما واضحٌ نظريًّا، لكنْ هل الأمرُ كذلك في الممارسة؟
نادرًا ما يكون الاستيعابُ شاملًا. إنّه مُطْلَقٌ في حالة فردٍ يُكْفَل بُعيْدَ ميلاده. فيكون المتبنّي له منشأَ ثقافته كلِّها؛ ولا يبقى كاشفٌ لأصله سوى هيأته الجسمانيّة. لكنّ أيَّ فردٍ يتمُّ استيعابُه بعد تلقّيه مخزونًا ثقافيًّا أوّلَ يَظَلُّ حافظًا لذكرياتٍ تُميّزه عن مواطِنيه الجُدُد. وأيُّ مجموعةٍ مهاجرةٍ أو متطوّرةٍ داخلَ بلدها المغزّوّ تظلّ دائمًا حافظةً، في عاداتها الدّخليّة ثُقَيِّفَةً (مُفردةً ثقافيّةً / (sous-culture تُميّزها، قد تكون قد تمّ اختزالُها في مُجرّد لهجةٍ محلّيّةٍ، أو لَكْنةٍ لغويّةٍ أو وصْفاتِ طهْوٍ. إنّ استيعابَ مجموعةٍ ما هو إدماجٌ لها أيضًا. وعلى العكس من ذلك، لا يتضمّن الإدماجُ سوى جزءٍ من الاستيعاب، بما أنّ المشاركة في مجتمعٍ يستلزم التّمكُّـنَ من لغتِهم، ومن القِيم الثّقافيّة التي يحملها. السّعيُ إلى عدم المسّ من شخصيّة مجموعةٍ ما يُراد إدماجُها هو الأمل في المستحيل: كيف يُمكن أنْ تتعايش الثّقافتان في الظّرْف (esprit) نفسِه من دون أن تختلطا؟ لقد كان الاستيعابيُّ (assimilationniste) رابح الزّناتي يرى أنّ الاستيعابَ لا يكون في اتّجاهٍ وحيدٍ:
«يجري ذكر فزّاعة الابتلاع (absorption) على ألسنة جميع الفتنويّين البلديين الأهليّين (trublions indigènes)، ويبدو ألّا أحدَ يُسلّم بحقيقة أنّ الشّعبيْن المتواجهيْن/المتعايشيْن (en présence) يتبالعان ( يتبادلان الابتلاع / يبتلع أحدُهما الآخَر / (s’absorbent mutuellement، وأنّ السّكان البلديين الأصليّين، في الجزائر، يتفرْنسون كلّ يومٍ، كما أنّ الفرنسيّين يتعرّبون، فيها، إلى حدٍّ ما. لا أحدَ بإمكانه التصرّف ضدّ قوانين الطّبيعة الحتميّة. بانتظار أنْ يتداخل الجانبان المتواجهان/المتعايشان بودٍّ مع مرور قرونٍ من الزّمن، يبقى التّقارُبُ، والتّعاونُ الصّادقُ، واتّحادُ القلوبِ والعقولِ، الصّيغةَ الأسلمَ والأكثر عقلانيّةً. تكمن المثاليّةُ (idéalisme)، أو بالأحرى المفارَقةُ (paradoxe)، في التّأكيد على جعْل شعبيْن، أيْ حضارتيْن، يعيشان جنْبا إلى جنْبٍ، من خلال أنْ يتتحقّق بينهما تنافذٌ (تأثيرٌ متبادَلٌ / (osmose، وامتصاصٌ متبادَلٌ (تنافُذٌ/تأثيرٌ متبادَلٌ / (endosmose. ساذج وبسيطٌ جدًّا هو ذاك الإنسانُ الذي يُمكن أنْ يعتقد في حصول مثل هذا الشّذوذ والاستثناء في القوانين الكونيّة»[73].
حسب تعبير إمِيلْ فيليكْسْ گُوتْيِي (Émile Félix GAUTIER)، لم يتحقّق في الجزائر «انصهارٌ بين الأعراق» (fusion de races)، بل إنّ ما تحقّق هو مجرّد تحوّليّةٍ في التّواصل والتّعاشر (métamorphisme de contact).
على الرّغم من ذلك، يعكس الاستيعابُ المتبادَلُ موازينَ القوى المادّيّة والثّقافيّة بين المجتمعيْن: يُعطي المجتمعُ الأقوى، والأكثرُ تطوُّرًا، أكثرَ ممّا يأخذ. لقد رَوْمنتْ (romaniser) روما بلادَ الغال المغلوبةَ، لكنْ في النّهاية قال الغاليّون للرّومان: «أيّها السّادة، لقد انتهت إقامتُكم، عليكم بالرّحيل» (مثلٌ باللّغة اللاتينيّة: أيّا السّادة، إنّها السّاعة الخامسة، قد انتهى وقت الدّرس، [عليكم بالمغادرة]) (Graecia capta ferum victorem cepit). لكنّ الغُزاة الأوروبيّين، الـمَغرورين بتفوُّقهم بوصفهم رُسُلَ الحضارة، لا يُقِرّون طوْعًا باستعاراتهم (emprunts) [من الآخرين]. لم تكن عمليّةُ الإدماج، التي كان يطالب بها أنصارُ «الجزائر الفرنسيّة»، تعني إدماجَ الأقليّة الأوروبّيّة في الأكثريّة المسلمة، بلْ كانت تعني إدماجَ الجزائر في فرنسا. في الواقع، لم تكن فرنسا تفكّر في التّعرُّب من أجل الاحتفاظ بالجزائر. لقد كانت «الجزائرُ الفرنسيّةُ» تعني، في الحقيقة، استيعابَ الجزائر. منذ صدور مرسوم فيلّارْ كُوتِّيري (Villers COTTERETS) سنة 1539، أصبحت «اللّغةُ العامّةُ الفرنسيّةُ» (commun langage françois) هي أساسَ وحدة الدّولة [الفرنسيّة]. تعليمُها شأنٌ مهمٌّ جدًّا من شؤون الدّولة (affaire d’État): الفرنسيّون كلُّهم مُلْزمُون بتعلُّم لغتهم الوطنيّة. لكنْ، إذا ما أراد البعضُ منهم تعلّم لغةٍ أخرى إضافةً إليها، له الحرّيّة في ذلك: هذا شأنٌ خاصٌّ. تصوّروا لو أنّ الدّولةَ الفرنسيّةَ كانت قد أخذت على عاتقها مسؤوليّة التّعليم باللّغة العربيّة أو باللّغة الأمازيغيّة (البربرية)؟ لم يكْن بإمكان التّعليم العموميّ أنْ يُؤدّيَ إلّا إلى جعل الأولويّة للّغة الفرنسيّة كما هي الحالُ في المركز الاستعماريّ [فرنسا]. أمّا في ما يخصّ الدّين الإسلاميّ، بالإمكان أن تعتمده الدّولةُ الفرنسيّة تمامًا بمستوى اعتماد أيِّ دينٍ آخَرَ وفق مبدأ الحياد الدّيني. أمّا على صعيد القانون، فقد كان أشدّ أنصار الإدماج حماسةً من المسلمين، قد اقترحوا أنْ تتمّ زيادةُ الإدراج التّصاعديّ التّدريجيّ للقانون الإسلامي [أحكام فقه المعاملات] في مدوّنة القانون المدنيّ [الفرنسيّ]. وبما أنّه قد تمّ، منذ سنة 1955، استبعادُ أيِّ حلٍّ فدراليٍّ، فإنّ الفرقَ بين الإدماج والاستيعاب لم يكن واضحًا.
سوف نلاحظ أنّ المستعمراتِ المرتبطةَ بمركزٍ استعماريٍّ مثل «الجزائر الفرنسيّة» أو «المقاطعات البرتغاليّة في إفريقيا»، كانت تدعم سياسة الإدماج أو الاستيعاب، في حين أنّ المستعمرات التي لا تتبع مراكزَ استعماريّةً مثل «إسرائيل» أو «جنوب إفريقيا» كانت ترفض مثل هذه الحلول خشية ذوبان مستعمِريها وضياعهم في البحر الخضمّ للعدد الأكبر من السّكّان البلديّين الأصليّين. يُفسّر الثّقلُ العدديُّ للمركز الاستعماريّ التّناقض المبدئيّ بين هذين النّوعيْن من المستعمَرات، والذي لا يمنع وجود شيٍ من التّضامن[74] (التّكافل /(solidarité ضد الخطر المشترك، الذي يهددهما معًا، ألا وهو «التّحرُّر من الاستعمار» («تصفية الاستعمار» /(décolonisation.
لقد غضب لينينُ سنة 1907 من كـوْن المؤتمر الاشتراكيّ المنعقد في مدينة شتوتگَارْتْ (في ألمانيا) قد ناقش في مداولاته، بشكلٍ جدّيٍّ، أطروحاتِ فانْ كُولْ (Van KOL) المؤيّدةَ لـ»سياسيةٍ استعماريّةٍ اشتراكـيّةٍ»[75]. لكنْ ألم يُطبِّقْ لينينُ نفْسُه هذه الصّيغة، على أرض الواقع، من خلال تحويله الإمبراطوريّةَ الرّوسيّةَ السّابقةَ إلى «اتّحاد الجمهوريّات الاشتراكـيّة السوفياتيّة» (الاتحاد السّوفياتيّ / (U.R.S.S. [إشارة إلى الاستعمار الروسي للدول التي ضُمّت إلى الاتحاد السوفياتيّ]. لقد أثبتت السياسةُ التي تمّ تطبيقُها منذ سنة 1917 [تاريخ الثورة البلشيفيّة في روسيا] أنّ الإدماج بشكل مختلف عن الاستيعاب بالطريقة الفرنسيّة ليست رؤيةً ناتجةً عن العقل. كان ذلك النّوع من الإدماج ينطلق من مبدإ المساواة بين جميع القوميّات وضرورة جعلها تتطوّر لكيْ تصل جميعُها إلى المستوى نفسِه من التّقدُّم الاقتصاديّ والاجتماعيّ.
لكنْ، ما القوميّةُ؟ كلُّ لغةٍ تُحدّد قوميّةً، يُعتَرف بها كَـكِيانٍ سياسيٍّ مُفدْرَلٍ (fédéré) في «الاتحاد» وتتلقّى كلَّ الوسائل لتطوير ثقافتها الخاصّة، بشرط أنْ يكون المضمونُ تقدُّمِيًّا واشتراكـيًّا. لا يستطيع الدِّينُ، ولا العِرْقُ، أن يؤسّس قوميّةً، وهكذا، تمّتْ إزاحةُ خَطرَيِ الجامعة/الرّابطة الإسلامية (panislamisme) والجامعة/الرّبطة الطُّورانيّة (نسبةً إلى طوران: آسيا الوسطى / (pantouranisme؛ وذلك لأنّ الاتحاد قائمٌ على مبدأ تقرير المصير [لكلٍّ من أعضائه]، الذي يُمكن أنْ يصل إلى حدّ الانفصال، بينما ضروراتُ القضيّةِ الاشتراكـيّةِ تقتضي وجودَ دولةٍ مركزيّةٍ. تُؤّلّف السّياسةُ السّوفياتيّةُ، المؤسَّسةُ على الجدلِ (الدّيالكتيكِ) الماركسيِّ، ما بيْن منْح القوميّات أعلى درجات الاستقلاليّة الثّقافيّة واللّسانيّة (اللّغويّة / (linguistique، وصَهْرها في بوْتقةِ خلْقِ/صناعة الإنسان السّوفياتيّ (homo sovieticus)، بتوسُّل عمليّات مزْج الشّعوبِ والزِّيجاتِ المختلطةِ، والتي تُبرّر التعليمَ العموميّ للغةٍ مشتركةٍ: هي الرّوسيّة. على العكس من الدّولة الفرنسيّة، بذلتِ الدّولةُ السّوفياتيّةُ مجهودًا كبيرًا لتطوير الثّقافات القوميّة، مع أنّها قد نهجتْ مثلَها سياسةً استيعابيّةً. لقد استُؤنِفتِ العمليّة الاستعماريّةُ أكثر من المألوف تحت شعارٍ للتّورية «استصلاح الأراضي البَوْر» (défrichemet des terres vierges). وهكذا صار الكازاخيّون أقليّةً في جمهوريّتهم الخاصّةِ. لكنّ ذلك الاستعمارَ (colonisation) لم يكنْ قائمًا لا على طرْد شعبٍ ولا على استغلاله من شعبٍ آخَرَ، بلْ على توحُّد كلِّ الشّعوب في إنجاز عملٍ مشترَكٍ، يجب أيْضا أنْ يكون في مصلحة الجميع. أزالتْ هذه السّياسةُ السّوفياتيّةُ، الغريبةُ عن كلِّ داروينيّةٍ اجتماعيّةٍ، الفوارقَ بين المستعمِرين (coolonisateurs) والمستعمَرين (colonisés)، من دون أنْ تُزيلَ الاستعمارَ (colonisation) نفسَه.
يُمكن لهذه الإلمامة أن تتّسع بالاستمرار في سرد أدلّةٍ أخرى من العالَم أجمعَ. لقد درسْنا، بتروٍّ، حالةً أجنبيّةً عن توسُّع بلدان أوروبا الغربيّة وسلَفَيْها اليونان وروما. يبدو أنّ استدلالَنا [الشّائع] ظلّ، طويلًا، يقبل برؤيةٍ خاطئةٍ تُماثل الاستعمارَ (colonisation) بتوسُّع شعوب أوروبا الغربيّة في العالَم أجمعَ عبر الطّرُقِ البحريّةِ في الفترة ما بين نهاية القرن الخامس عشر ومنتصف القرن العشرين. لو قبلنا بالفكرة الشائعة، فسيكون الاستعمارُ (colonisation) حقبةً من تاريخ العالَم، افتُتِحتْ بغزوٍ للعالَم عبر المحيطات، قامتْ به بعضُ الدُّول الأوروبيّة، وأُغلق بفعل ثلاثة أسبابٍ مجتمعةٍ:
حركة الشّيوعيّة العالميّة.
والحركة الأمريكيّة الـمُعادية للاستعمار (anticolonialisme).
وحركة الشّعوب الآسيويّة والإفريقيّة الذين اجتمعوا في باندونْگْ سنة 1955[76].
بعضُ الحكوماتُ الرّجعيّةُ، فحسبُ، يُمكنها أن تُصِرَّ بعنادٍ على إنكار أنّ عهد الاستعمار (colonisation) قدْ ولّى بشكلٍ نهائيٍّ. في الحقيقة، لقد انتقلنا إلى عصر «التّحرّر من الاستعمار» («تصفية الاستعمار» / (décolonisation. وهكذا، يبدو الاستعمارُ (colonisation) ظاهرةً انتقاليّةً، لا بلْ سريعةَ الزّوال على مستوى الأزْمنة التّاريخيّة.
نحن نظنّ أن هذا التّصوّرَ خاطئٌ؛ لأنّ الاستعمارَ (colonisation) ليس سوى جزءٍ من التوسُّع الأوروبّيّ، الذي لا يُـمثّل الاستغلالُ، والسّيطرةُ/الهيمنةُ، والاستيعابُ، سوى جوانبَ أقلَّ أهميّةً من جوانبه؛ ولأنّ التوسُّعَ الأوروبّيَّ، على العكس من ذلك، ليْس سوى جُزْءٍ من الاستعمار (colonisation) العالميّ.
أوّلًا، إنّ الاستعمارَ عبر الطُّرق البرّيّة ليس أقلَّ استعماريّةً؛ لنتذكّر التوسُّعَ الرّوسيَّ في سيبيريا، و»الزّحفَ نحو الشّرْق» الذي قام به الألمانيّون، أوْ التّوسيعَ الطَّرَفيَّ لمساحة الأراضي الصّينيّة، والدّحْرَ الـممنهَج للشّعب الفيتناميّ نحو الجنوب.
ثانيًا، إنّ الاستعمارَ البحريَّ أو البرِّيَّ ليْس حِكْرًا على أوروبا. لقد عبَر الآريّون (Aryens) الهنودُ [سكّان الهند] البحرَ لكيْ يذهبوا للسُّكنى في سيلان، وكذلك فعل الصّينيّون مع فورْموزا (Formose) وهايْ-نانْ (Haï-Nan) وسنگفورة، وكذلك فعل اليابانيّون مع هُوكايْدُو (Hokaïdo)... وفي زمننا، استعمر الصّينيّون منشوريا عبر البرّ، وكذلك فعلوا بـمنگوليا الدّاخليّة، وبـسِنكْيانْگْ، وبـالتيبتْ، التي يمثّل الصّينيّون ثُلُثَيْ عدد سُكّانها. كما أنّ ما مهّد الطريق للفيتناميّين ليُغْرقوا شامْپا (Champa) بأعدادهم، ثمّ يبتلعوا ثلثَ كمبوديا هو تمدُّد أعدادٍ منهم على سواحلها وسكناهم فيها:
«خلال إنجاز ذلك المشروع الاستعماريّ النّاجح (لأنّه استعمارٌ فعلًا)، قرّرت الحكومةُ الفيتناميّةُ أن تمنحَ تلك السّيرورةَ المعتمدةَ وضْعَ موسّسةِ دولةٍ، وبذلك أُنشِئت [مستعمرةُ] الـدّونْ-ديانْ (don-diên) الاستيطانيّة، سنة 1481. تُشبه مستعمرةُ الـدُّون-ديان[77] الاستيطانيّةُ المستعمراتِ الاستيطانيّةَ الرّومانيّةَ التي سبقتها زمنيًّا بـ 1550 سنة، ومستعمراتِ النّخّال (nakhal) الاستيطانيّة الإسرائيليّة التي تأخّرت عنها زمنيًّا بـ 500 سنة، والمستعمراتِ الاستيطانيّة للـمزارعين الدّفاعيّين (wehrbauern) النمسانويّين-الألمانيّين، فقدْ كانت الـدُّونْ-ديانْ مستعمراتٍ استيطانيّةً زراعيّةً تمنحها الدّولةُ للمزارعين، الذين أغلبُهم جنودٌ سابقون يلتزمون، مقابل ذلك بالدّفاع عن الحدود الجديدة للدّولة. لقد كان أعضاءُ الـدُّونْ-ديانْ رجالًا أفظاظًا أجلافًا وشجعانَ مقدامين، مستعدّين لا للدّفاع عمّا يملكون، فحسب، بل لدفعْ الحدود أكثرَ نحو الغرب».
بالإضافة لما قلنا، نُذكّر بأنّ الاستعمارَ (colonisation) كان موجودًا قبل القرن الخامس عشر. في زمن المملكات المحاربة كانت يانْگْ تسِي كيانْگْ (Yang Tsé Kiang) حدودَ الصّين؛ وقد تمّ غزو الجنوب الهمجيّ المتوحّش (barbare) واستُعمِر بشكلٍ بطيءٍ بدايةً من عهد تسِنْ شِي هوَانْگْ تِي (Tsin Che Houang Ti.). في أوروبا، نذكّر بأنّ تمدّد المستعمِرين المستوطِنين الألمانيّين نحو الشّرق (Drang nach Osten)، ما وراء الألْبْ (Elbe)، قد حدث، في قسمه الأكبر، في القرنيْن الثّاني عشر والثّالث عشر. ومع ذلك فقد كانت تلك العمليذةُ إحدى أكبر المشاريع الاستعماريّة في التّاريخ، مقارنةً بأمثلةٍ أخرى تُذكَر أكثرَ منها غالبًا. وأخيرًا، في زمننا هذا يستمرّ وجود الاستعمار (colonisation) في البرازيل، وفي أستراليا، وفي الصّين، وفي الاتّحاد السّوفياتيّ، وفي إسرائيل...
تنشر الصُّحُف إعلاناتٍ جذّابةً تحاول من خلالها حكوماتُ كندا، وجنوب إفريقيا، وأستراليا، أو غيرها من البلدان، إغراءَ مهاجرين لكيْ يأتوا لتعزيز شعبٍ قليلِ العدد جدًّا بغاية تنمية مواردَ ضخمةٍ جدًّا. إنشاءُ طريقٍ يشقّ غابة الأمازون، والمجازرُ بحقّ الهنود [الأمريكيّين] تُلهم الصّحُفيّين. كيف يُمكننا الاعتقادُ بأنّ الاستعمار (colonisation) قد زال؟ طالما ظلّ توزيعُ السّكّان على مساحة الأرض غيرَ متساوٍ بالقدر الذي نشهده في زمننا هذا، حسب كثافةٍ مُثْلى، تتغيّر مع تغيُّر الظّروف الجهويّة، ستستمرّ المناطقُ ذاتُ الضّغط المتدنّي [ذات الكثافة السّكّانيّة المنخفضة] تجلب موجاتِ الهجرة السّكانيّة القادمة من مناطق التكدّس السّكانيّ [ذات الكثافة السّكّانيّة العالية]. صحيحٌ أنّ الحدودَ تقاوم حريّة هجرة النّاس. لا يحقّ لبلد غاصٍّ بالسّكّان مثل اليابان أنْ يُرسل مستعمِرين مستوطِنين (colons) نحو أرضٍ أجنبيةٍ من دون موافقة مالكها [دولة استعماريّة أوروبيّة]، ونحن نعلم جيّدًا أنّ الشّعوبَ الأوروبّيّةَ كانت قد وضعتْ أياديَها على نصف العالَم واستبعدت الآسيويّين من المشاركة في [الاستعمار والاستيطان][78]. وفي ظلّ النّظام العالمي بما هو عليه الآن، تخضع الهجرةُ كلّيًّا لحاجات بلد الاستقبال. والاستعمارُ (colonisation) الوحيدُ الذي ظلّ ممكن الحدوث، من دون تغيير الوضع الحاليّ لحيازة الأراضي هو الاستعمار (colonisation) الدّاخلي[79].
إذا كان وجود الاستعمارُ (colonisation) لا يزال مستمرًّا، لا يُمكننا أنْ ندّعِيَ «التّحرّر من الاستعمار»، وأنّ («تصفية الاستعمار») قدْ تلتْه. لقد لاحظنا حالاتٍ من «التّحرّر من الاستعمار»: حالة الجزائر هي الأوضح. لكنْ من الخطأ أنْ نعرضَ «التّحرّر من الاستعمار» بوصفه ظاهرةً، عامّةً (universel) وقدرًا غيرَ قابلٍ للتجنُّب وللمقاومة (irrésistible). عددُ المستعمِرين المستوطِنين الذين تمّ طرْدُهم بفعل عمليّة «التّحرّر من الاستعمار» قليلٌ جدًّا مقارنةً بعدد أولئك الآمنين المستقريّن في مستعمراتهم، ولا شيءَ يهدّد وجودَهم. وأولئك الذين أُجبروا على المغادرة يمكن تعويضُ خسارتهم من خلال تقدّم الاستعمار (colonisation) في بلدانٍ أخرى. على أقصى تقديرٍ، يُمكننا الكلام عن حدوث تراجعٍ للاستعمار (colonisation) الأوروبّي في بعض المناطق من العالَم.
يُمكننا أنْ نتحدّث عن تعمُّم «التّحرّر من الاستعمار» (universalité de la décolonisation) يومَ نرى جيشَ تحريرٍ هنديٍّ أمريكيٍّ يقوم باستعراضٍ عسكريٍّ احتفالًا بالنّصر في شوارع نيويورك، بعد أنْ يكون سّكّانُها قد هربوا منها. .... !
خلاصةُ الكلام: إنّ «التّحرّرمن الاستعمار» (تصفية الاستعمار)، بعيدًا عن كونه ظاهرةً عامّةً وغيرَ قابلةٍ للمقاومة، هو أمرٌ عارضٌ طارئٌ، ومحدودٌ. إنّه لا يحدث إلّا في المناطق التي يتبيّن أنّ موازين القوى فيها لم تكن، من الأساس، في صالح الاستعمار (colonisation)[80]، الذي كان من المستحيل له أنْ يصمد من دون دعم المركز الاستعماريّ. والحالة أنّ البرْجزة (embourgeoisement) العامّة للدّول الأوروبيّة، من خلال إزاحتها لكلّ العوامل الدّافعة إلى الهجرة، تنزع عنها كلَّ علّةٍ تُبرّر بها القيام بالاستعمار (colonisation). والاستثاء البارز يثبت صحةَ هذه القاعدة: البرتغال هو البلدُ الأفقرُ في أوروبا الغربيّة؛ لذا فالصّحيح هو أنّ الدّاعيَ الأشدَّ دفْعًا نحو الاستعمار (colonisation) الأوروبّيّ قد تمّ تجاوُزُه.
الاستعمارُ (colonisation) ليْس ظاهرةً وقتيّةً آيلةً للزّوال (éphémère). يستوطن المستعمِر المستوطِنُ في منزله [المغصوب] للأبد، و»لا يرفع يده عن الاستعمار» (décolonise) إلّا مضطرًّ أو مغلوبًا بالقوّة. إنّ نهايةَ الاستعمار (colonisation) لا تعني «التحرّر من الاستعمار» («تصفية الاستعمار»)، بل نهاية الاستعمار تعني الوصولَ إلى التّسوية (normalisation)، أيْ وصول البلد إلى درجة النّضج والبلوغ (maturation) مثل البلدان الأخرى. في غضون بعض الأجيال، يصبح المستعمِرون المستوطِنون (colons) سكّانًا بلديّين أصليّين، قد وُلدوا في بلدهم. ونحن، جميعُنا، بدرجاتٍ متفاوتةٍ في البُعدِ التّاريخيّ، أخلافُ مستعمِرين مستوطِنين، كما كتب مكسيم رودنْسونْ:
«ليس المستعمِرون المستوطِنون (colons) والمستعمِرون (colonisateurs) وُحُوشًا بوجوهٍ بشريّةٍ، ذوي سلوكٍ مُدهِشٍ، كما يريد منّا مثقَّفُو اليسار أنْ نعتقد. أنا مُعادٍ للاستعمار (anti-colonialiste) ومُعادٍ للعنصريّة (anti-raciste)، لكنْ لا أستطيع، لأجل ذلك، أنْ أتخلّى عن تفسير الاستعمارويّة (colonialisme) والعنصريّة من خلال عواملَ اجتماعيّة ونفسانيّةٍ (بسيكولوجيّةٍ)، لأفسّرها بتلك الأكثر شُيوعًا والأشدّ تفاهةً وابتذالًا، والتي لا أحدَ بإمكانه أنْ يدّعيَ وأنْ يُقْسِمَ على أنّه حريزٌ (inaccessible) منها. كونُ المرْء ينتمي إلى مجموعةٍ مستعمِرةٍ (colonisateur) ليس جريمةً لا تُغتفر K(irrémissible) ويُعابُ الكلامُ عنها (indicile)، كما يتخيّل النّاسُ في مقاهي شارعَيْ سان-جارْمانْ وسانْ-ميشالْ. من منّا البريءُ من الاستعمار (colonisation)؟ وحدَه الزمن هو الذي يمرُّ، الغصْبُ يختلف»[81].
يوحِي الاستعمارُ (colonisation) بأحكامٍ متباينةٍ لمن يضعهم في جبهتيْن متقابلتيْن متباينتيْن، وتجعل منه ديناميّتُه، وردودُ الفعل التي يثيرها، سببًا رهيبًا للنّزاعات. وللحدّ من ذلك، لا تنقصنا المشاعر النّبيلةُ، بلْ ما ينقص هو العقلُ السّليمُ، وما يغيب هو الرّشادُ. كيف تُقام العدالةُ بين الأمم من دون أنْ يتمّ أوّلًا بناء الحكمة في العقول؟ هذا المقالُ، الطويلُ جدًّا والـمُجْمَلُ جدًّا، لا يحتاج إلى تعليلٍ آخَر.
گَايْ بَارْفِيِّي (أستاذ مُبرَّز في التّاريخ)
Guy PERVILLÉ (Agrge d’Histoire)
------------------------------------
[1]. گَايْ بَارْفِيِّي (Guy PERVILLÉ) أستاذ خبير في التّاريخ المعاصر في جامعة تولوز - لو مِيرايْ / فرنسا.
المصدر: مجلّة التّاريخ الحديث والمعاصر، المجلّد 22، العدد 3، جويلية (تمّوز)-سبتمبر (أيلول) 1975، صص. 321-368.
doi: https://doi.org/10.3406/rhmc.1975.2323
نقْلًا من موقع پَرْسِي (percée) على شبكة الأنترنت.
تعريب: جمال عمّار
[2]. عنوان المقال باللّسان الفرنسيّ Qu’est-ce que la colonisation؟ ، مجلّة التّاريخ الحديث والمعاصر، المجلّد 22، العدد 3، جويلية (تمّوز). سبتمبر (أيلول) 1975، صص. 321-368.doi: https://doi.org/10.3406/rhmc.1975.2323نقْلًا من موقع پَرْسِي (percée) على شبكة الأنترنت.
[3]. «إسرائيل، هل هي حقيقةٌ استعماريّةٌ؟»، مقالٌ كتبه المستشرقُ مكسيم رودنسون في مجلة الأزمنة الحديثة، العدد 253 مكرّر، ملفّ حول الصّراع الإسرائيليّ-العربيّ (1967)، ص. 17-88.
“Israël, fait colonial?” par Maxime RODINSON, dans Les Temps Modernes no 253 bis, dossier sur le conflit israélo-arabe (1967), p. 17 - 88.
[4]. مصطلح «الاستعمارويّة» (النزعة الاستعماريّة / (colonialisme، الذي ابتدعه المُعادون للاستعمار (موليناري (MOLINARI)، 1895)، كان تحقيريًّا منذ البداية. راجع شارل-روبار آجيرون، معاداة الاستعمار في فرنسا من سنة 1871 إلى سنة 1914، باريس، بوف، 1973، ص. 5.
Charles-Robert AGERON, L’anticolonialisme en France de 1871 à 1914, Paris, PUF, 1973, p. 5.
[5]. لقد ميّز المركيز دو ميرابو ثلاثةً، وذلك في كتابه (صديقُ النّاس)، انظر في ما يلي، الصفحة 23.
Le marquis de MIRABEAU, L’ami des hommes.
[6]. مكسيم رودنسون، الإسلام والرّأسماليّة، باريس، لو سُويْ، 1966، ص. 21-22.
Maxime Rodinson, Islam et capitalisme, Paris, Le Seuil, 1966, p. 21 - 22
[7]. هذا الموضوع عَرَضَه هرْبرْتْ لُوثِي، في مقاله «الاستعمار وتقدّم الجنس البشريّ»، في مجلة تاريخ الاقتصاد، العدد 21، ص. 483-495.
Herbert LÜTHY, «Colonization and the making of Mankind», Journal of Economic History, XXI, p. 483 - 495.
[8]. ذكره راوول جيرارْدي، الفكرة الاستعماريّة في فرنسا، باريس، منشورات لا طابل رُونْدْ (المائدة المستديرة)، 1972، ص. 113.
Cité par Raoul GIRARDET, L’idée coloniale en France, Paris, La Table Ronde, 1972, 113.
[9]. جيْمسْ بورْنْهامْ، عصر المؤسِّسين.
James BURNHAM, L’ère des organisateurs.
[10]. هاينريش فريديُونْگْ، عصرُ الإمبراطوريّات، برلين، 1919-1922، ذكره هايْنْزْ گُولْفيتزر، الإمبرياليّة من سنة 1880 إلى سنة 1918، باريس، فلامّاريون، 1970، ص. 13.
Heinrich FRIEDJUNG, Dos Zeitalter des Imperialismus, Berlin, 1919-1922, cité par Heinz GOLLWITZER, L’impérialisme de 1880 à 1918, Paris, Flammarion, 1970, p. 13
[11]. رايمون آرون، الجمهوريّة التسّلّطيّة، باريس، كالْمانْ-لِيفِي، 1973، ص. 260-262.
Raymond ARON, République impériale, Paris, Calmann-Lévy, 1973, p. 260 - 262
[12]. مذكور في گُولْفيتزر، م. ن، ص. 118-119.
Cité dans GOLLWITZER, op. cit., p. 118 - 119
[13]. ريتشارد كوبْنرْ، الإمبراطوريّة، منشورات جامعة كامبريدج، 1961. ريتشارد كوبْنرْ و هـ. د. شميدت، الإمبراليّة. قصّةُ كلمةٍ سياسيّةٍ ودلالتُها، 1840-1960، كامبريدج 1964. (تقريرٌ لـ هنري برانْشفيگْ، «الإمبراطوريّاتُ والإمبرياليّاتُ»، المجلة التّاريخيّة، جويلية (تمّوز)-سبتمبر (أيلول) 1965.)
Richard KOEBNER, Empire, Cambridge University Press, 1961. Richard KOEBNER et H.D. SCHMIDT, Impérialisme. The story and significance of a political word, 1840-1960, Cambridge, 1964. (Compte rendu par Henry Brunschwig: “Empires et impérialismes”, Revue historique, juillet-septembre 1965.)
[14]. ورد ذلك في گُولْفيتْزرْ، ص. 136. مذكورٌ في لينين حسب مجلة دي نوتْ زيْتْ، المجلد 17، العدد الأول، 1898، ص. 304.
Dans GOLLWITZER, p. 136. Cité par Lénine d’après Die Neue Zeit, XVI, 1, 1898, p. 304
[15]. لينين، الإمبرياليّة أعلى مراحل الرأسماليّة.
LÉNINE, L’Impérialisme, stade suprême du capitalisme.
[16]. نصوصٌ في مارْسالْ مارْلْ، معاداةُ الاستعمارِ الأوروبّيّةُ م ن لاسْ كاساسْ إلى ماركس، باريس، آرْماندْ كُولِنْ، 1969.
Textes dans Marcel MERLE, L’anticolonialisme européen de LAS CASAS à MARX, Paris, Armand COLIN, 1969.
[17]. هنْري برانْشفيگْ، الإمبرياليّةُ الاستعماريّة الفرنسيّة. الأساطيرُ والحقائقُ، باريس، آرْمنْد كولِنْ، 1960، ص. 101.
Henri BRUNSCHWIG, Mythes et réalités de l’impérialisme colonial français, Paris, Armand Colin.1960 , p. 101.
[18]. توزيعُ الاستثماراتِ الخارجيّة سنة 1914: المملكة المتّحدة (بريطانيا) 47% داخل الإمبراطوريّة و 53% في الخارج؛ فرنسا 9% و 91%؛ ألمانيا 1% و 99%.
Répartition des investissements extérieurs en 1914: Royaume-Uni 47 % dans l’Empire et 53 % à l’étranger; France 9 % et 91 %, Allemagne 1 % et 99 %.
[19]. م. ن، ص. 64-65؛ انظر أيْضًا ص. 11.
Op. cit., p. 64-65; voir aussi p. 11.
[20]. ما الفرْقُ، إذنْ، بين «الإمبرياليّة» و «اللّيبراليّة» الخاصّتَيْن بالمرحلة السّابقة؟ تعود التّبعيّةُ الاقتصاديّةُ لدول أمريكا اللّاتينيّة إلى تلك الحقبة «اللّيبراليّة».
[21]. فرانْسوا بِيرُّو: فاتحةٌ لنظريّةٍ في الاقتصاد المسيطر (المهيمن)، في الاقتصاد التّطبيقيّ (العمليّ)، عدد 2-3، 1948.
François PERROUX: «Esquisse d’une théorie de l’économie dominante», dans Économie appliquée, n° 2 - 3, 1948.
[22]. ر. ب. مولّرْ، ذكره إيمي سيزار؛ «التواصل المستحيلُ»، في طُرُقُ العالَم: «هل هي نهايةُ العصر الاستعماريّ؟، 1948، ص. 109.
R. P. MULLER. Cité par Aimé CÉSAIRE; «L’impossible contact», dans Chemins du monde: «Fin de l’ère coloniale?», 1948,p. 109.
[23]. م. ن.
[24]. روحُ الشّرائع، 1748، الكتاب 15، الفصل 7.
De l’Esprit des lois, 1748, livre XV, chap. V. .22
[25]. لاحظ مكسيم رودنسون، في مقاله «إسرائيل، هل هي حقيقةٌ استعماريّةٌ؟ لاحظ آثارَ «مقوْلَباتٍ (stéréotypes) ذاتِ قوةٍ بسيكولوجيّةٍ كبيرةٍ. المستعمَرُ، هو الكائنُ السَّغِبُ (المتضوِّر جوعًا)، المرتدي لأسمالٍ باليةٍ، والذي يظهر الخوفُ واضحًا في عينيْه، والمطارَدُ والبائسُ، والذي يبحث بتلهّفٍ عن أيِّ قطعةِ طعامٍ يسدّ بها جوعَه. أمّا المستعمِرُ، فهو الإنسانُ الفظُّ، العسكريُّ أو المدنيّ، الذي يلعب بغرورٍ بعصاه الخيزرانيّة، وهو يتطاوس راكـبًا عربةً يجرُّها عمّالٌ مُنهَكون أو أيضًا، الذي يغتصب الفتياتِ السّوداواتِ الصّغيراتِ، وهو مخبولٌ ونصفُ ثَـمِلٍ». م. ن، ص. 23.
[26]. انظر ك. م. بانِيكّارْ، آسيا والهيمنةُ الغربيّةُ، باريس، لُو سُويْ، 1956، ص. 66.
Voir K. M. PANIKKAR: L’Asie et la domination occidentale, Paris, Le Seuil, 1956, p. 66.
[27]. مقالُ «الاستعمار»، لـ جول دُوفالْ، في المعجمُ العامُّ للسّياسة، لـ موريسْ بلوكْ، باريس، 1863، ص. 401-405.
Article «Colonisation», par Jules DUVAL, dans le Dictionnaire général de la politique, de Maurice BLOCK, Paris, 1863, p. 401 - 405.
[28]. روحُ الشرائع، الباب 21، الفصل 21.
De l’Esprit des lois, XXI, 21 - 26.
[29]. لقد كانت موجودةً منذ الحقبة اللّيبراليّة كما أثبت جانْ بُوفْيِي في دراسته: «إرساءُ شبكات المصالح المادّيّة الأوروبيّة في منطقة البحر الأبيض المتوسّط: في القرنيْن التّاسع عشر والعشرين»، المنشور ضمن كتاب الإمبرياليّة، ندوة الجزائر، الجزائر، الشركة الوطنيّة للنّشر والتّوزيع، 1970، ص. 29-48.
Jean BOUVIER: «L’installation des réseaux des intérêts matériels européens en Méditerranée: xixè-xxè siècle», dans L’impérialisme, colloque d’Alger, Alger, SNED, 1970, p. 29 - 48.
[30]. جول هارْمنْدْ، السّيطرةُ (الهيمنةُ) و الاستعمارُ ، باريس، فلامّاريُنْ، 1910، ص. 102.
Jules HARMAND, Domination et colonisation, Paris, Flammarion, 1910, p. 102.
[31]. جول دوفالْ، م. ن، ص. 401.
Jules Duval, op. cit., p. 401.
[32]. في الجزائر، كان القانونُ [الاستعماريّ الفرنسيُّ] يميّز، في انتخاب المفوّضيّات الماليّة، بين «المستعمِرين المستوطنين» (colons) و»غير المستعمِرين المستوطِنين» (non colons)، أيْ بين المُلّاك العقّاريّين (مالكي الأراضي) وبين أصحاب المهن غير الفلاحية/الزراعيّة، من بين ممثّلي السّكان المهاجرين [إلى الجزائر]. هذا معنًى ضيّقٌ.
[33]. م. ن، ص. 401.
[34]. جولْ هارْمنْدْ، م. ن. ص. 111-112.
Jules HARMAND, op. cit., p. 111 - 112.
[35]. جُولْ دُوفالْ/ م. ن، ص. 402.
Jules Duval, op. cit., p. 402
[36]. «الميثاقُ الاستعماريُّ، أو نظامُ الحقِّ الحصريِّ (régime exclusif)، يُثبت بوضوحٍ أنّ المراكزَ الاستعماريّةَ كانتْ تبحث عن إضافةٍ لنشاطها الاقتصاديّ، ولثروتها ولقدرتها: لم يكن السّكّانُ يدخلون، البتّةً، في الحسبان، إلّا في شكل أيْدٍ عاملةٍ ضروريّةٍ». ورد هذا الكلام في:
م. رايْنْهارْدْ و أ. أرْمَنْگُو و ج. دُوباكْيِي: التّاريخُ العامُّ لسكّان العالَم، باريس، مونْكرِيتْيَنْ، 1968، ص. 272.
M. REINHARD, A. ARMENGAUD et J. DUPAQUIER: Histoire générale de la population mondiale. Paris, Monchrestien, 1968, p. 272
[37]. يتّهم مونْتسكيو المستعمراتِ بأنّها تُفرغ المراكزَ الاستعماريّةَ من السّكّان. ورد ذلك في:
الرّسائلُ الفارسيّةُ، CXXI (121)، نصٌّ موجودٌ في مارسالْ مارْلْ، مرجعٌ سابقُ، ص. 121-123.
Lettres persanes, CXXI, texte dans Marcel MERLE, op. cit., p. 121 - 123.zx
[38]. مارْسالْ مارْلْ، م. ن، ص. 123-127.
Marcel MERLE, op. cit., p. 123 - 127.
[39]. لقد قدّمتِ المستعمرةُ الصّهيونيّةُ في فلسطين، بدعمٍ من السّياسة البريطانيّة إلى سنة 1939، قدّمتْ نفسَها كضحيّةٍ للإمبرياليّة البريطانيّة، وذلك لمّا حدّدت هذه الأخيرةُ الهجرة [اليهودية إلى فلسطين] وبيع الأراضي [لليهود]، فحدّتْ منهما، وذلك من أجل استمالة العرب.
[40]. «لا يمكن أن تتكوّن مستعمرةٌ، بتمام معنى الكلمة، إلّا عندما يعدّ المستعمِرُ المستوطِنُ الأوروبيُّ أنّ موطنَه الجديدَ هو وطنُه الدّائمُ، حيثُ يمكنه تأسيس أسرةٍ وتربية أطفاله في صحّةٍ جيّدةٍ، وحيثُ ترتبطُ وطنيّتُه بمصالحه الشخصيّة، وكذلك بالمصالح العامّة لأفراد المجتمع الذين يتقاسم معهم الوطنَ الجديدَ».
[41]. جُول هارْمنْدْ، م. ن، ص. 108، تعريفٌ رائعٌ للجزائر الفرنسيّة، ص. 109.
Jules HARMAND, op. cit., p. 108, Excellente définition de l’Algérie française, p. 109.
[42]. رونِي مُونْيِي، السوسيولوجيا الاستعماريّةُ، مقدمةٌ لدراسة تماسِّ الأعراق، باريس، 1932، ص. 37.
René MAUNIER, Sociologie coloniale. Introduction à l’étude du contact des races, Paris, 1932, p. 37.
يُصرّ الكاتب على الطّابع المؤقّت لــ «المستعمرات بلا عَلَم» (colonies sans Drapeau) تمامًا كما يشهد، في زمننا هذا، مصيرُ الهنود في إفريقيا الغربيّة. لكنّ الاستعمارَ (colonisation) بلا عَلَمٍ يمكن أنْ يؤدّي في بعض الحالات إلى تسلُّم المستعمِرين المستوطِنين للسّلطة ( الأمريكيّون في ولاية تكساس، والصّهاينة في فلسطين).
[43]. جُول هارْمنْدْ، م. ن، ص. 110
Jules HARMAND, op. cit., p. 110.
[44]. ألكسيسْ دُو تُوكْفيلْ، الدّيموقراطيّة في أمريكا، الكتاب الأوّل (1935)، الفصل التّاسع.
Alexis de TOCQUEVILLE, De la démocratie en Amérique, livre I (1835), chapitre 9.
[45]. راوُول جيراردي، م. ن، ص. 19-20.
Raoul GIRARDET, op. cit., p. 19 - 20.
[46]. أُولِيفْيِي لا فارْجْ، تاريخ الهنود، گراوْنْ بيبلايْشِرْ، 1956، نادي كتاب الشهر، بلا تاريخ.
Oliver LA FARGE, Histoire des Indiens, Grown Publishers, 1956, Club du Livre du Mois, s.d.
[47]. ذكر ذلك فريديريكْ و. تورْنَرْ، مقدمة لمُذكِّرات جيرونيمو، باريس، ماسْبيرو، 1972، ص. 9.
Cité par Frederick W. TURNER, Introduction aux Mémoires de Geronimo, Paris, Maspéro, 1972, p. 9.
[48]. في الحقيقة، لقد كان عددُ سُكّان الجزائر يُقارب، سنة 1830، ثلاثةَ ملايين إنسانٍ، ونقص منه ثلثٌ خلال الأربعين السنة التي تلت بداية الغزو الاستعماريّ الفرنسيّ. انظر لُوساتّْ فالانْسِي، المغرب الكبير قبل احتلال الجزائر العاصمة، باريس، فلامّارْيُنْ، 1969.
Lucette VALENSI. Le Maghreb avant la prise d’Alger, Paris, Flammarion, 1969.
[49]. كما أن دافيد بن غوريون كان يُقرّ، صراحةً وعلنًا، بأنّه منذ مجيئه إلى فلسطين كان يشعر ببغضِ العرب للصّهيونيّة، ويتفهّم ذلك، ويعتبره حالةً عاديّةً جدًّا وطبيعيّةً: لو كان مكانهم لما كان موقفُه مُغايِرًا لذلك. لكنّه لم يكن مكانَهم.
[50]. ميشالْ لونايْ، الفلّاحون الجزائريّون، باريس، لُوسُويْ، 1962، ص. 63.
Michel LAUNAY, Paysans algériens, Paris, Le Seuil, 1962, p. 63.
[51]. إيفْ لاكُوسْتْ، جغرافيا التّخلّف، باريس، بُوفْ، 1968، ص. 76.
Yves LACOSTE, Géographie du sous-développement, Paris, PUF, 1968, p. 76.
[52]. موشي سميلانْسْكِي، في الفيْفاء، تلْ أبيب، بلا تاريخ، الأعمال، المجلد الأوّل، 1891-1893، ص. 47. إيلي لوبالْ، اليهودُ وفلسطين، متبوعًا بـ صبري جيرياسْ، العربُ في إسرائيل، باريس، ماسْبيرو، 1969، ص. 26 و 74. ناثانْ ويْنْستُوكْ، الصّهيونيّةُ ضدّ إسرائيل، باريس، ماسْبيرو، 1969، ص. 80.
Moshé SMILANSKY, Dans la steppe, Tel Aviv, s.d., Œuvres, tome I, 1891-1893, p. 47. Eli LOBEL, Les juifs et la Palestine, suivi de Les Arabes en Israël par Sabri GERIES, Paris, Maspero, 1969, p. 26 et 74. Nathan WEINSTOCK, Le sionisme contre Israël, Paris, Maspero, 1969, p. 80
[53]. هِلْدِبَرْتْ إسْنارْدْ، المغرب الكبير، باريس، بُوفْ، 1971، ص. 56-58 و 61.
Hildebert ISNARD, Le Maghreb, Paris, PUF, 1971, p. 56 - 58 et 61.
[54]. ألْبارْ مِمِّي، صورةُ المستعمِر، مسبوقًا بـ صورة المستعمَر، باريس، 1957، ص. 63-72-73.
Albert MEMMI, Portrait du colonisé, précédé du portrait du colonisateur, Paris, 1957, p. 63 - 72 - 73.
[55]. رجالُ المركزِ الاستعماريِّ (métropolitains) لهم صورةٌ أخرى: العُنفُ/الوحشيّةُ (brutalité)، والنّزعة الماديّة (matérialisme).
[56]. فريديريك ف. ترونَرْ، م. ن، ص. 9.
Frédérich W. TRUNER, op. cit., p. 9. 54.
[57]. جُولْ روَا، حربُ الجزائر، باريس، 1960، ص. 21-22. التأكيدُ منّا نحن (الكاتب).
Jules ROY, La guerre d’Algérie, Paris, Julliard, I960, p. 21 - 22. C’est nous qui soulignons.
[58]. ألْبارْ مِمِّي، م. ن، ص. 101. 56. A. MEMMI, op. cit., p. 101.
[59]. التّأكيد (بالخطّ المائل منّا نحن (الكاتب).
[60]. مجلة هي، العدد 1370، 20 مارس/آذار 1972.
Elle, no 1370, 20 mars 1972.
[61]. ألْبار مِمِّي، م. ن، ص. 96.
A. MEMMI, op. cit., p. 96.
[62]. صرّح الرّئيسُ [البرتغاليّ الديكتاتوريّ أنطونيو] سالازار (SALAZAR): «نحن نعتقد بأنّه تُوجد أعراقٌ مُنحطّةٌ، أو متخلِّفةٌ، كما تريدون التّعبير، يجب علينا أن نحمل تجاهها رسالةَ دعوتها إلى الحضارة، وهذا عملٌ للتّكوين (التأهيل) البشريّ، يجب أن يُنجَر بإنسانيّةٍ». ذُكِر ذلك في كتاب: فِنْسنْتْ مُنْتايْ، جنديُّ الثّروة، باريس، گراسِّي، 1966، ص. 357.
Vincent MONTEIL, Soldat de fortune, Paris, Grasset, 1966, p. 357.
[63]. ألْبارْ مِمّي، م. ن، ص. 76.
Albert MEMMI, op. cit., p. 76
[64]. مارْسالْ مارْلِي، م. ن، ص. 56-60.
Marcel MERLE, op. cit., p. 56 - 60.
[65]. ألكسيس دُو تُوكْفِلْ، الدّيموقراطيّة في أمريكا، الكتاب الأوّل، ص. 10.
Alexis de Tocqueville, De la démocratie en Amérique, livre I, chap. 10.
[66]. المرجعُ السابقُ نفسُه.
[67]. المرجعُ السابقُ نفسُه.: «لا يمكن إبادةُ النّاس مع احترام قوانين/مبادئ الإنسانيّة جيّدًا».
“On ne saurait détruire les hommes en respectant mieux les lois de l’humanité”.
[68]. ناثان واشْتالْ، رؤيةُ المغلوبين، باريس، گالّيمار، 1971، ص. 288-299.
Nathan WACHTEL; La vision des vaincus, Paris, Gallimard, 1971, p. 288 - 299.
[69]. أُولِيفيِي لا فارْجْ، تاريخُ الهنود [الأمريكيّين].
Oliver La Farge, Histoire des Indiens..67
[70]. ألْبارْ مِمِّي، صورة المستعمِر، ص 157.
A. Memmi, Portrait du colonisé, p. 157
[71]. شارْل-روبارْ آجيرُنْ، «حركةُ الشّابّ الجزائريّ» من سنة 1900 إلى سنة 1923 في دراسات مغاربيّة، باريس، بُوفْ، 1964، ص. 217-243. انظر أيْضًا دراستنا حول «الحسّ الوطنيّ لدى الطّلبة الجزائريّين ذوي الثّقافة الفرنسيّة من سنة 1912 إلى سنة 1962»، في مجلة العلاقات الدّولية، العدد الثّاني.
Charles-Robert AGERON, «Le mouvement Jeune Algérien» de 1900 à 1923 dans Etudes Maghrébines, Paris, PUF, 1964, p. 217 - 243. Voir aussi notre étude sur «Le sentiment national des étudiants algériens de culture française de 1912 à 1962», dans Relations Internationales, n° 2.
[72]. ج. هارْمنْدْ، م. ن، ص. 111.
J. HARMAND, op. cit., p. 111.. 70
[73]. رابح الزّناتي، المشكلةُ الجزائريّةُ من منظورِ بلديٍّ أصليٍّ، باريس، 1938، ص. 68-69.
Rabah ZENATI, Le problème algérien vu par un indigène, Paris, 1938, p. 68 - 69.
[74]. وهو تضامُنٌ ناقصٌ. اليمينُ الإسرائيلي، وحدَه، هو الذي يشعر بتوافقٍ مع جنوب إفريقيا.
[75]. هيلينْ كارّارْ دُنْكاسّْ و ستيوارتْ شارْمْ، الماركسيّةُ وآسيا، باريس، آرْمَنْدّ كُولِّينْ، 1965، ص. 25-26 و 156-172.
Hélène CARÈRRE D’ENCAUSSE et Stuart SCHARM, Le marxisme et l’Asie, Paris, Armand Colin, 1965, p. 25 - 26 et 156 - 172.
[76]. رايْمونْدْ لُوراگِي، تاريخ الاستعمار، من الاكتشافات الكبرى إلى حركات الاستقلال، فارْفيِي، مارابُو، 1967.
Raimondo LURAGHI, Histoire du colonialisme, des grandes découvertes aux mouvements d’idépendance, Verviers, Marabout, 1967.
[77]. «الدُّون (القويّ) والدّيانْ (مَرَزّة، حقل الرزّ). كان الصّينيّون، أيضًا، قد استعملوا هذا الأسلوبَ، قبل ذلك، خلال اندفاعتهم نحو الجنوب، وقد كان النهجُ الفيتنامي استنساخًا للنّموذج الصّينيّ السّابق. الملاحظة والتّنويه لـ برْنارْ فالِي، الفيتنامان، باريس، پايُو، 1967، ص. 23-24.
Bernard FALL, Les deux Vietnam, Paris, Payot, 1967, p. 23 - 24.
[78]. لقد أفادتِ الهجرةُ نحو العالَمِ الجديد الأوروبّيّن كمنفسٍ خلال الطّفرة الدّيموغرافية التي شهدتها أوروبا في القرن التّاسع عشر. لا تملك الشّعوب المتخلّفةُ الحاليّةُ مثل ذلك المنفس، لتحلّ به مشكلة الانفجار الدّيموغرافيّ الذي تعاني منه أكثر ممّا عانت أوروبا وقتها.
[79]. الاستعمارُ الدّاخليّ: هو نوعٌ من الاستعمار تنظّمه الدّولةُ من خلال مواطنينها أو مهاجرين أجانب مُرخَّصٍ لهم وغالبًا ما تنتدبهم الدّولةُ نفسُها. هكذا قام ملوكُ بروسيا والنّمسا وروسيا باستعمار (إعمار / (colonizer مقاطعات بلدانهم قليلة السّكّان في القرن الثّامن عشر.
[80]. بشكلٍ عامٍّ، إنّ المستعمراتِ الاسميّةَ، والأراضيَ المستعمرةَ بالكاد، وبالأحرى تلك غيرَ المستعمرةِ بالمرّة مثل الهند، وشمالَ إفريقيا وبشكل خاصٍّ الجزائر، كانت مستعمرةً جدًّا بما لا يسمح بأنْ يتمّ «التّحرّر من الاستعمار» فيها بشكلٍ سلميٍّ، لكنْ لا بالقدر الكافي الذي يُمكّن من تجنّب حدوثه. المستعمراتُ الأقلّيّةُ مثل جنوب إفريقيا تبقى معرّضةً لهذا المصير. بينما المستعمراتُ الأغلبيّةُ لا تخشى شيئًا، إلّا إسرائيل، الأغلبيّة داخل حدودها، لكنِ الأقلّيّةُ في محيطها المعادي لها.
[81]. «إسرائيل، هل هي حقيقةٌ استعماريّةٌ؟»، مقالٌ مذكورٌ سابقًا، م. ن، ص 85.
“Israël fait colonial ?”, art. cité, op.cit., p. 85