العدد 5

العدد 5

رئيس التحرير :

د. هاشم الميلاني

مدير التحرير :

د. عمار عبد الرزاق الصغير

سكرتير التحرير :

د. فرقان الحسيني

 

فهرس المحتويات :

■ الافتتاحية : القوّة الناعمة ودورها في صناعة الاستعمار

د. فرقان الحسينيّ

الحوارات

■ الصّبغةُ الاستعماريّةُ والعلاقاتُ المابعد استعماريّة: «لم يكُنِ الاستعمار سوى معترِضةٍ (ضخمةٍ)»

أشيل مْبَامْبِي

بحوث ودراسات

■  الاستعمار الإيطالي لأرتيريا: دراسةٌ في الأساليب والإكراهات (1883-1885م) 

د. محمد البشير رازقي

■ ثورة تونس المسلّحة ضدّ الاستعمار الفرنسي من الاندلاع إلى الاستقلال 1952-1956 م

د. فيصل جميل

■ الاستعمار الممنهج لمحو الثقافة الإسلاميّة في شمالي نيجيريا 

د. علي محمد الأحمر

■ الاستعمار الديمغرافي للجزائر إستراتيجيّة الهجرة الجزائريّة إلى فرنسا (1905-1962)

د. سميرة بوزبوجة

■ إطلالةٌ تاريخيّة (فكريّةٌ وسياسيّةٌ) على أهمِّ الثـّورات السّورية في مواجهةِ الاستعمار الفَرنسي

د. نبيل علي صالح

قراءات علمية

■ التبشير والاستعمار في الاستشراق الفرنسي لويس ماسينيون ودوره السياسي في الشرق

أ . د . جواد كاظم النصر الله وم.م: آيات عزيز جري

■ قراءةٌ في كتاب الثقافة والإمبرياليّة لـ ( إدوارد سعيد)

م. م: عبد الخالق مرحب

ترجمات

■ التّنمية، هل هي استعماريّة؟

جُـووَاكِـينْ صـابـا

وثائق

■ من قرارات الأمم المتّحدة لتصفية الاستعمار

إدارة التحرير

 

الافتتاحية

القوّة الناعمة ودورها في صناعة الاستعمار

مفهوم القوّة الناعمة الذي وضعه جوزيف ناي في تسعينيات القرن العشرين، يُعدّ من أكثر المفاهيم تأثيرًا في مجال العلاقات الدولية. يشير هذا المصطلح إلى القدرة على التأثير، وجذب الآخرين دون الحاجة إلى استخدام العنف، أو الضغط الاقتصادي، وذلك من خلال أدوات مثل الثقافة، والقيم، والفنون، والتعليم، والدبلوماسية. وعلى الرغم من حداثة ظهور هذا المفهوم من الناحية النظرية، فإنّ استخدام أدواته يعود إلى حقبٍ زمنيّةٍ سابقة، حيث استعانت بها القوى الاستعمارية منذ القرن التاسع عشر لتوطيد سيطرتها على الشعوب. كانت القوّة الاستعمارية تعتمد على ما هو أكثر من الهيمنة العسكرية المباشرة؛ فقد انخرطت في بناء مشروعٍ فكريّ وثقافي بهدف إعادة تشكيل وعي الشعوب المستعمَرة. وبالتالي، أصبحت القوّة الناعمة إحدى الركائز الأساسية التي دعمت ووسّعت نطاق الاستعمار عبر الزمن.

أولًا: آليات القوّة الناعمة في الاستعمار

أ. اللغة والتعليم

ركزت القوى الاستعمارية على إعادة صياغة الهوية الثقافية من خلال التحكّم في اللغة. ففي الجزائر، فرضت فرنسا اللغة الفرنسية لغةً للإدارة والتعليم، ممّا أدّى إلى تهميش اللغة العربية، وحصر استعمالها في النطاق الديني التقليدي. أمّا في الهند، فقد وضع اللورد ماكولي سياساتٍ تعليميّةٍ ترمي إلى تشكيل طبقةٍ من الهنود بمظهرٍ هندي، وعقلٍ إنجليزي؛ لتعمل كحلقة وصلٍ ثقافيةٍ وإداريةٍ بين المستعمِر والشعب المحلّي.

ب. التبشير الديني

شكّلت البعثات التبشيريّة وسيلةً فعّالةً لتكريس القوّة الناعمة في خدمة الاستعمار. ففي إفريقيا جنوب الصحراء، لعبت هذه البعثات دورًا في تهيئة الظروف لاحتلال الأوروبيين، عبر نشر قيمٍ دينيةٍ وأخلاقيةٍ جديدةٍ تُكسب المستعمِر صورة (المنقذ). أمّا في بلاد الشام، فقد قامت بتأسيس مدارس وجامعاتٍ أسهمت في تشكيل نخبٍ ثقافيّةٍ ذات توجّهٍ غربي، ممّا عزّز تأثير الفكر والثقافة الغربيّة في المنطقة.

ج. الإعلام والدعاية

استثمر الاستعمار وسائل الإعلام بذكاءٍ لتشكيل صورةٍ إيجابيةٍ عن ذاته وتشويه سمعة المقاومة. ففي فترة الاحتلال البريطاني لمصر، عمدت السلطات المستعمِرة إلى دعم عددٍ من الصحف المحلية لنشر فكرة أن وجودها يسهم في تحقيق الاستقرار والتنمية. وفي الجانب الآخر، لعب الإنتاج السينمائي البريطاني والفرنسي دورًا رئيسًا في تعزيز صورة المستعمِر كرمزٍ لـلحماية والتحضّر، بينما اختارت أن تصوّر الشعوب التي خضعت للاستعمار كجماعاتٍ بدائيةٍ متخلفة، في محاولةٍ لتعزيز الهيمنة الثقافية والفكرية.

د. صناعة النخب الموالية

اعتمدت القوى الاستعمارية على إعادة إنتاج النخب من خلال إرسال أبناء الزعامات المحلّية إلى الجامعات الأوروبية. هؤلاء، عند عودتهم، أدّوا دورًا محوريًا في إدارة المستعمرات، بل استمر تأثيرهم حتى بعد الاستقلال الشكلي، ممّا أدّى إلى بقاء التبعية الفكرية والسياسية.

ثانيًا: نتائج القوة الناعمة الاستعماريّة

1. تفكيك الهوية الثقافية يتمثّل في استبدال اللغة والثقافة الأصلية بهويّةٍ ثقافيةٍ استعمارية، ممّا يؤدّي إلى طمس الخصوصيات والسمات المميزة للمجتمعات المحليّة.

2. إيجاد أرضية للاستعمار، إذ أبدت بعض النخب المحلّية إعجابًا كبيرًا بالنموذج الغربي، عادّةً إيّاه مثالًا أعلى للتحضّر والتقدم.

3. استمرار الهيمنة بعد تحقيق الاستقلال، وهو مفهوم يُشـار إليه بالاستعمار الجديد[2]، حيث تمكّنت القوى الكبرى من الحفاظ على نفوذها عبر أدواتٍ مثل التعليم الدولي، وسائل الإعلام، المؤسّسات الاقتصادية، والتوسّع الثقافي العالمي.

ثالثًا: القوّة الناعمة في الاستعمار الجديد

على الرغم من انتهاء الاستعمار العسكري المباشر، إلّا أنّ القوّة الناعمة استمرت كأداةٍ فعّالةٍ للهيمنة. يتجلّى ذلك في عدّة مظاهر منها:

• الجامعات العالمية التي تجذب نخبةً من دول العالم النامي، وتقوم بإعادة تشكيل أفكارهم ورؤيتهم للعالم وفقًا لنهجٍ معين.

•وسائل الإعلام العابرة للحدود، مثل صناعة السينما في هوليوود، التي ساعدت بشكلٍ كبيرٍ في ترسيخ النموذج الثقافي الأمريكي كمعيارٍ عالمي.

• المؤسّسات الدولية الكبرى، كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، التي تسوّق خطابًا تنمويًا يُصمم أساسًا لخدمة مصالح الدول الكبرى.

التجارب التاريخية تكشف أنّ القوّة الناعمة لم تكن مجرد أداةٍ مساندةٍ للاستعمار، بل لعبت دورًا محوريًّا في التأثير على الوعي وتثبيت الهيمنة. من خلالها، تمكّن المستعمِر من دفع بعض النخب المحلّية إلى تبنّي قيمه والدفاع عنها، وخلق قبولٍ ضمنيّ للاستعمار تحت مظلّة مشروع (التمدين). هذه الأدوات لا تزال حاضرةً حتى اليوم، ومستمرةً في تأثيرها عبر قنوات العولمة والإعلام والتعليم. وبالتالي، تصبح مواجهة الاستعمار الجديد مرهونةً بمدى قدرة الشعوب على تطوير قوةٍ ناعمةٍ مُضادّةٍ ترتكز على إرثها الثقافي وحضارتها الأصيلة.

يضمّ هذا العدد من (مجلّة الاستعمار) مجموعةً من البحوث التي تتناول قضايا الاستعمار في العالم الإسلامي. يفتتح هذا العدد محاوره بافتتاحية تحمل عنوان (حوار حول الصبغة الاستعماريّة والعلاقات المابعد استعماريّة)، وهو حوارٌ أجراه عزّ الدين حجّي مع المفكّر الكاميروني أشيل مبامبي، بمناسبة منحه الدكتوراه الفخرية من جامعة لوفان الكاثوليكية في أكتوبر 2017. يتناول مبامبي في هذا الحوار قضايا الاستعمار وما بعده، مشيرًا إلى استمرار أشكال الهيمنة الاستعماريّة بصيغٍ جديدة، لا سيّما في القارة الإفريقيّة، إضافةً إلى التأثير العميق الذي خلّفته الحقبة الاستعمارية في الحاضر. كما يتطرّق إلى التحديات الإبستيمولوجية التي تواجه النضالات المناهضة للاستعمار والعنصرية، داعيًا إلى تفكيك البُنى المعرفية الاستعمارية. ويقترح في المقابل أفقًا سياسيًا كونيًا يتجاوز العدالة بين البشر ليشمل مختلف الكائنات الحيّة.

وتضمّن محور (الدراسات والبحوث) خمسة أبحاث:

الأول: يتناول البحث استعمار إيطاليا لأريتريا (1883–1885) بوصفه حالةً تكشف عن تداخل الدوافع الدولية والمحلية في سياق التنافس الاستعماري الأوروبي. فقد سعت إيطاليا، التي توحّدت متأخّرًا، إلى تعويض تأخّرها عبر التوسّع في القرن الإفريقي، خاصّة في أطراف الحبشة. اعتمدت في ذلك على تحالفاتٍ داخليةٍ مع زعماء محلّيين، ودعم الانقسامات القبلية، والتعاون الخارجي مع إنجلترا لكبح أطماع فرنسا ومصر. وظّفت أساليب متعدّدة، منها القوة العسكرية، والدعم المالي، واستغلال الدين، والأنثروبولوجيا الاستعمارية، بهدف فرض السيطرة وترسيخ حضورها. كما راهنت على تحقيق أرباحٍ اقتصاديةٍ من خلال تطوير البنية التحتية والتجارة، بما يتطلّب اندماجًا مع القوى المحليّة.

الثاني: يتناول البحث دور المقاومة المسلّحة في تونس ضدّ الاستعمار الفرنسي، مركزًا على ثورة 18 جانفي 1952 التي جاءت بعد انسداد الأفق السياسي والإصلاحي. ويبيّن أنّ العمل المسلّح لم يكن خيارًا معزولًا، بل كان امتدادًا طبيعيًّا لنضالٍ سياسي ونقابي طويل. كما يستعرض البحث الخلاف اليوسفي–البورقيبي وتداعياته، ويؤكد أنّ تحقيق الاستقلال لم يكن نتيجة المسار السياسي وحده، بل كان ثمرة تلاحم الكفاح المسلّح مع العمل السياسي والشعبي .كما يوضح أنّ الاستقلال التام لم يكتمل بتوقيع المعاهدة فقط، بل تطلّب كفاحًا جديدًا لجلاء القوات الفرنسية، بلغ ذروته في 15 أكتوبر 1963، تاريخ خروج آخر جندي فرنسي من تونس، بفضل نضالٍ مشتركٍ بين الجيش والمقاومة الشعبيّة.

الثالث: الاستعمار الممنهج لمحو الثقافة الإسلامية في شمالي نيجيريا، وهو بحثٌ يستعرض أثر الاستعمار البريطاني على شمال نيجيريا الإسلامية، حيث واجه المستعمر دينًا وحضارةً راسخة. حاولت بريطانيا تفكيك النظام الإسلامي عبر استبدال القانون بالشريعة، ومحاربة اللغة العربيّة، ونشر المسيحيّة، مستغلةً التنافس الأوروبي والدوافع الاقتصادية. وقد تميّز شمال نيجيريا بتماسكٍ ديني وحضاري جعله أكثر مقاومة، بينما اعتمد البريطانيّون على القوّة لإخضاعه.

الرابع: تناول البحث الاستعمار الديمغرافي للجزائر وإستراتيجية الهجرة الجزائرية إلى فرنسا (1905-1962) ونتائجها الاجتماعية، بوصف الهجرة الجزائرية إلى فرنسا بين 1905 و1962، نتيجةً مباشرةً للاستعمار الديمغرافي الفرنسي الذي هدف إلى تفريغ الجزائر سكانيًا لخدمة المشروع الاستيطاني. وقد سلّط الضوء على الدوافع السياسية والاقتصادية والاجتماعية لهذه الهجرة، مع التركيز على دور السياسات الاستعمارية في فرضها. وبيّن أنّ الهجرة لم تكن خيارًا حرًّا، بل نتيجة لظروفٍ قسريةٍ ومخطّطٍ استعماريٍّ ممنهج. كما درس أوضاع المهاجرين الجزائريين في فرنسا من حيث التهميش والتمييز، إلى جانب الظواهر الاجتماعية التي رافقتهم مثل صراع الهوية والزواج المختلط. وأبرز البحث الانعكاسات السلبية للهجرة على المجتمع الجزائري، خاصّة على مستوى البنية الأسرية والثقافية، وربط بينها وبين تنامي الوعي الوطني وظهور الحركات التحرّرية. وخلص في النهاية إلى أنّ الاستعمار استعمل الهجرة أداةً لإعادة تشكيل ديمغرافية الجزائر ضمن إطار مشروعٍ استعماريّ شامل.

الخامس: تناول البحث (إطلالة تاريخية (فكرية وسياسية) على أهم الثورات السورية في مواجهة الاستعمار الفرنسي: مقاربة في الأسباب والنتائج والمآلات العملية)، فقد بدأ الاستعمار الفرنسي لسوريا عقب الحرب العالمية الأولى، حيث بدأت السيطرة الفعلية بدخول القوات الفرنسية إلى الساحل السوري عام 1918، ثم إلى دمشق عام 1920 بعد معركة ميسلون. وقد رفعت فرنسا في البداية شعارات التحديث والإصلاح، لكن سرعان ما تكشّفت الأهداف الحقيقية للاحتلال، والمتمثّلة في بسط النفوذ السياسي والعسكري، والسيطرة على الموارد.

وفي هذا العدد، تتوزع الموادّ على مجموعةٍ من المحاور والبحوث المتنوعة:

في محور القراءات العلميّة، نجد دراستين بارزتين:

الأولى بعنوان (التبشير والاستعمار في الاستشراق الفرنسي: لويس ماسينيون ودوره السياسي في الشرق، 1916-1917م)، وهي قراءةٌ تحليليةٌ في أبعاد الدور المزدوج للمستشرق الفرنسي بين المعرفة والسياسة.

والثانية (قراءة في كتاب الثقافة والإمبريالية لإدوارد سعيد)، وهي قراءة تسلّط الضوء على نقد سعيد للعلاقة بين الثقافة الغربية ومشاريع الهيمنة الاستعمارية.

أما في محور الترجمة، فقُدَّمت ترجمةً مهمّةً بعنوان (التنمية: هل هي استعمارية؟)، وهي تساؤلٌ نقديٌّ يُعيد النظر في الخطابات التنموية من زاويةٍ ما بعد استعمارية.

وفي محور النصوص المستعادة، يُعاد نشر نصٍّ وثائقي تحت عنوان (من قرارات الأمم المتّحدة لتصفية الاستعمار)، في استحضار لذاكرة النضال الأممي ضدّ الاحتلال.

ويُختَتم العدد بهذا النصّ، ليُغلق ملف هذا الإصدار برؤيةٍ تحليليّةٍ توثّق صراع الشعوب في سبيل تقرير المصير.

وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ